الإبتلاء سنة إلهية على بساط العبودية / الصفحات: ١ – ٢٠
مقدمة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأصلي وأسلم على حبيبنا ورسولنا محمد وأهل بيته الأطهار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذا بحث يتعلق بموضوع الإبتلاء، وهو من سلسلة أبحاث من كتابي الجديد (نظرات المستبصرين في تراث أهل البيت)، ولأهمية الموضوع رأيت أن أجعله في كتاب منفصل زيادة في الفائدة.
كما أنني لا أدعي الإحاطة، ولا أقصد التطاول على علمائنا الأجلاء، وإنما إحياء لأمر أهل البيت عليهم السلام، حتى أدخل في زمرة المرحومين الذين يحيون أمر رسول الله وأهل بيته المعصومين الطاهرين، وحتى أقدم شهادة تكون عنوان محبة وولاء، ووفاء واقتداء، وتعريفا لمقامهم السامي على العباد.
سائلا المولى عز وجل أن يرزقني والمؤمنين زيارتهم في الدنيا، ورضاهم وشفاعتهم في الآخرة، وأن يوردنا حوضهم حتى نشرب منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا إنه نعم المجيب.
د. ص. الحسيني
٢٧ / ٧ / ٢٠٠٥
الإبتلاء سنة إلهية على بساط العبودية
يتساءل الناس عادة عن الإبتلاءات وأنواعها وحقيقتها، وما علاقة الإبتلاء بالفتنة؟ وماهي دلالة الإبتلاءات على القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى؟.
أما السؤال المهم في هذا البحث المختصر فهو لماذا أكثر ما يكون الإبتلاء عند الرسل والأنبياء والأئمة من أهل البيت وأتباعهم؟. ولماذا اختص أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم والمؤمنون الصالحون من أمة محمد صلى الله عليه وآله
بالإبتلاء؟. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن أئمتنا من أهل بيت الرحمة والعصمة عشرات الروايات تشير إلى ذلك المعنى.
فقد روى أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل يبتلي العبد على قدر إيمانه فإن كان صلب الإيمان شدد عليه البلاء. وإن كان في إيمانه ضعف خفف عنه البلاء).
وقد أخرج الحاكم في المستدرك و ابن أبي شيبة وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اغرورقت عيناه وتغير لونه، فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه فقال: “إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤوها قسطا كما ملؤوها جورا، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج).
وروى في فتح الباري والسيوطي والمناوي في فيض القدير وغيرهم عن عدد من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال – ما أوذي أحد ما أوذيت.
فالنبي محمد والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، هم حجج الله على عباده، وهم المصطفون الأبرار وهم أفضل خلق الله، فلماذا تعرضوا إلى الظلم والأذى وجميع أنواع الإبتلاءات؟ وما علاقة الإبتلاء بهم وبنا؟ وما أثر الإبتلاء عليهم وعلينا؟ وما الذي يجب أن يكون عليه موقفنا تجاه ابتلاءاتهم ومظلومياتهم؟.
والذي دفعني للبحث في الإبتلاء، هو أنه وعلى مر تاريخنا الإسلامي، لم يكن أحد أكثر ابتلاءً وتعرضا للظلم والتطريد والتشريد من أهل البيت وأتباعهم وشيعتهم، كان ذلك منذ انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وأتصور
أن ذلك صار يدركه كل من يقرأ التاريخ بإنصاف أو يتابع المحطات الفضائية وبشكل يومي.
لقد ذكر أئمتنا من أهل بيت النبوة والعصمة سلام الله تعالى عليهم وقالوا (ما منا إلا مسموم أومقتول). ولو راجع المسلم المنصف تاريخ الإسلام والمسلمين، لعرف بعضا مما تعرض له رسول الله وأهل بيته من الظلم والأذى والإضهاد، ويكفي أن نتذكر مصيبة الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره، حيث ظلموا وقتلوا في كربلاء وسلبوا وسبيت نساؤهم، وليس البحث لسرد مظلوميات أهل البيت عليهم السلام، فهناك أبحاث متخصصة في هذا المجال يستطيع القارئ أن يراجعها ويرجع إلى كتابنا سبيل المستبصرين.
ومن أجل البحث في هذا الموضوع، فإنه لابد من الدخول في شرح ولو باختصار لبعض المصطلحات والمفاهيم الشرعية التي تنبثق عنها قضية الإبتلاءات، لأنها كلها مرتبطة ببعضها.
كما أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة معنى الإبتلاء وأنواعه ونتائجه، والإجابة على التساؤلات المطروحة بدون تقديم طرح عن العبودية لله تعالى وأوصافها، والربوبية وحقوقها وبعض الأمثلة عليها من الشريعة المقدسة، وكذلك بحث معاني الفتنة والتمحيص والإختبار والإستدراج وما يتعلق بتلك المفاهيم، إذ لا يمكن تجريد معنى الإبتلاء وحقيقته عن كل تلك المعاني.
ولذلك كان لابد من التفصيل فيها عند وجود الضرورة لذلك، ولو بتفصيل مختصر يفي بالغرض المطلوب. فلا تستغرب عزيزي القارئ عند قراءة العنوان أو عند تداخل القضايا مع بعضها والتي تبدو وللوهلة الأولى وكأنه ليس لها علاقة في بحث الإبتلاء.
مفهوم الإبتلاء:
أما بالنسبة لمعرفة الإبتلاء ومعناه وحقيقته ونتائجه وأنواعه، وهو المهم في هذا البحث. فالإبتلاء والبلاء هو الإمتحان والإختبار، ويكون الإبتلاء في الخير والشر، قال تعالى{ونبلوكُم بالشَّرّ والخير فتنةً}.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية: ١٢٦{أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}.
وقال تعالى في سورة العنكبوت الآيات: ١ – ٣{الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.
وقال تعالى في سورة النحل الآية ٩٢{إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}.
وقال تعالى في سورة المائدة الآية ٤٨{ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات}.
وقال تعالى في سورة الملك. الآية: ٢{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}.
وقال تعالى في سورة الأنفال. الآية: ٢٥{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}.
وقال تعالى في سورة الأنفال الآية٢٨{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}.
وقال تعالى في سورة الأنفال الآية: ٧٣{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
وكما ترى فإن كلمة الإبتلاء والبلاء في الآيات الشريفة مرتبطة بكلمة الفتنة، وهما تحملان نفس المعنى وهو الإختبار والإمتحان، ولكن الفرق بين الإبتلاء والفتنة، هو أن كلمة الإبتلاء تعني واقع الإبتلاء وحاله، أما الفتنة فهي النتيجة المنيثقة عن الإبتلاء، وعليه فإن معنى الإبتلاء هو حال وواقع الإبتلاء والفتنة هي النتيجة له. والآيات مرة تطرح الفتنة مقترنة بالإبتلاء في نفس الآية، ومرة نجد كلمة الفتنة لوحدها، ومرة كلمة الإبتلاء لوحدها.
وكما قلنا فإن الفتنة هي نتيجة الإمتحان والإختبار التي ربما تكون استدراجا وبعدا عن الله تعالى، وربما تكون نجاحا وترقية ومزيد قرب من الله، وأما الإبتلاء فهو حال وواقع الإبتلاء من جميع نواحيه.
قال تعالى في سورة آل عمران الآية ١٤{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.
وأما بقية الناس الذين يرغبون في الآخرة ويستعدون لها فهم في حالة صراع ونزاع مع الدنيا والنفس وهو ما أطلق عليه النبي الأكرم وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام المجاهدة والجهاد الأكبر.
روى السيوطي في الجامع الصغير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لقوم رجعوا من الجهاد قال- قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: مجاهدة العبد هواه.
فالمجاهدة هي محاولة تغيير مسار حياة العبد من النزوع إلى الدنيا، والتوجه في السلوك إلى الآخرة عن طريق تقييد النفس وشهواتها وأهوائها بقيود شرعية ربانية، وهو ما يسميه العلماء العارفون بالله بالتحلية والتخلية، أي
تحلية النفس بالصفات والأخلاق الإسلامية الفاضلة، وتخليتها من كل خلق وسلوك مذموم ذمه الشارع المقدس وحذر منه رسول الله والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
ومع وجود النية الصادقة والإرادة الصالحة، والعزيمة القوية، والإخلاص لله تعالى، ومتابعة الرسول الأكرم وأهل بيته المعصومين والإقتداء بهديهم، فإن الله تعالى يوفق لتلك المجاهدة، وينير للعبد طريقه ويهديه إلى الصراط المستقيم، قال تعالى في سورة العنكبوت. الآية: ٦٩{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
ولذلك كانت الإبتلاءات وبشكل عام، تزعج الإنسان وتذكره بأن هذه الدار دار فناء لا دار بقاء، وتذكره بربه ومصيره وآخرته.
فعادة ما يكون الإبتلاء بما يخالف رغبات النفس وغرائزها وحاجاتها من كل تلك الأنواع التي ذكرناها. ولكنها إذا نزلت بما يتوافق مع رغبات النفس وشهواتها، كانفتاح الدنيا وزينتها وزخرفها، فإن ذلك ربما يكون استدراجا للعبد ولذلك يستشهد المستدرجون من الناس بقول يرفعونه أمام كل من يعترض على سلوكهم وأفعالهم، وهذا القول المشهور هو (لولا أنني على حق ما أعطاني الله النعمة) وقول آخر يعشش في أذهانهم يرددونه عند حصول مخالفة عند الآخرين فيتغاضون عن قبح أفعالهم وسوء سلوكهم بقولهم (نحن أولياء بالنسبة إلى الناس) ولا يلتفت إلى قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) ولذلك كان من الواجب على العبد أن يدرك ماهية تلك المفاهيم كالإبتلاء والتمحيص والفتنة والإختبار والإستدراج وغير ذلك، حتى إذا مانزلت به نازلة من تلك النوازل، فإنه يستطيع أن يتصرف التصرف الشرعي اللائق، على نور وبصيرة من ربه.
أركان الإبتلاء:
إن على العبد المؤمن الذي يرجوا رحمة ربه ورضوانه أن يتذكر دائما أربع قضايا أساسية يرتكز عليها الإبتلاء وهي: _ أولا: معرفة المبتلي والممتحن.
وثانيا: معرفة المبتلى من زاوية العبودية.
وثالثا: كيف يتصرف العبد المبتلى أثناء الإبتلاء.
ورابعا: نوع الإبتلاء ونتائجه.
من هو المبتلي والممتحن؟
أما بالنسبة إلى المبتلي والممتحن فهو الله تعالى، خالقنا وبارئنا، الذي له الأمر والخلق، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ربنا وسيدنا ومولانا، الذي يعلم كل شيء، ويعلم ما ينفعنا ويصلحنا، ويضرنا وينفعنا، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، فقد نسب الإبتلاء إلى نفسه من خلال الآيات القرآنية الشريفة قال تعالى في سورة النحل الآية ٩٢{إنما يبلوكم الله به}وقال تعالى في سورة الأنعام الآية ١٦٥{وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}. وقال تعالى في سورة الملك الآية ٢{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}. وقال تعالى في سورة محمد الآية٣١{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}. وقال تعالى في سورة آل عمران الآية ١٥٤{وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم}. وقال تعالى في سورة البقرة الآية٢٤٩{إن الله مبتليكم بنهر}. وهناك آيات أكثر مما ذكرت تدل على ما ذهبنا إليه.
وبناء على ذلك فإن الله تعالى جعل الثواب والعقاب في الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، فليست الدنيا دار جزاء للمؤمن ولا دار عقاب للكافر، فكانت دار امتحان واختبار قدر الله تعالى لها ذلك، حتى تكون محل عمل يعمل فيها العبد ويبنى لآخرته، أو ينسى نفسه فيها ويظن أنها دار مقر. فقد جعلها الله دارا يشهد فيها العبد على حقيقة ذاته وأعماله ظاهرها وباطنها.
روى في كنز العمال والديلمي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا أيها الناس، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ودار ترح لا دار فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشدة، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها واحذروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين ولعقوبته مستحقين).
قال الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة (إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة).
وروي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال – لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة.
وروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه سئل: من أعظم الناس خطراً؟ فقال (عليه السلام): (من لم ير الدنيا خطراً لنفسه).
ثانيا ـ العبد المبتلى:
وأما المبتلى فهو العبد الجالس على بساط العبودية لله تعالى، قال تعالى في سورة الذاريات. الآية: ٥٦{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ولذلك كانت العبودية لله أساس وجود وحياة العبد في الدنيا، يتلقى من ربه كل ما يصلح له وينفعه في رحلته الدنيوية. فإذا عرف الإنسان أنه عبد فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.
مفهوم العبودية لله:
ذكر العارفون بالله تعالى أن العبودية جوهرة كنهها الربوبية. وهذا يعني أن للعبودية أركان وأسس، من أدركها وفهمها وأسس عبوديته عليها، فإنه حتما سوف يصل إلى معرفة حقيقة وجوده والمراد منه.
فالعبودية لله تعالى هي التذلل والافتقار للواحد القهار مالك الحكم والاختيار، وهي الإستسلام والإنقياد لله تعالى في كل حال.
وهذه المعاني تقتضي منا معرفة أوصاف العبودية حتى يتحقق بها العبد، وأهم تلك الأوصاف، هي الضعف والجهل والذل والفقر من العبد بين يدي ربه وسيده، فمن تحقق بها وما يبتنى عليها من أوصاف، يكون قد حقق معنى العبودية في ذاته وسلوكه.
ويقابل كل صفة من صفات العبودية صفة من صفات الربوبية لا يجوز للعبد أن يتجاوزها أو يتعدى عليها فالذل والفقر من أوصاف العبودية يقابلهما العز والكبرياء من أوصاف الربوبية فقد روى أحمد والحاكم والنسائي وابن ماجة ومسلم في صحيحه عن ابن عباس وغيره الحديث القدسي قال _ قال الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته. وفي لفظ آخر – ألقيته في جهنم.
وإذا نظرنا إلى صفات الله، وأخذنا كل صفة من صفات الربوبية فإن عكسها يكون للعباد، فهو الخالق ونحن المخلوقين وهو الرب ونحن العبيد وهو الملك ونحن المملوكون وهو الغفار ونحن المذنبون وهو العليم ونحن الجهلاء، وهكذا بقية الصفات.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذه المعاني وبشكل صريح في القرآن الكريم، نذكر عددا من الآيات الشريفة توضح ذلك.
قال تعالى في سورة فاطر الآية: ١٥{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}. فنحن الفقراء وهو الغني.
وقال تعالى في سورة هود الآية ٦٦{إن ربك هو القوي العزيز}. فهو عز وجل القوي العزيز ونحن الضعفاء الأذلاء.
وقال تعالى في سورة النساء الآية١٣٩{الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
وقال تعالى في سورة البقرة الآية ٢١٦{عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. فهو العالم ونحن لا نعلم.
ومن تمعن في آيات القرآن الكريم فإنه يجد مئات الآيات التي تبين أوصاف الربوبية وأوصاف العبودية، ولذلك فإن العبد المؤمن الصالح الذي يعمل على تحقيق أوصاف العبودية يستمد قوته من الله القوي ويعالج فقره بالله الغني، ويستمد علمه من الله العالم، ويرفع ذلته بالله العزيز، فهو غني بالله قوي بالله عزيز بالله عالم بالله قال تعالى في سورة البقرة الآية ٢٨٢{واتقوا الله ويعلمكم الله}.
وعليه فإن على العبد أن يجلس على بساط العبودية في هذه الحياة ويعمل على أن يتحقق بما منحه الله من أوصاف، حتى يتأكد معنى الصلة بين العبد وربه، ويتجسد معنى العبودية عند أداء العبد العبادات كالصلاة والحج والصيام والدعاء والتضرع والمناجاة وغيرها من الطاعات كالزكاة والصدقات بالكيفية التي علمنا الله إياها. فإذا حقق العبد من خلال العبادة، التخشع والتذلل والخضوع والفقر وأداها لله خالصة، كان من جناب الربوبية القبول والمدد بالعزة والقوة، وكانت الصلة بالله أقوى وأوثق. فكلما كان التحقيق بأوصاف العبودية أقوى كانت الصلة بالله أوثق والقبول والإستجاية أوكد. قال تعالى في سورة غافر الآية ٦٠{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. وربما يدرك العبد معنى العبودية أكثر كلما كانت الضرورة لحاجات الحياة أكثر وأشد، فلو أخذنا مثلا من العبادات صلاة الإستسقاء، عند انحباس المطر وفقد عنصر من أهم عناصر الحياة، فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا
وقال تعالى في سورة النساء. الآية: ٥٩{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.
روى الطبري والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم كثير عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بني عبد المطلب! إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا وقلت: يا نبي الله! أكون وزيرك عليه؟ فأخذ برقبتي ثم قال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية ٥٩{ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون}.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية ٧٤{وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله}.
وقال تعالى سورة البقرة الآية١٥١{كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}. أي أنه تعالى فوض أمر تعليم العباد وتزكيتهم لرسوله صلى الله عليه وآله، جعله المصدر لذلك والواسطة بيننا وبين ربنا، والوسيلة للوصول إليه.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية ١٠٥{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}. وهذه تدل على أن أعمالنا مراقبة في ظل رؤية الله لنا ومتابعة الرسول والأئمة المعصومين لأعمالنا.
وقال تعالى في سورة الأحزاب. الآية: ٣٦{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}. جعل الله قضاءه وقضاء رسوله واحدا، وعصيان العباد لقضاء رسول الله هو نفس عصيان قضاء الله تعالى.
وقال تعالى في سورة الفتح الآية ١٠{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}.
وقال تعالى في سورة البقرة الآية ٢٧٩{فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}. أي حرب رسول الله هي حرب الله نفسها. وهناك عشرات الآيات غير التي ذكرنا، تدلل بشكل واضح وصريح على أن العبودية لله تعالى تمر من خلال طاعة رسول الله وأهل بيته الطاهرين المعصومين، كما أن الأحاديث النبوية الصحيحة المتعلقة بطاعة وولاية أهل البيت أكثر من أن تحصى في مصادر كل طوائف المسلمين.
روى الحاكم في المستدرك عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن أطاع عليا فقد أطاعني، ومن عصى عليا فقد عصاني. ورواه في كنز العمال.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى ذكر أهل البيت عبادة، وفرض على المسلمين الصلاة على رسول الله بشرط أن يذكر أهل البيت عليهم الصلاة والسلام معه، كما أنه تعالى اسمه جعل النظر إلى وجوههم عبادة.
فقد روى السيوطي في الجامع الصغير، والديلمي في مسند الفردوس عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ذكر علي عبادة). ورواه في كنز العمال، وروى الطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك عن عمران بن الحصين وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (النظر إلى وجه علي عبادة). ورواه ابن عساكر، وفي مجمع الزوائد، وابن حبان. والحديث ورد من رواية أحد عشر صحابيا بعدة طرق وتلك طرق عدة التواتر.
مصير من ترفع عن العبودية وتطاول على الربوبية:
ولنعد إلى موضوع العبودية وأوصافها، ونضرب بعض الأمثلة من القرآن والسنة حتى يتضح المعنى ويتوضح.
فإذا ادعى إنسان القوة التي اختصها الله لنفسه، وجعلها من أوصاف الربوبية ولا تصلح للعبد إلا إذا كانت بالله ومن الله، فلو ادعاها عبد ضعيف ولم يستمد قوته من الله القوي العزيز، فإنه يضع نفسه في موضع لم يرضاه الله له، لأنه
بالأصل ضعيف، وأنى له القوة إذا لم تكن من الله مالك القوة جميعا، وبالتالي فإن ذلك العبد سوف يخرج عن معنى العبودية لله ويدعي الربوبية لنفسه، ثم يكون مصيره أن يؤكد الله تعالى له ضعفه وعجزه ويقصمه ثم يلقي به في جهنم، وهذا ما حصل مع الطاغية فرعون، الذي ادعى القوة لنفسه ثم تطور إلى التجرؤ على رب العزة، وادعاء الربوبية والتأله على العباد، فأهلكه الله تعالى بعد أن كشف ضعفه وفقره وذلته. وهذا يبشر بمصير كل الطواغيت في هذا العصر، الذين يدعون التفرد بالقوة ويتسلطون على خلق الله وعباده المؤمنين بالظلم والقهر والأذى، فتلك نهاية محتومة لمن خرجوا عن عبوديتهم لله، وفطرتهم التي فطرهم الله عليها.
قال تعالى في سورة النازعات الآية ١٥ – ٢٦{هل أتاك حديث موسى، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، اذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى، فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}.
وقال تعالى في سورة القصص{وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين، واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}.
وكذلك لو ادعى عبد الغنى الذي لا يصلح للعبد إلا بالله، فإنه يخرج عن حقيقته البشرية، فنحن الفقراء إلى الله وهو تعالى الغني. فالإنسان مهما امتلك في هذه الدنيا الفانية، ووصل إلى أعلى حالات الغنى والتملك، فإن ذلك لا يخرجه عن حقيقة فقره وحاجته إلى الله تعالى ومدده. فإذا خرج عن أصله ولم يستمد غناه من الله، فإنه سوف يدعي التفرد بالغنى ويدعي ما ليس له، ومن ادعى ما ليس له فضحته شواهد الإمتحان، وسوف يكون مصيره مثل مصير قارون
الذي ادعى الغنى لنفسه، ولم ينسبه إلى الله تعالى، ولم يعترف بالعبودية لله، فخسف الله به وبماله الأرض، ليكون عبرة لكل من يتفرد بالغنى ويدعيه لنفسه ويخرج عن طور العبودية لله الغني الحميد، وهذا يبشر بمصير المتجبرين الذين يتلاعبون في أرزاق عباد الله المؤمنين، ويظنون أنهم هم الذين يرزقون الناس ويتفضلون عليهم بالإنتعاش الإقتصادي والرفاهية ولو على حساب العبودية لله تعالى.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص الآيات: ٧٦-٨٢{إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين، قال إنما أوتيته على علم عندي، أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون، فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون، فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون}.
وقال تعالى قي سورة العنكبوت. الآية: ٣٩ – ٤٠{وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين، فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
وقال تعالى في سورة فصلت الآية ١٣ – ١٦{فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم
ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون، فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون، فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون}.
وقال تعالى في سورة العلق{كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى}.
تلك كانت بعض الأمثلة على من ادعى ما ليس له من أوصاف الربوبية التي لا تنبغي للعباد، فظلموا أنفسهم وعتوا وتجبروا واستكبروا على العبودية، وتطاولوا على مقام الربوبية، فكانت النتيجة أن أهلكهم الله تعالى. بعد أن أظهر ضعفهم وعجزهم وخستهم وذلتهم، حتى يكونوا عبرة لكل من يخرج عن مقام العبودية لله تعالى.
عبودية الأنبياء والأوصياء:
ومن المناسب أن نذكر عن العبد المؤمن الصالح نبي الله سليمان عليه السلام الذي ملكه الله تعالى الأرض ومن عليها وآتاه ملكا عظيما، فلم يزيده كل ذلك إلا عبودية وطاعة لله تعالى.
قال تعالى في سورة النمل الآيات ٣٦-٤٠{فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}.
إن تصرفات وسلوكيات العبد المؤمن المطيع لله تعالى، تكون دائما من منطلق العبودية لله تعالى، ويعتبر ذلك شرف عظيم منحه الله إياه، ولذلك مدح الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وآله بالعبودية فقال في سورة الإسراء
الآية ١{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}.
يقول الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه: إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.
ويقول الأمام علي عليه السلام مناجيا رب العزة_ إلهي ما عبدتك – حين عبدتك – خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
ويقول الإمام الصادق عليه السلام في زيارة جده الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين: وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة.
إذ أن أعلى شرف للإنسان أن يكون عبدا لله تعالى على بساط العبودية متحققا بأوصاف العبودية قائما بحقوق الربوبية متبعا لأوامر الله كلها مطيعا مستسلما له، من الإيمان بالله تعالى وبنبوة محمد وإمامة علي والأئمة من ولده الذين اجتباهم الله واختارهم هداة لعباده، وهذا كله لمن يدرك أنه عبد لله عليه السمع والطاعة لربه من على بساط العبودية حتى تصح وتصلح الصلة بينه وبين ربه. ولذلك تجد العبد المؤمن المؤدب بآداب ربه دائما يردد أنا فقير إلى الله محتاج إلى الله، غني بالله عزيز بالله، قوي بالله عالم بالله، لأن الله تعالى هو الذي يمد عبده بالقوة والعزة والعلم والغنى وما إلى ذلك من أوصاف كريمة.
لقد جسد النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين المعصومين معنى العبودية وتحققوا بكامل أوصافها، وأدوا حقوق الربوبية لله تعالى فكانوا مطهرين معصومين كما أخبر عنهم القرآن الكريم في آية التطهير، قال تعالى في سورة الأحزاب{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.
روى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقلت له: لم تصنع هذا يا رَسُول اللَّهِ وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال – أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في التفكر وابن المنذر وابن حبان في صحيحه وابن مردويه والأصبهاني في الترغيب وابن عساكر عن عطاء قال “قلت لعائشة أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: وأي شأنه لم يكن عجبا! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال: ذريني أتعبد لربي. فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى. فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدا شكورا.
وأما عبودية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء والأمام الحسن والإمام الحسين سلام الله تعالى عليهم جميعا، فكانت استسلاما كاملا لله تعالى في جميع نواحي الحياة، فقد نذروا أنفسهم لله تعالى، ويكفيهم شرفا سورة الدهر التي نزلت في حقهم قال تعالى في سورة الدهر{إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}.
قال الإمام الحسن بن علي عليه السلام يصف حالة من حالات العبودية للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قال- رأيت أمي فاطمة الزهراء عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعة، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعوا للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم ولاتدعوا لنفسها بشيء، فقلت لها يا أماه لم لاتدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت يابني الجار ثم الدار.
وقال الحسن البصري- ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة الزهراء عليها السلام، كانت تقوم حتى تورمت قدماها.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: “لقد دخل الإمام أبوجعفر الباقر عليه السلام على الإمام السجاد علي بن الحسين ـ فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة،