الإحتجاج (ج1) / الصفحات: ١ – ٢٠
يأتي في أثناء كلامهم كلام جماعة من الشيعة، حيث تقتضي الحال ذكره ولانأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه أو موافقتهلما دلت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف، إلا ماأوردته عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال ليس في الاشتهار على حد ما سواه،وإن كان مشتملا على مثل الذي قدمناه، فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول جزءمن ذلك دون غيره لأن جميع ما رويت عنه عليه السلام إنما رويته بإسناد واحد منجملة الأخبار التي ذكرها عليه السلام في تفسيره ” (١).
ولقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات في إيران والنجف، غير أن هذه الطبعة التيبين أيدينا – وهي من نتاج مطبعة النعمان الغراء – قد تميزت عن سابقاتها بمميزات هامة.
أولا – من حيث التعليق والفهرسة:
فقد تصدى الأخ الفاضل السيد محمد باقر الخرسان لتحقيقها والتعليق عليها،وترجمة الأعلام الواردة فيها، وشرح الكلمات اللغوية، ووضع فهارس لها بالإضافةإلى تقسيمها جزئين. الأمر الذي دل على قابلية الأخ الخرسان في مضمار التحقيقوالتعليق، والجهد الذي صرفه في هذا الكتاب، والذي يبشر عن مستقبل زاهر يبعث بالأملوالتقدير وإني أرجوا مخلصا له ذلك.
ثانيا – من حيث الاخراج والطباعة:
وفي هذا المضمار أقدر للأخ الأديب حسن الشيخ إبراهيم صاحب مطبعةالنعمان اهتمامه الكبير في إخراج هذا الكتاب بهذه الحلة القشيبة، والطباعة الأنيقةوالتي يتجلى فيها كل مظاهر الخدمة الصادقة، والاخلاص العميق في إبراز هذهالكتب بصورة تتناسب وهذا العصر الذي تقدمت فيه كل الأمور إلى الأحسن.
وفي الختام ادعوا الله عز وجل أن يوفق المعلق والناشر لخدمة الدين الإسلاميويأخذ بيدهما إلى ما يصبوان إليه من الجزاء الأوفر من محمد صلى الله عليه وآله وعلي وأنجالهالغر الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا. وهو المسدد للصواب.
محمد السيد علي بحر العلوم
النجف الأشرف في ١٨ / ١٢ / ١٣٨٥
(١) الاحتجاج: ٤
الحمد لله المتعالي عن صفات المخلوقين، المنزه عن نعوت الناعتين، المبرأمما لا يليق بوحدانيته، المرتفع عن الزوال والفناء بوجوب إلهيته، الذي استعبدالخلائق بحمد ما تواتر عليهم من نعمائه، وترادف لديهم من حسن بلائه، وتتابعمن أياديه وعواطفه، وتفاقم من مواهبه وعوارفه، جم عن الاحصاء عددها،وفاق عن الإحاطة بها مددها، وخرست ألسن الناطقين بالشكر عليها عن أداء ماوجب من حقها لديها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة يثقل بها ميزان العارفينوتبيض بها وجوههم يوم الدين، وأشهد أن محمدا عبده المصطفى ورسوله المجتبىخاتم الرسل والأنبياء وسيد الخلائق كلهم والأصفياء، وأن وصيه علي بن أبيطالب عليه السلام خير وصي وصي وخير إمام ولي، وأن عترته الطاهرة خير العترة الأئمةالهادية الاثنا عشر أمناء الله في بلاده وحججه على عباده، بهم تمت علينا نعمتهوعلت كلمته، اختارهم للبرية إظهارا للطفه وحكمته وإنارة لأعلام عدله ورحمتهفانزاحت بهم علة العبيد، وزهق باطل كل مستكبر عنيد، بأن عصمهم من الذنوبوبرأهم من العيوب حفظا منه للشرائع والأحكام، وسياسة لهم وهيبة لأهل المعاصيوالآثام، وزجرا عن التغاشم والتكالب، وردعا عن التظالم والتواثب، وتأديبا بهملأهل العتو والعدوان، ودفعا لما تدعو إليه دواعي الشيطان، ولم يهملهم سدى بلاحجة فيهم معصوم إما ظاهر مشهور أو غائب مكتوم، لئلا يكون للناس على اللهحجة بعد الحجة، ولا يلتبس عليهم في دينه المحجة، ولم يجعل إليهم اختياره لعلمهبأنهم لا يعلمون أسراره، ولأنه عز وجل متعال عن فعل شئ لا يجوز عليه مثلتكليف ما لا يهتدي العباد إليه، وقد نزه نفسه عن أن يشرك به أحدا في الاختيار
حيث قال: ” وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ” سبحان الله تعالىعما يشركون.
ثم إن الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب عدول جماعة من الأصحاب عنطريق الحجاج جدا وعن سبيل الجدال وإن كان حقا، وقولهم: ” إن النبي صلىالله عليه وآله والأئمة عليهم السلام لم يجادلوا قط ولا استعملوه ولا للشيعة فيه إجازة بلنهوهم عنه وعابوه “، فرأيت عمل كتاب يحتوي على ذكر جمل من محاوراتهم فيالفروع والأصول مع أهل الخلاف وذوي الفضول، قد جادلوا فيها بالحق من الكلاموبلغوا غاية كل مرام، وأنهم عليهم السلام إنما نهوا عن ذلك الضعفاء والمساكين من أهلالقصور عن بيان الدين دون المبرزين في الاحتجاج الغالبين لأهل اللجاج، فإنهمكانوا مأمورين من قبلهم بمقاومة الخصوم ومداولة الكلوم، فعلت بذلك منازلهموارتفعت درجاتهم وانتشرت فضائلهم. وأنا ابتدئ في صدر الكتاب بفصل ينطويعلى ذكر آيات من القرآن التي أمر الله تعالى بذلك أنبياءه بمحاجة ذوي العدوانويشتمل أيضا على عدة أخبار في فضل الذابين عن دين الله القويم وصراطه المستقيمبالحجج القاهرة والبراهين الباهرة، ثم نشرع في ذكر طرف من مجادلات النبيوالأئمة عليه وعليهم السلام، وربما يأتي في أثناء كلامهم كلام جماعة من الشيعةحيث تقتضي الحال ذكره، ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إمالوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلت العقول إليه أو لاشتهاره في السير والكتببين المخالف والمؤالف، إلا ما أوردته عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، فإنهليس في الاشتهار على حد ما سواه وإن كان مشتملا على مثل الذي قدمناه،فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول جزء من ذلك دون غيره، لأن جميع ما رويتعنه عليه السلام إنما رويته بإسناد واحد من جملة الأخبار التي ذكرها عليه السلام في تفسيره.
والله المستعان فيما قصدناه وهو حسبي ونعم الوكيل.
فصل
في ذكر طرف مما أمر الله في كتابه من الحجاج والجدال بالتي هي أحسن وفضل أهله |
قال الله تبارك وتعالى في كتابه مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله: ” وجادلهمبالتي هي أحسن ” (١).
وقال عز من قائل: ” ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ” (٢)وقال الله تعالى: ” ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ” الآية (٣).
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام أيضا لما احتج علي على عبدة الكوكبالمعروف بالزهرة وعبدة الشمس والقمر جميعا بزوالها وانتقالها وطلوعها وأفولهاوعلى حدوثها وإثبات محدث لها وفاطر إياها: ” وكذلك نري إبراهيم ملكوتالسماوات والأرض وليكون من الموقنين ” إلى قوله تعالى: ” وتلك حجتنا آتيناهاإبراهيم على قومه ” (٤) وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالاحتجاج،وسيأتي ذكر شرحها في مواضعها إنشاء الله تعالى.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ” نحن المجادلون في دين اللهعلى لسان سبعين نبيا “.
وأما الأخبار في فضل العلماء فهي أكثر من أن تعد أو تحصى، لكنانذكر طرفا منها:
فمن ذلك ما حدثني به السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب
(١) النحل: ١٢٥.
(٢) العنكبوت: ٤٦.
(٣) البقرة: ٢٥٨.
(٤) الأنعام: ٧٥ – ٨٣.
الحسيني المرعشي (١) رضي الله عنه، قال حدثني الشيخ الصادق أبو عبد الله جعفر بن محمدابن أحمد الدوريستى (٢) رحمه الله عليه، قال حدثني أبي محمد بن أحمد (٣) قال حدثنيالشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (٤) رحمه الله، قالحدثني أبو الحسن محمد بن القاسم المفسر الاسترآبادي (٥)، قال حدثني أبو يعقوبيوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار (٦) – وكانا من الشيعة
(١) السيد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي عالم عابد، يرويعنه الطبرسي صاحب الاحتجاج بحق روايته عن أبيه عن الصدوق محمد بن علي بن بابويهويروي هو عن جعفر بن محمد.. العيسى الدوريستى. أعيان الشيعة ٤٨ / ١٢١.
(٢) أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس الدوريستى الرازي منأكابر علماء الإمامية، من بيت العلم والفضل، كثير الرواية، كان مشهورا في جميعالفنون، معظما في الغاية عند نظام الملك الوزير. والدوريستى نسبة إلى دوريست قريةمن قرى الري يقال لها الآن (درشت) الكنى والألقاب ٢ / ٤٠٨.
(٣) أبو جعفر محمد بن أحمد بن العباس العبسي الدوريستى من ولد حذيفة بناليمان العبسي الصحابي، يروي عن الصدوق ويروي عنه ولده جعفر بن محمد. أعيانالشيعة ٤٣ / ٢٦٦.
(٤) أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، شيخ الحفظةرئيس المحدثين، ولد بدعاء مولانا صاحب الأمر عليه السلام، له نحو من ثلاثمائة مصنفورد بغداد سنة ٣٥٥ وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن، مات بالري سنة ٣٨١الكنى والألقاب ١ / ٢١٢.
(٥) محمد بن القاسم الاسترآبادي المفسر، الراوي لتفسير الإمام العسكري عليهالسلام، شيخ ابن بابويه، روى عنه كثيرا في الفقيه والتوحيد وعيون أخبار الرضا عليهالسلام، وترضى عنه وترحم عليه شرح مشيخة الفقيه ص ١٠٠.
(٦) أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيارقال الإمام العسكري عليه السلام لوالديهما: ” خلفا على ولديكما لأفيدهما العلم الذييشرفهما الله تعالى به “، ومن هذا الكلام يظهر عظيم منزلتهما وثقتهما بعكس ما رماهما
=>
الإمامية – قالا حدثنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام، قال حدثني أبيعن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أشد من يتم اليتيمالذي انقطع من أمه وأبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولايدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالمابعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمنهداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى (١).
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قال علي بن أبيطالب عليه السلام: من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمةجهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به (٢) جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نوريضئ لجميع أهل العرصات، وحلة لا تقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثمينادي مناد ” يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد، ألا فمن أخرجهفي الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلىنزهة الجنان ” فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيرا، أو فتح عن قلبه منالجهل قفلا، أو أوضح له عن شبهة.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام قال: قال الحسينابن علي (٣) فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب (٤) في رتبةالجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه
<=
بعضهم بالضعف لأن من علمه الإمام علما يشرفه الله تعالى به لا يعقل كونه غير عدل.
تنقيح المقال ٢ / ٣٠٥.
(١) الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين. وفي بعض النسخ” الرفيع الأعلى “.
(٢) حبوناه: أعطيناه بلا عوض.
(٣) في بعض النسخ ” الحسن بن علي “.
(٤) الناشب: الواقع فيما لا مخلص منه.
كفضل الشمس على السها.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري قال: قال الحسين بنعلي عليهما السلام: من كفل لنا يتيما قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التيسقطت إليه حتى أرشده وهداه قال الله عز وجل: أيها العبد الكريم المواسي لأخيهأنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألفألف قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعيم.
وبهذا الإسناد عنه عليه السلام قال: قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام: العالمكمن معه شمعة تضئ للناس، فكل من أبصر بشمعته دعا بخير، كذلك العالم معهشمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة، فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجابها من جهل فهو من عتقائه من النار، والله يعوضه عن ذلك لكل شعرة لمن اعتقهما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار (١) على الوجه الذي أمر الله عز وجلبه، بل تلك الصدقة وبال على صاحبها لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألفركعة يصليها من بين يدي الكعبة.
وبهذا الإسناد عنه عليه السلام قال: قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:
علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروجعلى ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب، ألا فمن انتصبلذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنهيدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم.
وعنه عليه السلام بالإسناد المتقدم قال: قال موسى بن جعفر عليهما السلام: فقيهواحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه
(١) القنطار: قيل هو ألف ومائتا أوقية، وقيل مائة وعشرون رطلا، وقيل هوملء مسك ثور ذهبا، وقيل ليس له وزن عند العرب، وفسر القنطار من الحسناتفي حديث مذكور في معاني الأخبار وغير بألف ومائتي أوقية، وأوقية أعظم منجبل أحد.
أشد على إبليس من ألف (١) عابد لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه معذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فلذلك هو أفضلعند الله من ألف عابد وألف ألف عابدة.
وعنه عليه السلام قال: قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام: يقال للعابد يومالقيامة: ” نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت مؤنتك فادخل الجنة “.
ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفر عليهم نعم جنانالله تعالى وحصل لهم رضوان الله تعالى، ويقال للفقيه: ” يا أيها الكافل لأيتام آلمحمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلممنك “، فيقف فيدخل الجنة معه فئاما وفئاما وفئاما (٢) – حتى قال عشرا – وهم الذينأخذوا عنه علومه وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة،فانظروا كم صرف ما بين المنزلتين (٣).
وعنه عليه السلام قال: قال محمد بن علي الجواد عليهما السلام: من تكفل بأيتامآل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسارى في أيدي شياطينهم وفيأيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطينبرد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم ليحفظوا عهد الله على العبادبأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب علىالسماء، وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء.
وعنه عليه السلام قال: قال علي بن محمد عليهما السلام: لولا من يبقى بعد غيبةقائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج اللهوالمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقيأحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما
(١) في بعض النسخ ” ألف ألف عابد “.
(٢) الفئام: الجماعة الكثيرة من الناس، وقد فسر في بعض الأحاديث بمائة ألف.
(٣) الصرف: الفضل، يقال ” لهذا صرف على هذا ” أي فضل.
لقنه الله تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي،والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني، فيقول الله: أدليتبالحجة (١) فوجبت لك أعالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزهرياض الجنة.
وقال أبو محمد عليه السلام: قالت فاطمة عليها السلام وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتافي شئ من أمر الدين إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة ففتحت على المؤمنة حجتهافاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا، فقالت فاطمة: إن فرح الملائكةباستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشدمن حزنها، وإن الله عز وجل قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذهالمسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها، واجعلوا هذهسنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان له معدامن الجنان.
وقال أبو محمد عليه السلام: قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام وقد حمل إليهرجل هدية فقال له: أيما أحب إليك أن أرد عليك بدلها عشرين ضعفا [ عشرينضعفا عشرين ضعفا – يعني ] (٢) عشرين ألف درهم – أو أفتح لك بابا من العلمتقهر فلانا الناصبي في قريتك تنقذ به ضعفاء أهل قريتك؟ أن أحسنت الاختيارجمعت لك الأمرين، وإن أسأت الاختيار خيرتك لتأخذ أيهما شئت. فقال: يا بنرسول الله فثوابي في قهري ذلك الناصب واستنقاذي لأولئك الضعفاء من يدهقدره عشرون ألف درهم؟ قال: بل أكثر من الدنيا عشرين ألف ألف مرة. قال:
يا بن رسول الله فكيف أختار الأدون بل أختار الأفضل، الكلمة التي أقهر بهاعدو الله وأذوده عن أوليائه. فقال الحسن بن علي عليهما السلام: قد أحسنتالاختيار، وعلمه الكلمة وأعطاه عشرين ألف درهم، فذهب فأفحم الرجل، فاتصل
(١) أدلى بالحجة: أظهرها.
(٢) هذه الزيادة ليست في بعض النسخ.
خبره به فقال له حين حضر معه: يا عبد الله ما ربح أحد مثل ربحك ولا اكتسبأحد من الأوداء مثل ما اكتسبت مودة الله أولا ومودة محمد وعلي ثانيا ومودةالطيبين من آلهما ثالثا ومودة ملائكة الله تعالى المقربين رابعا ومودة إخوانكالمؤمنين خامسا، واكتسبت بعدد كل مؤمن وكافر ما هو أفضل من الدنيا ألفمرة، فهنيئا لك هنيئا.
وقال أبو محمد عليه السلام: قال جعفر بن محمد عليهما السلام: من كان همهفي كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا الموالين حمية لنا أهل البيت يكسرهمعنهم ويكشف عن مخازيهم ويبين عوارهم (١) ويفخم أمر محمد وآله جعل اللهتعالى همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره، يستعمل بكل حرف من حروفحججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكا، قوة كل واحد يفضلعن حمل السماوات والأرضين، فكم من بناء وكم من نعمة وكم من قصور لا يعرفقدرها إلا رب العالمين.
وقال أبو محمد عليه السلام: قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام:
أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذله ومسكنتهأن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله، يقوم من قبرهوالملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله، فيحملونه علىأجنحتهم يقولون له: مرحبا طوباك طوباك (٢) يا دافع الكلاب عن الأبرار ويا أيهاالمتعصب للأئمة الأخيار.
وقال أبو محمد لبعض تلامذته – لما اجتمع إليه قوم من مواليه والمحبينلآل محمد رسول الله بحضرته وقالوا: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله إن لنا جارا منالنصاب يؤذينا ويحتج علينا في تفضيل الأول والثاني والثالث على أمير المؤمنين عليه السلامويورد علينا حججا لا ندري كيف الجواب عنها والخروج منها -: مر بهؤلاء إذا
(١) عوارهم: عيوبهم.
(٢) طوباك: طوبى لك، وطوبى اسم للجنة، وقيل شجرة فيها.
كانوا مجتمعين يتكلمون فتستمع عليهم فسيستدعون منك الكلام فتكلم وافحمصاحبهم واكسر عربه (١) وفل حده (٢) ولا تبق له باقية، فذهب الرجل وحضرالموضع وحضروا وكلم الرجل فأفحمه وصيره لا يدري في السماء هو أو في الأرض.
قالوا: ووقع علينا من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وعلى الرجلوالمتعصبين له من الغم والحزن مثل ما لحقنا من السرور. فلما رجعنا إلى الإمامقال لنا: إن الذين في السماوات لحقهم من الفرح والطرب بكسر هذا العدو لله كانأكثر مما كان بحضرتكم، والذي كان بحضرة إبليس وعتاة مردته من الشياطينمن الحزن والغم أشد مما كان بحضرتهم، ولقد صلى على هذا العبد الكاسر لهملائكة السماء والحجب والعرش والكرسي، وقابلهما الله تعالى بالإجابة فأكرم إيابهوعظم ثوابه، ولقد لعنت تلك الأملاك عدو الله المكسور وقابلها الله بالإجابة فشددحسابه وأطال عذابه.
(١) عربه: حدته، وفي بعض النسخ ” عرنينه ” وهو أول الأنف تحتمجتمع الحاجبين.
(٢) فل حده: مثل حد سيفه، وهو كناية عن كسر الشوكة.
فصل
في ذكر طرف مما جاء عن النبي (ص) من الجدال والمحاجة والمناظرة وما يجري مجرى ذلك مع من خالف الإسلام وغيرهم |
قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام: ذكر عند الصادق عليه السلامالجدال في الدين وأن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام قد نهوا عنه، فقالالصادق عليه السلام: لم ينه عنه مطلقا، ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أماتسمعون الله يقول: ” ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ” (١) وقوله:
” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ” (٢)فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسنمحرم حرمه الله على شيعتنا، وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول: ” وقالوالن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ” (٣) وقال الله تعالى: ” تلكأمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ” (٣) فجعل الله علم الصدق والإيمانبالبرهان، وهل يؤتي ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن.
قيل: يا بن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن وبالتي ليست بأحسن؟ قال: أماالجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل به مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قدنصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحدذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه،فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أماالمبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجة له
(١) العنكبوت: ٤٦.
(٢) النحل: ١٢٥
(٣) البقرة: ١١١.
على باطله، وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم (١) لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.
وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به منجحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله له حاكيا عنه: ” وضرب لنا مثلاونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ” فقال الله تعالى في الرد عليه: ” قل[ يا محمد ] يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم منالشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ” (٢) إلى آخر السورة، فأراد الله مننبيه أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟
فقال الله تعالى: قل ” يحييها الذي أنشأها أول مرة ” أفيعجز من ابتدأ به لا منشئ أن يعيده بعد أن يبلى بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثم قال ” الذيجعل لكم من الشجر الأخضر نارا ” أي إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضرالرطب ثم يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلى أقدر، ثم قال ” أو ليس الذيخلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ” (٣) أيإذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليهمن إعادة البالي، فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكمولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.
قال الصادق عليه السلام: فهو الجدال بالتي هي أحسن، لأن فيها قطع عذر الكافرينوإزالة شبههم. وأما الجدال بغير التي هي أحسن فإن تجحد حقا لا يمكنك أنتفرق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق، فهذاهو المحرم لأنك مثله جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر.
وقال أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: فقام إليه رجل آخر وقال: يا بنرسول الله صلى الله عليه وآله أفجادل رسول الله؟ فقال الصادق عليه السلام: مهما ظننت برسول الله من شئفلا تظنن به مخالفة الله، أليس الله قد قال: ” وجادلهم بالتي هي أحسن ” و ” قل يحييهاالذي أنشأها أول مرة ” لمن ضرب الله مثلا، أفتظن أن رسول الله صلى الله عليه وآله خالف ما أمر
(١) تغم قلوبهم: تغطي قلوبهم.
(٢) يس ٧٨ – ٨٠.
(٣) يس: ٨١.
الله به فلم يجادل بما أمره الله به ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به، ولقدحدثني أبي الباقر عن جدي علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداءعن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أنه اجتمع يوما عند رسول الله صلى الله عليه وآله أهلخمسة أديان: اليهود، والنصارى، والدهرية، والثنوية، ومشركو العرب (١).
فقالت اليهود: نحن نقول عزير ابن الله، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقولفإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت النصارى: نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به، وقد جئناك لننظرما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت الدهرية: نحن نقول إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة، وقد جئناكلننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإنخالفتنا خصمناك.
وقالت الثنوية: نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران. وقد جئناكلننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك، وإن خالفتنا خصمناك.
وقال مشركو العرب: نحن نقول إن أوثاننا آلهة، وقد جئناك لننظرفيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: آمنت بالله وحده لا شريك له وكفرت [ بالجبت
(١) اليهود هم أتباع النبي موسى بن عمران عليه السلام وكتابهم المقدس هوالتوراة، والنصارى هم أتباع النبي عيسى بن مريم عليه السلام وكتابهم المقدس هوالإنجيل، والدهرية هم الذين ينفون الرب والجنة والنار ويقولون وما يهلكنا إلا الدهروهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت، والثنوية هم الذين يثبتونمع القديم قديما غيره، قيل هم المجوس الذين يثبتون مبدأين مبدأ للخير ومبدأ للشر وهما النوروالظلمة ويقولون بنبوة إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل هم طائفة يقولون إن كلمخلوق للخلق الأول. ومشركو العرب هم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهمويعبدونها من دون الله تعالى ويعتقدون فيها أنها منشأ الخير والشر وواسطة بين العبد والرب.
والطاغوت و ] (١) بكل معبود سواه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد بعثني كافة للناس بشيرا ونذيرا وحجة علىالعالمين، وسيرد كيد من يكيد دينه في نحره.
ثم قال لليهود: أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة؟ قالوا: لا. قال: فماالذي دعاكم إلى القول بأن عزيرا ابن الله؟ قالوا: لأنه أحيى لبني إسرائيل التوراةبعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فكيف صار عزيرابن الله دون موسى وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورؤي منه من المعجزات ما قدعلمتم. ولئن كان عزير بن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة فلقد كانموسى بالبنوة أولى وأحق، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب لهأنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من البنوة، لأنكم إنكنتم إنما تريدون بالبنوة الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادةالأمهات الأولاد بوطئ آبائهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه وأوجبتم فيهصفات المحدثين، فوجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا وأن يكون له خالقصنعه وابتدعه.
قالوا: لسنا نعني هذا، فإن هذا كفر كما دللت لكنا نعني أنه ابنه علىمعنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريدإكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره ” يا بني ” و ” أنه ابني ” لا على إثبات ولادته منهلأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه، وكذلك لما فعل الله تعالىبعزير ما فعل كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكونعزير ابنه فإن هذه المنزلة بموسى أولى، وأن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلبعليه حجته، إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم، لأنكمقلتم إن عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه ” يا بني ” و ” هذا
(١) الزيادة في بعض النسخ.
ابني ” لا على طريق الولادة، فقد تجدون أيضا هذا العظيم لأجنبي آخر” هذا أخي ” ولآخر ” هذا شيخي ” و ” أبي ” ولآخر ” هذا سيدي ” و ” يا سيدي “على سبيل الإكرام، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول، فإذايجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لأنه قد زاده في الإكراممما لعزير، كما أن من زاد رجلا في الإكرام فقال له يا سيدي ويا شيخي ويا عميويا رئيسي على طريق الإكرام، وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول،أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو عما أو رئيسا أو سيدا أو أميرالأنه قد زاده في الإكرام على من قال له يا شيخي أو يا سيدي أو يا عمي أو يا رئيسيأو يا أميري؟
قال: فبهت القوم وتحيروا وقالوا: يا محمد أجلنا نتفكر فيما قد قلته لنا. فقال:
انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله.
ثم أقبل على النصارى فقال لهم: وأنتم قلتم إن القديم عز وجل اتحد بالمسيحابنه، فما الذي أردتموه بهذا القول، أردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدثالذي هو عيسى، أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما كوجود القديم الذي هو اللهأو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه، فإن أردتمأن القديم صار محدثا فقد أبطلتم، لأن القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا، وإنأردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم لأن المحدث أيضا محال أن يصير قديما،وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده فقد أقررتم بحدوثعيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله، لأنه إذا كان عيسى محدثا وكان اللهاتحد به – بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده – فقد صار عيسى وذلكالمعنى محدثين، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه.
فقالت النصارى: يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبةما أظهر فقد اتخذه ولدا على جهة الكرامة.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي
ذكرتموه، ثم أعاد صلى الله عليه وآله ذلك كله، فسكتوا إلا رجلا واحدا منهم فقال له: يا محمدأو لستم تقولون إن إبراهيم خليل الله؟ قال: قلنا ذلك. قال: فإذا قلتم ذلكفلم منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنهما لن يشتبها،لأن قولنا إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلة والخلة إنما معناها الفقروالفاقة، فقد كان خليلا إلى ربه فقيرا وإليه منقطعا وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا،وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله جبرئيل فقال له:
أدرك عبدي، فجاء فلقيه في الهواء فقال له: كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك.
فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه،فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه، وإذا جعل معنى ذلكمن الخلة وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان الخليلمعناه العالم به وبأموره، ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه. ألا ترون أنه إذا لم ينقطعإليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله، وأن من يلده الرجل وإنأهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده، لأن معنى الولادة قائم به.
ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنهوجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه، فإن الذي معه من المعجزات لم يكنبدون ما كان مع عيسى، فقولوا إن موسى أيضا ابنه، وإن يجوز أن تقولوا على هذاالمعنى إنه شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود.
فقال بعضهم لبعض وفي الكتب المنزلة إن عيسى قال ” أذهب إلى أبي وأبيكم “فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون فإن فيه ” أذهب إلى أبي وأبيكم “فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجهالذي كان عيسى ابنه، ثم إن ما في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الذي زعمتم أنعيسى من وجهة الاختصاص كان ابنا له، لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصهبما لم يختص به غيره، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاءالقوم الذين قال لهم عيسى ” أذهب إلى أبي وأبيكم “، فبطل أن يكون الاختصاص