الإحتجاج (ج1) / الصفحات: ٣٢١ – ٣٤٠
الشهادة فلا تتم الشهادة إلا أن يقال: ” أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسولالله ” ينادى به على المنابر فلا يرفع صوت بذكر الله إلا رفع بذكر محمد صلى الله عليه وآله معه.
قال له اليهودي: فلقد أوحى الله إلى أم موسى لفضل منزلة موسى عليه السلام عند اللهقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد لطف الله جل ثناؤه لأم محمد صلى الله عليه وآلهبأن أوصل إليها اسمه، حتى قالت: أشهد والعالمون: أن محمدا رسول الله منتظروشهد الملائكة على الأنبياء أنهم أثبتوه في الأسفار، وبلطف من الله ساقه إليها، وأوصلإليها اسمه لفضل منزلته عنده، حتى رأت في المنام أنه قيل لها: إن ما في بطنكسيد، فإذا ولدته فسميه محمدا، فاشتق الله له اسما من أسمائه، فالله المحمود وهذا محمدقال له اليهودي: فإن هذا موسى بن عمران قد أرسله الله إلى فرعون وأراهالآية الكبرى؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد أرسل إلى فراعنة شتى، مثل أبيجهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة، وأبي البختري، والنضر بن الحرث،وأبي بن خلف، ومنبه ونبيه ابني الحجاج، وإلى الخمسة المستهزئين: الوليد بنالمغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري،والأسود بن المطلب، والحرث بن أبي الطلالة، فأراهم الآيات في الآفاق وفيأنفسهم حتى يتبين لهم أنه ألحق.
قال له اليهودي: لقد انتقم الله عز وجل لموسى من فرعون؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد انتقم الله جل اسمه لمحمد صلى الله عليه وآلهمن الفراعنة، فأما المستهزؤون فقال الله: ” إنا كفيناك المستهزئين ” (١) فقتل اللهخمستهم كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد، فأما الوليد بن المغيرة:
فمر بنبل لرجل من جزاعة قد راشه (٢) ووضعه في الطريق فأصابه شظية (٣) منه
(١) الحجر – ٩٥.
(٢) راش السهم: الزق عليه الريش.
(٣) الشظية: الفلقة من العصا ونحوها.
فانقطع أكحله (١) حتى أدماه، فمات وهو يقول: ” قتلني رب محمد ” وأما العاصابن الوائل السهمي: فإنه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده (٢) تحته حجر،فسقط فتقطع قطعة قطعة، فمات وهو يقول: (قتلي رب محمد) وأما الأسود بن عبديغوث: فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة، فاستظل بشجرة، فأتاه جبرئيل فأخذرأسه فنطح به الشجرة، فقال لغلامه: امنع هذا عني فقال: ما أرى أحدا يصنعشيئا إلا نفسك، فقتله وهو يقول: ” قتلني رب محمد ” وأما الأسود بن الحرث: فإنالنبي صلى الله عليه وآله دعا عليه أن يعمي الله بصره، وأن يثكله ولده، فلما كان في ذلك اليومخرج حتى صار إلى موضع أتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي،فبقي حتى أثكله الله ولده، وأما الحرث بن أبي الطلالة: فإنه خرج من بيته فيالسموم فتحول حبشيا، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحرث، فغضبوا عليه فقتلوهوهو يقول: ” قتلني رب محمد “.
وروي أن الأسود بن الحرث أكل حوتا مالحا فأصابه غلبة العطش، فلم يزليشرب الماء حتى انشق بطنه، فمات وهو يقول: ” قتلني رب محمد ” (٣) كل ذلك فيساعة واحدة، وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا له: يا محمد ننتظربك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك، فدخل النبي صلى الله عليه وآله منزله فأغلقعليه بابه مغتما لقولهم، فأتاه جبرئيل عن الله من ساعته فقال: يا محمد السلام يقرأعليك السلام وهو يقول لك: ” اصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ” (٤) يعنيأظهر أمرك لأهل مكة، وادعهم إلى الإيمان، قال، يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئينوما أوعدوني؟ قال له: ” إنا كفيناك المستهزئين ” قال: يا جبرئيل كانوا الساعةبين يدي قال: كفيتهم، وأظهر أمره عند ذلك، وأما بقية الفراعنة: قتلوا يوم
(١) الأكحل: عرق في اليد يفصد.
(٢) تدهده: تدحرج.
(٣) الظاهر أن هذا الكلام للمؤلف رحمه الله أدخله في الخبر.
(٤) الحجر – ٩٤.
بدر بالسيف، (١) فهزم الله الجميع وولوا الدبر.
قال له اليهودي: فإن هذا موسى بن عمران قد أعطي العصا فكان تحول ثعبانا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله ما هو أفضل من هذا،إن رجلا كان يطالب أبا جهل بدين ثمن جزور قد اشتراه، فاشتغل عنه وجلسيشرب، فطلبه الرجل فلم يقدر عليه، فقال له بعض المستهزئين: من تطلب؟
فقال: عمرو بن هشام – يعني أبا جهل – لي عليه دين، قال، فأدلك على منيستخرج منه الحقوق؟ قال: نعم. فدله على النبي صلى الله عليه وآله وكان أبو جهل يقول:
ليت لمحمد إلي حاجة فأسخر به وأرده، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا محمدبلغني أن بينك وبين عمرو بن هشام حسن صداقة، وأنا أستشفع بك إليه، فقام معهرسول الله صلى الله عليه وآله فأتى بابه، فقال له، قم يا أبا جهل فأد إلى الرجل حقه، وإنماكناه بأبي جهل ذلك اليوم، فقام مسرعا حتى أدى إليه حقه، فلما رجع إلى مجلسهقال له بعض أصحابه: فعلت ذلك فرقا من محمد (٢) قال: ويحكم أعذروني، إنهلما أقبل رأيت عن يمينه رجالا معهم (٣) حراب تتلألأ، وعن يساره ثعبانين تصطكأسنانهما، وتلمع النيران من أبصارهما، لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراببطني (٤) وتقضمني الثعبانان، هذا أكبر مما أعطي موسى، وزاد الله محمدا ثعبانا
(١) روي عن ابن مسعود قال:
كنا مع النبي ” ص ” فصلى في ظل الكعبة، وناس من قريش وأبو جهل نحرواجزورا في ناحية مكة، فبعثوا وجاءوا بسلاه فطرحوه بين كتفيه، فجاءت فاطمة عليهاالسلام فطرحته عنه، فلما انصرف قال:
” اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل، وبعتبة، وشيبة، ووليد بنعتبة، وأمية بن خلف، وبعقبة بن أبي معيط ” قال عبد الله ولقد رأيتهم قتلى في قليب بدر
(٢) فرقا: فزعا.
(٣) في بعض النسخ: ” بأيديهم “.
(٤) يبعجوا – بفتح العين – يشقوا.
وثمانية أملاك معهم الحراب، ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله يؤذي قريشا بالدعاء، فقاميوما فسفه أحلامهم، وعاب دينهم، وشتم أصنامهم، وضلل آبائهم، فاغتموا من ذلكغما شديدا، فقال أبو جهل: والله للموت خير لنا من الحياة، فليس فيكم معاشرقريش أحد يقتل محمدا فيقتل به، قالوا: لا. قال، فأنا أقتله فإن شائت بنو عبد المطلبقتلوني به، وإلا تركوني، قال: إنك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الواديمعروفا لا تزال تذكر به، قال: إنه كثير السجود حول الكعبة فإذا جاء وسجدأخذت حجرا فشدخته (١) به فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله فطاف بالبيت أسبوعا، ثم صلىوأطال السجود، فأخذ أبو جهل حجرا فأتاه من قبل رأسه، فلما أن قرب منه أقبلفحل قبل رسول الله صلى الله عليه وآله فاغرا فاه نحوه، فلما أن رآه أبو جهل فزع منهوارتعدت يده، وطرح الحجر فشدخ رجله، فرجع مدمى، متغير اللون، يفيضعرقا، فقال له أصحابه: ما رأيناك كاليوم؟! قال: ويحكم أعذروني، فإنه أقبلمن عنده فحل فاغرا فاه فكاد يبتلعني، فرميت بالحجر فشدخت رجلي،قال اليهودي: فإن موسى قد أعطي اليد البيضاء، فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك؟
قال له علي عليه السلام، لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه أعطي ما هو أفضل منهذا، إن نورا كان يضئ عن يمينه حيثما جلس، وعن يساره حيثما جلس، وكانيراه الناس كلهم.
قال له اليهودي: فإن موسى عليه السلام قد ضرب له طريق في البحر، فهل فعلبمحمد شئ من هذا؟
فقال له علي عليه السلام، لقد كان كذلك، ومحمد أعطي ما هو أفضل هذا،خرجنا معه إلى حنين فإذا نحن بواد يشخب، فقدرناه فإذا هو أربعة عشر قامة،فقالوا: يا رسول الله العدو من ورائنا والوادي أمامنا، كما قال أصحاب موسى:
” إنا لمدركون ” فنزل رسول الله ثم قال: ” اللهم إنك جعلت لكل مرسل دلالة،فأرني قدرتك ” وركب صلوات الله عليه، فعبرت الخيل لا تندى حوافرها، والإبل
(١) الشدخ: كسر الشئ الأجوف.
لا تندى أخفافها، فرجعنا فكان فتحنا.
قال له اليهودي: فإن موسى عليه السلام قد أعطي الحجر فانبجست منه اثنتي عشرة عيناقال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله لما نزل الحديبية وحاصرهأهل مكة، قد أعطي ما هو أفضل من ذلك، وذلك: إن أصحابه شكوا إليه الظمأوأصابهم ذلك حتى التقت خواصر الخيل، فذكروا له صلى الله عليه وآله، فدعا بركوة يمانيةثم نصب يده المباركة فيها، فتفجرت من بين أصابعه عيون الماء، فصدرنا وصدرتالخيل رواء، وملأنا كل مزادة وسقاء، ولقد كنا معه بالحديبية فإذا ثم قليبجافة، فأخرج صلى الله عليه وآله سهما من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له! اذهب بهذاالسهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه فيها، ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عينا منتحت السهم، ولقد كان يوم الميضاة عبرة وعلامة للمنكرين لنبوته، كحجرموسى حيث دعا بالميضاة فنصب يده فيها ففاضت الماء وارتفع، حتى توضأ منهثمانية آلاف رجل فشربوا حاجتهم، وسقوا دوابهم، وحملوا ما أرادوا.
قال اليهودي: فإن موسى عليه السلام أعطي المن والسلوى فهل أعطي لمحمد نظير هذاقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل منهذا، أن الله عز وجل أحل له الغنائم ولأمته، ولم تحل الغنائم لأحد غيره قبله،فهذا أفضل من المن والسلوى، ثم زاده أن جعل النية له ولأمته بلا عمل عملا صالحاولم يجعل لأحد من الأمم ذلك قبله، فإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت لهحسنة فإن عملها كتبت له عشر.
قال له اليهودي: إن موسى عليه السلام قد ضلل عليه الغمام؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، وقد فعل ذلك بموسى في التيه، وأعطيمحمد صلى الله عليه وآله أفضل من هذا، إن الغمامة كانت تظله من يوم ولد إلى يوم قبض فيحضره وأسفاره، فهذا أفضل مما أعطي موسى.
قال له اليهودي: فهذا داود عليه السلام قد لين الله له الحديد، فعمل منه الدروع؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله قد أعطي ما هو أفضل
من هذا، إنه لين الله له الصم الصخور الصلاب وجعلها غارا، (١) ولقد غارت الصخرةتحت يده ببيت المقدس لينة حتى صارت كهيئة العجين، (٢) وقد رأينا ذلكوالتمسناه تحت رايته.
قال له اليهودي: هذا داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبل معه لخوفهقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل منهذا، إنه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أريز كأريز المرجل علىالأثافي من شدة البكاء، (٣) وقد آمنه الله عز وجل من عقابه، فأراد أن يتخشعلربه ببكائه فيكون إماما لمن اقتدى به، ولقد قام صلى الله عليه وآله عشر سنين على أطرافأصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، حتى عوتب في ذلكفقال الله عز وجل: ” طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ” (٤) بل لتسعد به، ولقدكان يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله أليس الله غفر لك ما تقدم منذنبك وما تأخر؟ قال: بلى أفلا أكون عبدا شكورا؟ ولئن سارت الجبال وسبحتمعه لقد عمل بمحمد صلى الله عليه وآله ما هو أفضل من هذا: إذ كنا معه على جبل حراء إذتحرك الجبل فقال له: ” قر فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق شهيد ” فقر الجبلمطيعا لأمره ومنتهيا إلى طاعته، ولقد مررنا معه بجبل وإذا الدموع تخرج منبعضه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ” ما يبكيك يا جبل؟ فقال: يا رسول الله كان المسيحمر بي وهو يخوف الناس من نار وقودها الناس والحجارة، وأنا أخاف أن أكونمن تلك الحجارة، قال له: ” لا تخف تلك الحجارة الكبريت ” فقر الجبل وسكنوهدأ وأجاب لقوله صلى الله عليه وآله.
(١) يظهر من هذا الكلام أن الغار أحدث لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن من قبل.
(٢) وذلك ليلة المعراج.
(٣) الأريز: هو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء. والمرجل – كمنبر -: القدر.
والأثافي: الأحجار التي يوضع عليها القدر.
(٤) طه – ١.
قال له اليهودي: فإن هذا سليمان أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده؟
فقال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذاإنه هبط إليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله، وهو: ميكائيل فقال له: يا محمد عشملكا منعما وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك، ويسير معك جبالها ذهبا وفضة،ولا ينقص لك مما ادخر لك في الآخرة شئ، فأومى إلى جبرئيل – وكان خليلهمن الملائكة – فأشار عليه، أن تواضع فقال له: بل أعيش نبيا عبدا آكل يوماولا آكل يومين، والحق بإخواني من الأنبياء فزاده الله تبارك وتعالى الكوثر،وأعطاه الشفاعة، وذلك أعظم من ملك الدنيا من أولها إلى آخرها سبعين مرة،ووعده المقام المحمود، فإذا كان يوم القيامة أقعده الله عز وجل على العرش، فهذاأفضل مما أعطي سليمان.
قال له اليهودي: فإن هذا سليمان قد سخرت له الرياح، فسارت به فيبلاده غدوها شهر ورواحها شهر؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل منهذا: إنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج بهفي ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام، في أقل من ثلث ليلة، حتى انتهىإلى ساق العرش، فدنى بالعلم فتدلى من الجنة رفرف أخضر، وغشى النور بصرهفرأى عظمة ربه عز وجل بفؤاده، ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينه وبينهاأو أدنى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، وكان فيما أوحى إليه: الآية التي فيسورة البقرة قوله: ” لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أوتخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير ” (١)وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث الله تباركوتعالى محمدا، وعرضت على الأمم فأبوا أن يقبلوها من ثقلها، وقبلها رسول الله وعرضهاعلى أمته فقبلوها، فلما رأى الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنهم لا يطيقونها،
(١) البقرة – ٢٨٤.
فلما أن سار إلى ساق العرش كرر عليه الكلام ليفهمه، فقال: ” آمن الرسول بماأنزل إليه من ربه – فأجاب صلى الله عليه وآله مجيبا عنه وعن أمته – والمؤمنون كل آمن باللهوملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ” (١) فقال جل ذكره لهمالجنة والمغفرة على أن فعلوا ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أما إذا فعلت ذلك بنا، فغفرانكربنا وإليك المصير، يعني المرجع في الآخرة، قال: فأجابه الله عز وجل قد فعلتذلك بك وبأمتك، ثم قال عز وجل: أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيهاوقد عرضتها على الأمم فأبوا أن يقبلوها وقبلتها أمتك حق علي أن أرفعها عن أمتكوقال: ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت – من خير – وعليها ما اكتسبت ” (٢)من شر فقال النبي صلى الله عليه وآله – لما سمع ذلك -: أما إذا فعلت ذلك بي وبأمتي فزدنيقال: سل، قال: ” ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا ” (٣) قال الله عز وجل لستأؤاخذ أمتك بالنسيان والخطأ لكرامتك علي، وكانت الأمم السالفة إذا نسوا ماذكروا به فتحت عليهم أبواب العذاب، وقد دفعت ذلك عن أمتك وكانت الأممالسالفة إذا أخطأوا أخذوا بالخطأ وعوقبوا عليه، وقد رفعت ذلك عن أمتك لكرامتكعلي، فقال صلى الله عليه وآله: ” اللهم إذا أعطيتني ذلك فزدني ” قال الله تبارك وتعالى له:
سل، قال: ” ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ” (٤)يعني بالأصر: الشدائد التي كانت على من كان من قبلنا، فأجابه الله عز وجل إلىذلك، وقال تبارك اسمه: قد رفعت عن أمتك الآصار التي كانت على الأمم السالفةكنت لا أقبل صلاتهم إلا في بقاع معلومة من الأرض اخترتها لهم وإن بعدت، وقدجعلت الأرض كلها لأمتك مسجدا وطهورا، فهذه من الآصار التي كانت على الأممقبلك فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوهمن أجسادهم، وقد جعلت الماء لأمتك طهورا، فهذا من الآصار التي كانت عليهمفرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها إلى بيتالمقدس، فمن قبلت ذلك منه أرسلت عليه نارا فأكلته فرجع مسرورا، ومن لم
(١) البقرة – ٨٥.
(٢، ٣، ٤) البقرة – ٢٨٦.
أقبل منه ذلك رجع مثبورا (١) وقد جعلت قربان أمتك في بطون فقرائها ومساكينهافمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة، ومن لم أقبل ذلك منه رفعتعنه عقوبات الدنيا، وقد رفعت ذلك عن أمتك وهي من الآصار التي كانت علىالأمم من كان من قبلك، وكانت الأمم السالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم الليلوأنصاف النهار، وهي من الشدائد التي كانت عليهم، فرفعتها عن أمتك وفرضتصلاتهم في أطراف الليل والنهار، وفي أوقات نشاطهم، وكانت الأمم السالفة قد فرضتعليهم خمسين صلاة في خمسين وقتا وهي من الآصار التي كانت عليهم، فرفعتهاعن أمتك وجعلتها خمسا في خمسة أوقات، وهي إحدى وخمسون ركعة، وجعلتلهم أجر خمسين صلاة، وكانت الأمم السالفة حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة وهي منالآصار التي كانت عليهم، فرفعتها عن أمتك وجعلت الحسنة بعشرة والسيئة بواحدةوكانت الأمم السالفة إذا نوى أحدهم حسنة فلم يعملها لم تكتب له، وإن عملهاكتبت له حسنة، وأن أمتك إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإنعملها كتبت له عشرة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وكانتالأمم السالفة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت عليهسيئة، وأن أمتك إذا هم أحدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وهذه منالآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وكانت الأمم السالفة إذا أذنبواكتبت ذنوبهم على أبوابهم، وجعلت توبتهم من الذنوب: إن حرمت عليهم بعدالتوبة أحب الطعام إليهم، وقد رفعت ذلك عن أمتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهموجعلت عليهم ستورا كثيفة، وقبلت توبتهم بلا عقوبة، ولا أعاقبهم بأن أحرمعليهم أحب الطعام إليهم، وكانت الأمم السالفة يتوب أحدهم إلى الله من الذنبالواحد مائة سنة، أو ثمانين سنة، أو خمسين سنة، ثم لا أقبل توبته دون أن أعاقبهفي الدنيا بعقوبة، وهي من الآصار التي كانت عليهم فرفعتها عن أمتك، وإنالرجل من أمتك ليذنب عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، أو مائة سنة
(١) المثبور: الخائب
ثم يتوب ويندم طرفة عين فاغفر ذلك كله، فقال النبي صلى الله عليه وآله: إذا أعطيتني ذلككله فزدني قال: سل، قال: ” ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ” (١) قال تباركاسمه: قد فعلت ذلك بأمتك، وقد رفعت عنهم عظم بلايا الأمم، وذلك حكمي فيجميع الأمم: أن لا أكلف خلقا فوق طاقتهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ” واعف عناواغفر لنا وارحمنا أنت مولانا ” (٢) قال الله عز وجل: قد فعلت ذلك بتائبي أمتكثم قال صلى الله عليه وآله: ” فانصرنا على القوم الكافرين ” (٣) قال الله جل اسمه: إن أمتكفي الأرض كالشامة البيضاء في الثور الأسود، هم القادرون، وهم القاهرون، يستخدمونولا يستخدمون، لكرامتك علي، وحق علي أن أظهر دينك على الأديان، حتىلا يبقى في شرق الأرض وغربها دين إلا دينك، ويؤدون إلى أهل دينك الجزية.
قال اليهودي: فإن هذا سليمان سخرت له الشياطين، يعملون له ما يشاء:
من محاريب، وتماثيل؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد أعطي محمد صلى الله عليه وآله أفضل من هذاإن الشياطين سخرت لسليمان وهي مقيمة على كفرها، ولقد سخرت لنبوةمحمد صلى الله عليه وآله الشياطين بالإيمان، فأقبل إليه من الجنة التسعة من أشرافهم، واحد منجن نصيبين، والثمان من بني عمرو بن عامر من الأحجة (٤) منهم شضاه، ومضاه (٥)والهملكان، والمرزبان، والمازمان، ونضاه، وهاضب، وهضب، وعمرو، وهم الذينيقول الله تبارك اسمه فيهم: ” وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ” (٦)وهم التسعة، فأقبل إليه الجن والنبي صلى الله عليه وآله ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كماظننتم أن لن يبعث الله أحدا، ولقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم فبايعوه على:
(١، ٢، ٣) البقرة – ٢٨٦.
(٤) الأحجة – جمع حجيج – أي الذين يقيمون الحج. وفي بعض النسخ:
” الأجنحة ” أي: الرؤساء.
(٥) وفي بعض النسخ: ” شضاة ومضاة “.
(٦) الأحقاف – ٢٩.
الصوم، والصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونصح المسلمين، واعتذروا بأنهمقالوا على الله شططا، وهذا أفضل مما أعطي سليمان، فسبحان من سخرها لنبوةمحمد صلى الله عليه وآله بعد أن كانت تتمرد، وتزعم أن لله ولد، ولقد شمل مبعثه من الجنوالإنس ما لا يحصى.
قال له اليهودي: هذا يحيى بن زكريا عليه السلام يقال: إنه أوتي الحكم صبيا،والحلم، والفهم، وإنه كان يبكي من غير ذنب، وكان يواصل الصوم؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل منهذا: إن يحيى بن زكريا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهلية، ومحمد صلى الله عليه وآلهأوتي الحكم والفهم صبيا بين عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، فلم يرغب لهم فيصنم قط، ولم ينشط لأعيادهم، ولم ير منه كذب قط، وكان أمينا، صدوقا،حليما، وكان يواصل الصوم الأسبوع والأقل والأكثر فيقال له في ذلك فيقول:
إني لست كأحدهم، إني أظل عند ربي، فيطعمني، ويسقيني، وكان يبكي صلى الله عليه وآلهحتى تبتل مصلاه خشية من الله عز وجل من غير جرم.
قال له اليهودي فإن هذا عيسى بن مريم يزعمون أنه: تكلم في المهد صبيا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله سقط من بطن أمه واضعايده اليسرى على الأرض، ورافعا يده اليمنى إلى السماء، يحرك شفتيه بالتوحيدوبدا من فيه نور رأى أهل مكة منه: قصور بصرى من الشام وما يليها، والقصورالحمر من أرض اليمن وما يليها، والقصور البيض من اسطخر وما يليها، ولقدأضائت الدنيا ليلة ولد النبي صلى الله عليه وآله حتى فزعت الجن والإنس والشياطين، وقالواحدث في الأرض حدث، ولقد رأي الملائكة ليلة ولد تصعد، وتنزل، وتسبح،وتقدس، وتضطرب النجوم وتتساقط، علامة لميلاده، ولقد هم إبليس بالظعن فيالسماء لما رأى من الأعاجيب في تلك الليلة، وكان له مقعد في السماء الثالثة،والشياطين يسترقون السمع، فلما رأوا العجائب أرادوا أن يسترقوا السمع، فإذا هم
قد حجبوا من السماوات كلها، ورموا بالشهب، دلالة (١) لنبوته صلى الله عليه وآله.
قال له اليهودي: فإن عيسى عليه السلام يزعمون أنه قد أبرأ الأكمه والأبرصبإذن الله؟
فقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل منذلك: أبرأ ذا العاهة من عاهته، بينما هو جالس صلى الله عليه وآله إذ سأل عن رجل من أصحابهفقالوا: يا رسول الله إنه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ الذي لا ريش عليه،فأتاه صلى الله عليه وآله فإذا هو كهيئة الفرخ من شدة البلاء، فقال له: قد كنت تدعو في صحتكدعاء؟ قال: نعم كنت أقول: ” يا رب أيما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرةفعجلها لي في الدنيا ” فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ألا قلت: ” اللهم آتنا في الدنيا حسنةوفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ” فقالها الرجل فكأنما نشط من عقال، وقامصحيحا وخرج معنا، ولقد أتاه رجل من جهينة أجذم يتقطع من الجذام فشكاإليه صلى الله عليه وآله، فأخذ قدحا من ماء فتفل عليه، ثم قال: امسح به جسدك ففعل فبرأحتى لم يوجد عليه شئ، ولقد أتي النبي بأعرابي أبرص فتفل صلى الله عليه وآله من فيه عليه فماقام من عنده إلا صحيحا، ولئن زعمت أن عيسى أبرأ ذا العاهات من عاهاتهم، فإنمحمدا صلى الله عليه وآله بينما هو في أصحابه إذ هو بامرأة فقالت: يا رسول الله إن ابني قدأشرف على حياض الموت كلما أتيته بطعام وقع عليه التثاؤب، فقام النبي صلى الله عليه وآلهوقمنا معه فلما أتيناه قال له: جانب يا عدو الله ولي الله، فأنا رسول الله، فجانبهالشيطان فقام صحيحا وهو معنا في عسكرنا، ولئن زعمت أن عيسى أبرأ العميان،فإن محمدا قد فعل ما هو أكبر من ذلك: إن قتادة بن ربيع كان رجلا صحيحا،فلما أن كان يوم أحد أصابته طعنة في عينه فبدرت حدقته، (٢) فأخذها بيده ثمأتى بها إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إن امرأتي الآن تبغضني، فأخذهارسول الله من يده ثم وضعها مكانها فلم تكن تعرف إلا بفضل حسنها وفضل ضوئها
(١) في بعض النسخ: ” جلالة “.
(٢) الحدقة: سواد العين الأعظم.
على العين الأخرى، ولقد جرح عبد الله بن عبيد (١) وبانت يده يوم حنين، فجاءإلى النبي صلى الله عليه وآله فمسح عليه يده فلم تكن تعرف من اليد الأخرى، ولقد أصاب محمدابن مسلم يوم كعب بن أشرف مثل ذلك في عينه ويده، فمسحه رسول الله صلى الله عليه وآلهفلم تستبينا، ولقد أصاب عبد الله بن أنيس مثل ذلك في عينه، فمسحها فما عرفتمن الأخرى، فهذه كلها دلالة لنبوته صلى الله عليه وآله.
قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون: أنه أحيى الموتى بإذن الله؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد سبحت في يده تسع حصياتتسمع نغماتها في جمودها، ولا روح فيها لتمام حجة نبوته، ولقد كلمه الموتى منبعد موتهم، واستغاثوه مما خافوا تبعته، ولقد صلى بأصحابه ذات يوم فقال: ماهاهنا من بني النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلاناليهودي، وكان شهيدا، ولئن زعمت أن عيسى كلم الموتى فلقد كان لمحمدما هو أعجب من هذا: إن النبي لما نزل بالطايف وحاصر أهلها، بعثوا إليه بشاةمسلوخة مطلية بسم، فنطق الذراع منها فقالت: يا رسول الله لا تأكلني فإني مسمومةفلو كلمته البهيمة وهي حية لكانت من أعظم حجج الله على المنكرين لنبوته، فكيفوقد كلمته من بعد ذبح وسلخ وشي (٢)! ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يدعوبالشجرة فتجيبه، وتكلمه البهيمة، وتكلمه السباع، وتشهد له بالنبوة، وتحذرهمعصيانه، فهذا أكثر مما أعطي عيسى عليه السلام.
قال له اليهودي: إن عيسى يزعمون أنه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدخرونفي بيوتهم؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد كان له أكثر من هذا: إنعيسى أنبأ قومه بما كان من وراء الحايط ومحمد أنبأ عن مؤتة (٣) وهو عنها غائب ووصف
(١) في بعض النسخ: ” بن عتيك “.
(٢) أي: من بعدك ما صار مشويا مطبوخا.
(٣) مؤتة – بضم الميم وسكون الهمزة وفتح التاء – اسم موضع قتل فيه جعفر
=>
حربهم ومن استشهد منهم وبينة وبينهم مسيرة شهر، وكان يأتيه الرجل يريد أنيسأله عن شئ فيقول صلى الله عليه وآله: تقول أو أقول: فيقول: بل قل يا رسول الله فيقول:
جئتني في كذا وكذا حتى يفرغ من حاجته، ولقد كان صلى الله عليه وآله يخبر أهل مكةبأسرارهم بمكة حتى لا يترك من أسرارهم شيئا، منها: ما كان بين صفوان بن أميةوبين عمير بن وهب، إذ أتاه عمير فقال: جئت في فكاك ابني فقال له: كذبت بلقلت لصفوان بن أمية وقد اجتمعتم في الحطيم وذكرتم قتلى بدر وقلتم: والله للموتأهون علينا من البقاء مع ما صنع محمد بنا، وهل حياة بعد أهل القليب، فقلتأنت: لولا عيالي، ودين علي لأرحتك من محمد، فقال صفوان: علي أن أقضيدينك، وأن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما يصيبهن من خير أو شر، فقلت أنت:
فاكتمها علي وجهزني حتى أذهب فأقتله، فجئت لقتلي، فقال: صدقت يا رسول الله فأناأشهد: أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأشباه هذا مما لا يحصى.
قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون: أنه خلق من الطين كهيئة الطير فنفخفيه فكان طيرا بإذن الله؟
فقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله قد فعل ما هو شبيه لهذاإذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا وتقديسا، ثم قال للحجر: انفلقفانفلق ثلاث فلق، يسمع لكل فلقة منها تسبيحا لا يسمع للأخرى، ولقد بعثإلى شجرة يوم البطحاء فأجابته، ولكل غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس، ثم قاللها: انشقي، فانشقت نصفين، ثم قال لها: التزقي، فالتزقت، ثم قال لها: اشهديلي بالنبوة فشهدت، ثم قال لها ارجعي إلى مكانك بالتسبيح والتهليل والتقديسففعلت، وكان موضعها حيث الجزارين بمكة.
قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه كان سياحا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد كانت سياحته في الجهاد، واستنفر
<=
ابن أبي طالب (ع) والنبي ” ص ” في المدينة فأخبر أصحابه بقتله وهو من على المنبروقد مر ذكره في هامش ص ١٧٢.
في عشر سنين ما لا يحصى من حاضر وباد، وأفنى فئاما من العرب (١) من منعوتبالسيف لا يدارى بالكلام (٢) ولا ينام إلا عن دم، ولا يسافر إلا وهو متجهزلقتال عدوه.
قال له اليهودي: فإن عيسى يزعمون: أنه كان زاهدا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، محمد صلى الله عليه وآله أزهد الأنبياء عليهم السلام: كانله ثلاثة عشر زوجة سوى من يطيف به من الإماء، ما رفعت له مائدة قط وعليهاطعام، ولا أكل خبز برقط، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قط،توفي رسول الله صلى الله عليه وآله ودرعه مرهونة عند يهودي بأربعة دراهم، ما ترك صفراءولا بيضاء مع ما وطئ له من البلاد، (٣) ومكن له من غنائم العباد، ولقد كانيقسم في اليوم الواحد الثلثمائة ألف وأربعمائة ألف ويأتيه السائل بالعشي فيقول:
والذي بعث محمدا بالحق ما أمسى في آل محمد صاع من شعير، ولا صاع من بر، ولادرهم، ولا دينار.
قال له اليهودي: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد أنهما أعطى الله نبيا درجة ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه وآله، وزاد محمداعلى الأنبياء أضعاف درجات.
فقال ابن عباس لعلي بن أبي طالب عليه السلام: أشهد يا أبا الحسن إنك منالراسخين في العلم.
فقال ويحك وما لي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه الله عز وجل فيعظمته فقال: ” وإنك لعلى خلق عظيم ” (٤).
(١) الفئام – بالكسر مهموزا -: الجماعة الكثيرة وقد فسر في بعض الأخباربمائة ألف. (٢) في بعض النسخ: ” لا يبالي “.
(٣) وطئ له: مهد وذلل ويسر.
(٤) القلم – ٤.
إحتجاجه (ع) على بعض اليهود وغيره في أنواع شتى من العلوم (١).
عن صالح عن عقبة (٢) عن الصادق عليه السلام قال: لما هلك أبو بكر واستخلفعمر، خرج عمر إلى المسجد فقعد، فدخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنيرجل من اليهود، وأنا علامتهم، قد أردت أن أسئلك عن مسائل إن أخبرتني بها أسلمتقال: وما هي؟ قال: ثلاث، وثلاث وواحدة، فإن شئت سئلتك، وإن كان فيالقوم أحد أعلم منك فارشدني، قال: عليك بذاك الشاب يعني علي بن أبي طالب عليه السلامفأتى عليا عليه السلام فسأل فقال له: قلت: ثلاثا وثلاثا وواحدة ألا قلت سبعا؟ قالإني إذا لجاهل، إن لم تجبني في الثلاث اكتفيت. قال: فإن أجبتك تسلم؟
قال: نعم.
قال: سل.
قال: أسألك عن أول حجر وضع على وجه الأرض، وأول عين نبعت، وأولشجرة نبتت؟
قال: يا يهودي أنتم تقولون: أول حجر وضع على وجه الأرض الحجر الذيفي بيت المقدس، وكذبتم، هو: ” الحجر الأسود ” الذي نزل مع آدم عليه السلام من الجنةقال: صدقت والله إنه لبخط هارون وإملاء موسى عليه السلام.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: وأما العين فأنتم تقولون، إن أول عين نبعت على
(١) في ج ٤ من بحار الأنوار ص ٩٤ عن عيون أخبار الرضا والخصال للصدوقأبي عن سعد عن ابن أبي الخطاب عن الحكم بن مسكين الثقفي عن صالح بن عقبة عن جعفرابن محمد ” ص ” قال: لما هلك أبو بكر.. الخ ثم قال قال الصدوق في الخصال وقدأخرجت هذا الحديث من طرق في كتاب: ” الأوايل “. أيضا عن كمال الدين وتمامالنعمة: أبي وابن الوليد معا عن سعد مثله.
(٢) صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان مولى رسول الله ” ص ” عده الشيخ فيأصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام وذكره العلامة في القسم الثاني من الخلاصة.
يا أمير المؤمنين من البيوت في قول الله عز وجل: ” وليس البر بأن تأتواالبيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها (١) “؟
قال علي عليه السلام نحن البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها، نحنباب الله وبيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا وأقر بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابهاومن خالفنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورهافقال: يا أمير المؤمنين وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم؟
فقال علي عليه السلام: نحن أصحاب الأعراف: نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحنالأعراف يوم القيامة بين الجنة والنار، ولا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه،ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه، وذلك بأن الله عز وجل لو شاء عرفللناس نفسه حتى يعرفوه وحده ويأتوه من بابه، ولكنه جعلنا أبوابه وصراطه وبابهالذي يؤتى منه، فقال – فيمن عدل عن ولايتنا وفضل علينا غيرنا -: ” فإنهم عنالصراط لناكبون ” (٢).
وعن الأصبغ بن نباتة أيضا قال أتى ابن الكوا أمير المؤمنين فقال:
والله إن في كتاب الله آية اشتدت على قلبي، ولقد شككت في ديني.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ثكلتك أمك وعدمتك، ما هي؟
قال: قول الله تبارك وتعالى: ” والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ” (٣)فما هذا الصف؟ وما هذه الطيور؟ وما هذه الصلاة؟ وما هذا التسبيح؟
فقال علي عليه السلام: ويحك يا بن الكوا إن الله خلق الملائكة على صور شتىألا وإن لله ملكا في صورة ديك، أبح، أشهب، براثنه في الأرضين السفلى، وعرفه
<=
عملك ولتكونن من الخاسرين ” وكان علي عليه السلام يؤم الناس وهو يجهر بالقراءة،فسكت عليه السلام حتى سكت ابن الكواء، ثم عاد في قراءته فعاد حتى فعل ذلك ثلاثافلما كان في الثالثة قرأ أمير المؤمنين عليه السلام: ” فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنكالذين لا يوقنون “.
(١) البقرة – ١٨٩.
(٢) المؤمنون – ٧٤.
(٣) النور – ٤١.
مثني تحت عرش الرحمن، له جناح بالمشرق من نار، وجناح بالمغرب من ثلجفإذا حضر وقت كل صلاة قام على براثنه، ثم رفع عنقه من تحت العرش، ثمصفق بجناحيه كما تصفق الديكة في منازلكم، فلا الذي من نار يذيب الثلج، ولاالذي من الثلج يطفئ النار، ثم ينادي: ” أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد النبيين، وأن وصيه خير الوصيين، سبوح،قدوس، رب الملائكة والروح ” قال: فتصفق الديكة بأجنحتها في منازلكم بنحومن قوله، وهو قول الله تعالى: ” كل قد علم صلاته وتسبيحه ” من الديكة في الأرضوعن الأصبغ بن نباتة أيضا قال: سأل ابن الكوا أمير المؤمنين عليه السلام فقال:
أخبرني عن بصير بالليل وبصير بالنهار؟ وعن أعمى بالليل وأعمى بالنهار؟
وعن أعمى بالليل بصير بالنهار؟ وعن أعمى بالنهار بصير بالليل؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ويلك سل عما يعنيك، ولا تسأل عما لا يعنيكويلك أما بصير بالليل وبصير بالنهار فهو: رجل آمن بالرسل والأوصياءالذين مضوا، وبالكتب والنبيين، وآمن بالله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله، وأقر لي بالولايةفأبصر في ليله ونهاره.
وأما أعمى بالليل أعمى بالنهار فرجل: جحد الأنبياء والأوصياء، والكتبالتي مضت، وأدرك النبي فلم يؤمن به، ولم يقر بولايتي، فجحد الله عز وجلونبيه صلى الله عليه وآله فعمي بالليل وعمي بالنهار.
وأم بصير بالليل أعمى بالنهار فرجل: آمن بالأنبياء والكتب، وجحدالنبي صلى الله عليه وآله وأنكرني حقي، فأبصر بالليل وعمي بالنهار.
وأما أعمى بالليل وبصير بالنهار فرجل: جحد الأنبياء الذين مضوا، والأوصياءوالكتب، وأدرك محمدا صلى الله عليه وآله، فآمن بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وآله، وآمن بإمامتي وقبلولايتي، فعمي بالليل وأبصر بالنهار.
ويلك يا بن الكوا، فنحن بنو أبي طالب بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه.
قال الأصبغ فلما نزل أمير المؤمنين عليه السلام من المنبر تبعته فقلت: يا سيدي