بسم الله الرحمن الرحيم
انتهينا في محاضرتنا السابقة من الحديث عن المراحل التربوية وكنا قد بدأنا الحديث عن التربية وعلم النفس من خلال تمهيد اوضحنا فيه الفارق بين علم النفس والتربية،
وانتهينا إلى أن كلاً من التربيةوعلم النفس يهدف إلى نشاط ونتيجة مماثلة للشخصية ألا وهي إنماء القوى المودعة لدى الشخصية للوصول بها إلى حد الكمال الإنساني، وقلنا إن مصطلح الكمال الإنساني يظل مصطلحاً نسبياً يتفاوت تحديده من ثقافة إلى أخرى، ولكننا انتيهنا إلى أن التصور الإسلامي أيضاً له تحديده لهذا الجانب متمثلاً في السلوك العبادي تبعاً لقوله تعالى: (ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) حيث أن هذه الآية الكريمة تشير بوضوح إلى أن هدف الخلائق أساساً هو ممارسة العبادة، وقلنا إن العبادة هي مطلق سلوك الإنسان ولكن وفق المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى.
إذاً هدف التربية هو إنماء القوى المودعة لدى الإنسان حتى يصل إلى مرحلة الكمال العبادي، وقد قدمنا تعريفاًتبعاً لها الفهم يتناسب مع مفهوم التربية وقلنا أن التربية هي عملية تنشئة أو عملية تدريب لتعلم السلوك العبادي، هذا فيما يتصل بالتربية، أما فيما يتصل بعلم النفس فقد قلنا أن علم النفس يعنى بنشاط الكائن الإنساني من زاوية خاصة هي الطريقة التي يستجيب بها نحو المحركات التي يواجهها في حياته؛
وقلنا إن الهدف من دراسة هذه الاستجابة هي تعديلها بحيث تتناسب والسلوك السوي الذي يستهدفه علم النفس أساساً، وقلنا أيضاً المقصود بالسلوك الصائب الصادر عن الشخصية بنحو صحي خالٍ من أية اضطرابات أو انحرافات نفسية، وبكلمة أخرى يهدف علم النفس إلى تعديل السلوك البشري بنحوٍ يتسم بالسلامة النفسية والخلوّ من الأمراض النفسية وما إلى ذلك..
وأما إسلامياً فقد قلنا أن علم النفس الإسلامي يهدف إلى نفس النتيجة المشار إليها ولكن بإضافة شيء جديد ألا وهوالمبادئ الإسلامية التي ينبغي أن تلتزم الشخصية بها حتى تستكمل سويتها وإلا فإن الشخصية السوية في التصور الأرضي إذا كانت غير ملتزمة إسلامياً فإنها تفقد هذا الطابع حسب التصور الإسلامي.
كل هذا حدثناكم عنه ولكن بنحو إجمالي، أما الآن فنريد أن نحدثكم عن هذه الجوانب بشكل تفصيلي، أي النظر إلى السلوك البشري من خلال زاوية التصور الإسلامي وما يهدف إليه هذا التصور من نتائج ترتبط بالسلوك.
من هنا تحدثنا أولاً عن التركيبة البشرية حتى نستبين من خلال ذلك الطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك بما يتناسب وهذه التركيبة البشرية حتى نصل من ذلك إلى السلوك العبادي المطلوب، ثم تحدثنا عن مراحل التربية وبدأنا الحديث عن المراحل التمهيدية المتمثلة في الانتقاء الزوجي ومرحلة انعقاد النطفة ومرحلة الحمل ومرحلة النفاس ومرحلة الرضاعة.. وبعد ذلك حدثناكم من المراحل الرئيسة متمثلة في مرحلة الطفولة الأولى والثانية وفي مرحلة الرشد وبخاصة المرحلة النهائية منها وهي المراهقة إلى آخر حياة الإنسان..
أما الآن فنتابع حديثنا عن هذه الجوانب ولكن نبدأ فنحدثكم أولاً عن الخطوط العامة المطلوبة في السلوك حتى تستطيع العمليات التربوية أن تسلك هذه الخطوط بنحو تصل من خلالها إلى تحقيق الهدف الأساس ألا وهو تعلّم السلوك العبادي المطلوب أو إلى هدف تعلم السلوك السوي المطلوب، حيث أن تعلم السلوك السوي كما قلنا يهدف إليه كل من علم النفس والتربية الأرضية، ويهدف إليه أيضاً علم النفس والتربية الإسلامية، إذاً يتعين علينا الآن كتمهيد أن نتحدث عن الخطوط العامة للسلوك المفضي إلى تحقيق ما هو السوي من السلوك نفسياً وعبادياً في الآن ذاته.
نبدأ ذلك فنتحدث عن تصنيف السلوك وهذا ما ندرجه ضمن عنوان جديد هو: (الطرائق التربوية وصلتها بتصنيف السلوك):
وفي هذا المجال نقول:
سبق أن قلنا أن علم النفس والتربية يعنيان بسلوك الكائن الآدمي من خلال العملية النفسية الآتية وهي الاستجابة حيال مثير معين، وفي ضوء هذه العملية يتقدم علماء النفس والتربية بتصنيف السلوك إلى أنماط الاستجابة لدى الكائن الآدمي، وتحديد هذه الأنماط ومحاولة تفسيرها ورسم الطرائق التي تتكفل بالإشباع السليم لحاجات الكائن الإنساني، فمثلاً من حيث الدوافع أو الأصول الحيوية أو البيولوجية بالنسبة إلى الكائن الآدمي نجد أن الكائن المذكور يتحسس على سبيل المثال بالحاجة إلى الجنس، وأمامه طريقان لاثالث لهما:
1ـ الإشباع المطلق؛ أي الإشباع غير المقيد بالمبادئ والضوابط المقررة.
2ـ الإشباع المقيد بالضوابط أو المبادئ.
ومثاله من الدوافع أو الأصول النفسية، أمامنا مثير هو النقود أو الأرض أو أية ممتلكات أخرى ونحن حيال الممتلكات المذكورة نواجه استجابتين لا ثالث لهما:
1ـ أن نتقدم إلى حيازة هذ الممتلكات.
2ـ أن نحجم عنها.
إذن ثمة طريقان لا ثالث لهما في إشباع أية حاجة من حاجاتنا سواء أكانت هذه الحاجات بيولوجية كالجنس والطعام، أو نفسية كالتملك والتفوق، وسواء أكنا نحس بالحاجة النفسية للتملك أو لانحس .. الخ.
فنحن في حالة البحث عن الجنس أوالطعام نواجه أسلوبين من الإشباع:
1ـ الأسلوب الشاذ، وهو الإشباع المطلق حيث لا يأخذ فيه الفرد أية قيم اجتماعية ينتسب إليها.
2ـ الأسلوب السوي أو الصائب أو الصحيح ونعني به الإشباع المقيد بقيم الفرد والجماعة التي يتنسب إليها.
وكذلك في حالة التملك نواجه أسلوبين: هما الشذوذ والسوية، فلو تملكنا الأرض والنقود بطرق غير مشروعة فإن الإشباع يتسم بكونه شاذاً وفي حالة العكس فإن الإشباع يتخذ سمة السوية، وكذلك في حالة عدم إحساسنا أساساً بالحاجة إلى التملك، فإننا أيضاً نواجه أسلوبين من الاستجابة؛ إحداهما الاستجابة الشاذة والأخرى الاستجابة السوية، فالاستجابة تكون سوية حينما نفلسف الحياة بأنها متاع عابر، وأن حيازة الممتلكات تشكل وسيلة إلى غاية معينة، وأما الاستجابة الشاذة فتتكون من خلال رفضنا أن نتملك على نحو أعتباطي دون الاستناد لأية قيم موضوعية أو حينما نحس بالحاجة فعلاً إلى النقود أو الأرض ثم نرفض تملكهما بدون أي مسوغ يعتد به كما هو حالة البلهاء مثلاً.
إذن في الحالات جميعاً نواجه نمطين من الاستجابة: أحدهما الاستجابة الشاذة والثانية الاستجابة السوية، وحيال هذا التحديد لا نجد نمطاً ثالثاً من العمليات النفسية لدى الكائن الآدمي، وهذا يعني أن علماء النفس والتربية حينما يحاولون تصنيف العمليات النفسية فإنهم يحددون ذلك بالضرورة في نمطين من السلوك:
أولاً: السلوك الشاذ.
ثانياً: السولك السوي.
وإذا كان الأمر كذلك فإن تحديد ما هو سوي أو شاذ وتقديم الطرائق التربوية الصائبة للوصول إلى ما هو سوي يظل محور الدراسات لدى الباحثين في هذا الميدان.
والآن نتقدم ونتساءل قائلين: ما هو التصور الأرضي للسلوك الشاذ والسلوك السوي وبالمقابل ما هو التصور الإسلامي لهما؟!.
إذن سينصب حديثنا على نمطين من السلوك؛ السلوك السوي والسلوك الشاذ، وخلال حديثنا عن تحديد ما هو شاذ وما هو سوي نحدثكم عن كل من هذين التصورين حيث نقول سلفاً: يتفق التصوران الإسلامي والأرضي على تحديد ما هو سوي من السلوك في نطاق ما هو نفسي ولكنهما يفترقان في نطاق ما هو فكري، أي أن السلوك السوي في التصور الإسلامي يشمل السلوك السوي الذي يهدف إليه الأرض بالإضافة إلى المبادئ الإسلامية التي يلتزم بها الشخص وفي حالة التزامه بهذه المبادئ على النحو المطلوب حينئذٍ يتسم سلوكه بالسوية وإلا فإنه ينتسب إلى السلوك الشاذ، وكل هذا ما سنوضحه في محاضراتنا اللاحقة إنشاء الله.
أما الآن فنبدأ ونعيد تكرار السؤال القائل: ما هو التصور الأرضي للسلوك الشاذ والسلوك السوي، وبالمقابل ما هو التصور الإسلامي لهما؟ وسنجيب عن هذا السؤال الآن بادئين ذلك بالحديث أولاً عن التصور الأرضي للسلوك الشاذ والسوي فنقول: يصنف علماء الأرض أو علماء البحث الأرضي في ميدان التربية وعلم النفس السلوك إلى شاذ وسوي، أما الشاذ فيطلقون عليه طابع المرض النفسي أو العقلي أو العصبي وهو بعامة قسمان:
أولاً: العصاب.
ثانياً: الذهان أو الجنون.
والأول منهما أي العصاب يمثل مرضاً نفسياً، وأما الثاني أي الذهان أو الجنون فمثل مرضاً عقلياً، والعصاب عادة يجسد نوعاً من الاضطراب لدى الشخصية مصحوباً بمقدار من التوتر ولكن مع احتفاظ الشخصية بوعيها للواقع، أي أنها تميز ما تشاهده أو ما تواجهه من الظواهر وتفرز ما هو واقعي منها وما هو خيالي أو وهمي من الظواهر المذكورة، ومثال ذلك الخوف من عبور النهر مثلاً، مع معرفة الشخصية بسخف مثل هذا الخوف ولكنها مضطرة لأسباب نشرحها فيما بعد إلى أن تستجيب هذه الشخصية استجابة خائفة حيال المثير، ألا وهو النهر بحيث لا تستطيع عبوره على سبيل المثال.
وهناك أنماط متنوعة من السلوك العصابي تمثل الاستجابة العصابية للظواهر كالحقد والزهو والكذب والخيانة والتعصّب والغيبة والطمع والحسد وو.. الخ.
حيث أن البعض منها مصحوب بوعي الشخصية بشذوذها والبعض الآخر غير مصحوب بالوعي المذكور بل تحياها الشخصية بشكل لا شعوري، أي غير واع.
ومثال ذلك التكبر، فالمتكبر مثلاًوهو الشخصية التي تعالى على الآخرين وتحس بأنها متفوقة عليهم، مثل هذه الشخصية قد لا تعي مصدر سلوكها الشاذ وهو متمثل في الواقع في أنها تحس أساساً بالذلّ داخل نفسها تعوض عن ذلك الإحساس بالذنب بعملية التكبّر على الآخرين، تغطية للذل الذي تتحسسه.
أما الكذب مثلاً فإن الشخصية تعي شذوذه وتقر بأنه مفارقة أو ذنب إلا أنها تمارسه عمداً لتحقيق إشباع عابر لنزواتها، والمهم أن الأنماط المذكورة من السلوك تجسد استجابة عصابية يستوي في ذلك أن تكون الشخصية على وعي بمصادر هذا السلوك، أو على جهلٍ به، كما يستوي في ذلك أن تكون الشخصية على وعي بشذوذ السلوك ذاته أو على جهلٍ به، كما يستوي في ذلك ثالثاً أن تكون الشخصية على وعي بالتوتر الذي يصاحب سلوكها أو على جهلٍ به.
فالشخصية المتكبرة مثلاً قد يصاحب سلوكها مقدار من التوتر الداخلي تتحسسه فعلاً، ولكن هذا التوتر يتضخم حجمه عند الشخصية الحاسدة أو الطامعة أو الغاضبة، بحيث تتحسسه بوضوح في حين أن الشخصية الكاذبة أو المفترية مثلاً قد لا تتحسس بالتوتر بل على العكس قد يخيل إليها أنها تتحسس مقداراً من اللذة أو مقداراً من إزاحة التوترات التي تحياها، ولكنها في الواقع على جهل بالتوتر الذي يصاحب أعماقها.
على أية حال إن العصاب بعام يمثل اضطراباً في الشخصية مع احتفاظ الشخصية بسلامة قواها العقلية، أما الذهان أو الجنون فهو اضطراب خطير يصيب الشخصية بحيث يغيب معه وعي الشخصية بواقعها المريض ويختلط لديها عالم الحقائق والأوهام، أي أنها لا تحتفظ بسلامة القوى العقلية ومثاله الجنون بكل أشكاله.
وهناك من الباحثين من يفرض أمراضاً يطلق عليها بأمراض التخلف العقلي كالبلاهة والعته ونحوهما نمطاً ثالثاً من الشذوذ، كما أنه من يفرض ما يطلق عليه أسم أمراض الشخصية نمطاً رابعاً من الشذوذ وهذا النمط يتمثل فيما يصطلح عليه بالشخصية السيكوباتية حيث تتميز بالانحراف الملحوظ في مشاعرها وميولها واخلاقها، وهي شخصية يطبعها عدم الإحساس بالمسؤولية وعدم الاستبصار بنتائج الأمور، وعدم التأثر بالثواب والعقاب..الخ.
مع ملاحظة أنها تظل محتفظة بقواها العقلية بنحو عام.
وأياً كان الأمر فإن التصنيف للسلوك الشاذ يمكننا أن نشطره أنسياقاً مع غالبية الاتجاه الأرضي إلى عصاب وذهان، مع ملاحظة أن الاحتفاظ بالقوى العقلية هو المميز للعصاب دون الآخر.
ومع ذلك لا يفوتنا أن نشير إلى أن بعض الباحثين يرى أن الفارق بين العصاب والذهان منحصر في الدرجة لا في النوع، أي أن الذهان بعامة تضخيم لأعراض العصاب،. والحق أن معيار التمييز بين الظواهر، أي بين الحقيقة وبين الوهم يظل هو المتحكم في فرز الذهان عن العصاب، ونحن يعنينا بذلك أن نؤكد أن اهتمامنا منصب بنحوٍ عام على السلوك العصابي بطبيعة الحال، أما الذهان فلا نعرض له إلا في نطاق البحث المتصل بالتنشئة ومساهمتها في تعديل السلوك، وقد عرفنا أن البحث الارضي يعرّف العصاب والذهان، أو بالأحرى يعرف الشذوذ بما قدمناه الآن بعد ذلك نتجه لنرى التصور الإسلامي للظاهرة وهذا ما يتمثل في ذهابنا إلى أن التصور الإسلامي في الواقع بدوره يشطر العمليات النفسية إلى ما هو شاذ وإلى ما هو سوي من الاستجابة. ما دام المشرع الإسلامي أساساً قد رسم الكائن الآدمي وفقاً لتركيب ثنائي هو الشهوة أو العقل أو الذات أو الموضوع بالنحو الذي حدثناكم عنه في بداية محاضراتنا، حينئذٍ فكل استجابة باحثة عن اللذة هادفة إلى الإشباع المطلق تعد سلوكاً شاذاً وبالمقابل كل استجابة تبحث عن اللذة تهدف إلى الإشباع المقيد تعد سلوكاً سوياً.
.