مقدمة المركز
الحمد لله الواحد الأحد الذي تطمئن القلوب بذكره ، والصلاة والسلام علىٰ أبي القاسم محمد أشرف أنبياء الله ورسله ، وعلىٰ آله المنتجبين أولي الألباب والنهىٰ ، وعدل الكتاب المطهرين بمحكمه وكفىٰ .
تبرز أهمية الحديث عن الاُسرة اليوم في خضم الصراع الحضاري والثقافي الدائر بين الإسلام كدين ونظام للحياة والمجتمع وبين الأنظمة المادية ، سواء في الشرق أو الغرب ، التي جعلت تفكيك الاُسرة أو تهميش الروابط الاُسرية جزءا لا يتجزء من صياغاتها النظرية وبرامجها العملية ، مع ما تمتلكه هذه الأنظمة المادية اليوم من عناصر قوة تمكنها من الاختراق الثقافي للمجتمعات الإسلامية التي افتقدت منذ زمن عنصر المبادرة ، بل افتقدت إلىٰ حدٍ كبير القدرة علىٰ التحصن الثقافي ضد أي غزو أو اختراق من هذا النوع .
وإذا كان الإسلام يتمتع بقدراته الذاتية الفائقة بما يتوفر عليه من نظم شاملة ومتماسكة فإن المسلمين بحاجة دائما إلىٰ مزيد من الوعي الذي يرتفع بمعارفهم الإسلامية إلىٰ مستوىٰ الثقافة العملية المعاشة في الواقع ، من أجل تقليل الفجوة بين واقعهم العملي وبين ما يستندون إليه من رصيد عقيدي وفكري اثبتت وتثبت تجارب الاُمم أنه الرصيد الأكمل والأعظم ، شمولاً وعمقاً وتماسكاً ، من أي رصيد آخر تستند إليه أُمّة من أُمم الأرض .
فها نحن نشهد في عصرنا الحديث صرخات الكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع الغربيين وهي تتوجع من نظام تفكيك الاُسرة ومخلفاته السيئة علىٰ الفرد والمجتمع ، مشفوعة باحصاءات علمية تؤكد دعواهم المستمرة إلىٰ
المحافظة علىٰ نظام الاُسرة وصيانة كيانها ، بل قد ذاق المجتمع الغربي نفسه مرارة واقعه الاُسري المفكك فظهرت جمعيات خاصة لمقاومة اتجاه النساء إلىٰ العمل خارج المنزل ، واُخرىٰ تدعو إلىٰ العودة إلىٰ الأديان السماوية وتعاليمها في شأن الاُسرة .. فيما خصصت احدىٰ الحكومات الاسكندنافية أخيراً مكافئات مالية مغرية للآباء أيام الاجازات، ترغيباً لهم في أن يقضوا أوقاتاً أطول مع أبنائهم .
ولكن مهما بلغت هذه الصرخات من قوة وقدرة علىٰ التأثير فإنها ستبقىٰ معالجات سطحية إذا ما قورنت بالنظام الاُسري في الإسلام الذي تتوزع أركانه علىٰ المجتمع والاُسرة والفرد ، ليضمن تحقيق الاستعداد التام لتكوين الاُسرة السليمة ، منذ مقدماتها الاُولىٰ ، متابعاً مراحل نشأتها وتكوينها ونموها ، في ما هو اُسري بحت ، وفي ما يتجاوز اطار الاُسرة إلىٰ المجتمع . الأمر الذي يتطلب تحقيق المستوىٰ الأفضل من الوعي برسالة هذا النظام والمعرفة بتفاصيله التي تنتظم في نسق متكامل لا يستغني فيه بعضها عن بعض .
من أجل ذلك كلّه تتبنىٰ سلسلة «المعارف الإسلامية» التي يصدرها مركز الرسالة هذا الكتاب الذي يذهب بالقارئ إلىٰ أوليات ما عني به الإسلام من آداب الاُسرة ، وما وضعه من فقه خاص بها ، آملين تحقيق النفع المطلوب والفائدة المرجوة .
والله من وراء القصد
مركز الرسالة
المقدِّمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ خاتم الرسل والأنبياء محمد المصطفىٰ وعلىٰ آله الطيبين الطاهرين ، وصحبهم المنتجبين .
وبعد : الاُسرة هي اللبنة الاُولىٰ لتكوين المجتمع ، وهي نقطة الانطلاق في انشاء وتنشئة العنصر الإنساني ، ونقطة البدء المؤثرة في جميع مرافق المجتمع ومراحل سيره الايجابية والسلبية ، ولهذا أبدىٰ الإسلام عناية خاصة بالاُسرة ، فوضع لها آداباً وفقهاً متكاملاً شاملاً لجميع جوانبها النفسية والسلوكية .
وآداب الاُسرة ، أو قل فقه الاُسرة لم ينشأ من فراغ ولا يبحث في فراغ ، وإنّما هو فقه واقعي ، يراعي الطبيعة البشرية بما فيها الفوارق الجسدية والنفسية بين الجنسين ، ويراعي الحاجات الفطرية ، فلا يبدلها ولا يعطلها ولا يحمّلها ما لا تطيق ، وهو يتمثل بالدقة في تناول كل خالجة نفسية وكل موقف وكل حركة سلوكية ، ويجعل العلاقات في داخل الاُسرة علاقات سكنٍ للروح وطمأنينةٍ للقلب وراحةٍ للجسد ، علاقات ستر واحصان ، ويهذب النفس للحيلولة دون استسلامها للاهواء والشهوات المتقلبة ، ويحررها من نزعات المطامع والرغبات الزائلة .
إنّها الآداب المستمدة من النصوص القرآنية والحديث الشريف ، والتي تواكب جميع المراحل التي تمرُّ بها الاُسرة قبل تشكيلها وبعده ، فتضع لكلِّ
مرحلة قواعدها الكلية والجزئية الشاملة لجوانب النفس وجوانب الحوادث والمواقف ، فتحدد العلاقات بين الجنسين قبل الزواج وبعده ، وقبل توسع الاُسرة بالانجاب وبعده ، وتحدّد العلاقات داخل الاُسرة علىٰ ضوء المرسوم من الحقوق والواجبات القائمة علىٰ التكافل والتراحم والتناصح والسماحة والمودة والاحسان ، وترسم للاُسرة طريقها في التعامل الاجتماعي ، من أجل التكاتف والتآزر في بناء واصلاح كيانها والكيان الاجتماعي الكبير .
وبالتالي فهي ترفد الاُسرة بمنهج حياة واقعي يتتبع أهميتها وخصوصياتها وآمالها وآلامها وعلاقاتها ، واضعةً الحلول اللازمة ، وقايةً وعلاجا للخلافات المتأصلة أو الطارئة .
وفي بحثنا هذا نتابع آداب الاُسرة في جميع مراحلها ، علىٰ فصول : نتناول في الفصل الأول : مقدمات تشكيل الاُسرة ، واختيار شريك الحياة المناسب ، وفي الفصل الثاني : الأحكام العملية لبناء الاُسرة ابتداءً بالعقد وانتهاءً بالولادة والحضانة ، وفي الفصل الثالث : الحقوق الاُسرية ، وفي الفصل الرابع : الخلافات الزوجية وأسلوب معالجتها إيجابا وسلبا ، وفي الفصل الخامس : علاقات الاُسرة بالمجتمع ابتداءً بالأرحام ومروراً بالجيران وانتهاءاً بالمجتمع الكبير ، وأخيراً نتناول في الفصل السادس : أحكام عامّة للعلاقة بين الجنسين ، وأحكام العلاقة بين المحارم وغيرهم . وسنقوم بمتابعة النصوص القرآنية والروايات الواردة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن أهل بيته عليهمالسلام ، وآراء الفقهاء المتقدمين بالدرجة الاُولىٰ ، وآراء بعض الفقهاء المتأخرين ، وقد اخترنا الآراء التي لا خلاف فيها ؛ من خلال متابعة
آراء أكبر عدد من الفقهاء المشهورين متقدمين كانوا أم متأخرين ، واخترنا في الهامش المصدر الأوضح في الدلالة والصياغة العلمية والأدبية ، وهو ليس ترجيحا لرأي علىٰ آخر ، وإنّما ترجيح لمصدر علىٰ آخر ، وملاك الترجيح هو سهولة الاُسلوب وملائمته لجميع المستويات الثقافية ، متجنبين استخدام العبارات الغامضة .
ومنه تعالىٰ نستمد العون والتسديد
الفصل الأول مقدمات تشكيل الاُسرة
معنىٰ الاُسرة :
الاُسرة لغةً :
أُسرة الرجل : عشيرته ورهطه الأدنون ؛ لأنّه يتقوىٰ بهم (١) .
والاُسرة : عشيرة الرجل وأهل بيته (٢) .
والاُسرة : أهل الرجل وعشيرته ، والجماعة يربطها أمر مشترك (٣) .
والاُسرة : أهل بيت الإنسان وعشيرته ، وأصل الاُسرة الدرع الحصينة ، وأطلقت علىٰ أهل بيت الرجل ؛ لأنّه يتقوىٰ بهم (٤) .
_______________
١) لسان العرب / ابن منظور ٤ : ٢٠ ، مادة: أسر ، نشر أدب الحوزة ، قم ١٤٠٥ هـ .
٢) لسان العرب ٤ : ٢٠ .
٣) المعجم الوجيز ، لمجمع اللغة العربية : ١٦ ، دار الثقافة ، قم ١٤١١ هـ .
٤) دائرة معارف القرن العشرين / محمد فريد وجدي ١ : ٢٧٧ ، دارالمعرفة ، بيروت .
الاُسرة اصطلاحاً :
هي رابطة الزواج التي تصحبها ذُرّية (١) .
وهي : رابطة اجتماعية تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما ، وتشمل الجدود والأحفاد وبعض الأقارب علىٰ أن يكونوا في معيشة واحدة (٢) .
استحباب النكاح وأهميته :
النكاح هو الوسيلة الوحيدة لتشكيل الاُسرة ، وهو الارتباط المشروع بين الرجل والمرأة ، وهو طريق التناسل والحفاظ علىٰ الجنس البشري من الانقراض ، وهو باب التواصل وسبب الأُلفة والمحبة ، والمعونة علىٰ العفّة والفضيلة ، فبه يتحصّن الجنسان من جميع ألوان الاضطراب النفسي ، والانحراف الجنسي ، ومن هنا كان استحبابه استحباباً مؤكّداً ، قال تعالىٰ : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .
ووردت روايات عديدة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهمالسلام تؤكد هذا الاستحباب ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « تزوجوا فإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : من أحبَّ أن يتبع سنتي فإنَّ من سنتي التزويج » (٤) .
وللزواج تأثيرات إيجابية علىٰ الرجل والمرأة وعلىٰ المجتمع ، فهو الوسيلة للانجاب وتكثير النسل ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « تناكحوا تكثّروا ، فإنّي أُباهي
_______________
١) علم الاجتماع / محمد عاطف : ٩٢ .
٢) الاُسرة والمجتمع / علي عبدالواحد وافي : ١٥ .
٣) سورة النور : ٢٤ / ٣٢ .
٤) الكافي ٥ : ٣٢٩ .
بكم الاُمم ، حتىٰ بالسقط » (١) .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلاً ، لعلَّ الله أن يرزقه نسمة ، تثقل الأرض بلا إله إلّا الله » (٢) .
وهو ضمان لاحراز نصف الدين ، لأنّه الحصن الواقي من جميع ألوان الانحراف والاضطراب العقلي والنفسي والعاطفي ، فهو يقي الإنسان من الرذيلة والخطيئة ، ويخلق أجواء الاستقرار في العقل والقلب والارادة ، لينطلق الإنسان متعالياً عن قيود الأهواء والشهوات التي تكبّله وتشغله عن أداء دوره في الحياة وفي ارتقائه الروحي واسهامه في تحقيق الهدف الذي خُلق من أجله ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من تزوج أحرز نصف دينه ، فليتق الله في النصف الباقي » (٣) .
وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام : « ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليهما الأعزب » (٤) .
وعليه فإنّ استحباب النكاح موضع اتفاق بين المسلمين (٥) .
ولأهمية النكاح جعله رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المرتبة الثانية من مراتب الفوائد المعنوية ، حيث قال : « ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسره إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها
_______________
١) كتاب السرائر ٢ : ٥١٨ .
٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٨٢ .
٣) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٨٣ .
٤) تهذيب الاحكام ٧ : ٢٣٩ / ١ كتاب النكاح باب ٢٢ .
٥) كتاب السرائر ٢ : ٥١٨ . وجامع المقاصد ١٢ : ٨ .
في نفسها وماله » (١) .
وهو باب من أبواب الرزق بأسبابه الطبيعية المقرونة بالرعاية الالهية ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « اتخذوا الأهل ، فإنّه أرزق لكم » (٢) .