ارتقى بالانسانية الى الكمال المطلق فكريا وروحيا كادحة ببصيرة الايمان نحو انوار السماء
دأب المسلمون منذ مدة على البحث في إعجاز القرآن الكريم في مختلف الميادين التي تطرق إليها الكتاب الكريم، فكان هناك بحوث في الإعجاز البياني، والعلمي، والتشريعي، والغيبي، والنفسي .
وفي الجوانب المتعلقة بالنبي _ صلى الله عليه وسلم _ تناولت البحوث الأقوال النبوية الشريفة وما تضمنته من حقائق كشف عنها العلم الحديث، مثل أقواله في الصحة، وإخباره عن بعض الغيبيات، وحتى كتاب السيرة المطهرة لم يجاوزوا في أحسن الأحوال الإفادة من الأحكام الفقهية التي تضمنتها أحداث السيرة، في حين اكتفى الكثير منهم برواية الأحداث وتنقيحها، وهذه الجهود يشكر عليها أصحابها لما تكشف عنه من أحكام معتبرة للدين قد لا نجدها في صريح القرآن والسنة.
فسيرته صلى الله عليه وآله وسلم يستقي منها الدعاة أساليب الدعوة ومراحلها، ويتعرفون على ذلك الجهد الكبير الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيف التصرف أمام العقبات والصعوبات والموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن.
– ويستقي منها المربُّون طرق التربية ووسائلها.
– ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها.
– ويستقي منها الزهَّاد معنى الزهد ومقاصده.
– ويستقي منها التجَّار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
– ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات وتقوى عزائمهم على السير على منهجه والثقة التامة بالله عز وجل بأن العاقبة للمتقين.
– ويستقي منها العلماء ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى، ويحصلون فيها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وأسباب النـزول وغيرها وغيرها من المعارف والعلوم.
– وتستقي منها الأمة جميعاً الآداب والأخلاق والشمائل الحميدة
وإذا كان المسلمون قد أفادوا من السيرة المطهرة في دينهم فإنهم بحاجة أيضا للإفادة منها في دنياهم ، فلا تقل حاجتهم إلى دنياهم اليوم عن حاجتهم إلى الدين ، وهم في زمن سيطر فيه أعداؤهم على الدنيا وأصبحت مبادؤهم وقيمهم، ومقدساتهم مهددة.
إن هذا العصر الذي تحول فيه العالم كله إلى مجرد قرية كونية بما وفرته وسائل الاتصالات الحديثة وما ترتب عن ذلك من ظهور ما يسمى بالعولمة التي فتحت كل شيء أمام كل شيء، وتنافست السلع والأفكار تعرض نفسها على المجتمع البشري، ليس لنا نحن المسلمين سلعة نعتز بها وننافس بها غيرنا، وإنما عندنا دين قويم ونبي عظيم هو كل ما نملك، فعلينا أن نعرف العالم بنبينا وعظمة نبينا مستغلين ما توفره لنا العولمة، خصوصا وأن العديد من عقلاء الغرب الحديث قد أشاروا إلى فضله على بقية الخلق كما هو الشأن مع صاحب كتاب الخالدون مائة الذي قال : وكان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ على خلاف عيسى عليه السلام رجلا دنيويا فكان زوجا وأبا وكان يعمل في التجارة ويرعى الغنم، وكان يحارب ويصاب في الحروب ويمرض … ثم مات ..
ولما كان الرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قوة جبارة ، فيمكن أن يقال أنه أيضا أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ.
وإذا استعرضنا التاريخ .. فإننا نجد أحداثا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين .. مثلا : كان من الممكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن اسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل سيمون بوليفار .. هذا ممكن جدا . على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل.
ولكن يستحيل أن يقال ذلك عن البدو .. وعن العرب عموما وعن إمبراطوريتهم الواسعة، دون أن يكون هناك محمد – صلى الله عليه وسلم – .. فلم يعرف العالم كله رجلا بهذه العظمة قبل ذلك
وقبل الخوض في موضوع هذا الإعجاز لابد من بيان معنى الإعجاز والمعجزة والفرق بينهما ، والوجوه التي نبحثها في حياة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ، مع التفريق بين المعجزة والكرامة وما لا يعد كذلك .
مفهوم المعجزة :
أمر خارق للعادة يظهر على يدي مدّعي النبوة ، مقرون بالتحدي ، سالم عن المعارضة بالمِثْل.
وكلمة أمر خارق للعادة : معناها ليس من عادة البشر فعل هذا الشيء كتفجّر الماء من يدي رسول الله . مقرون بالتحدي : معناها أي يتحدى بها النبي على نبوّته .
سالم من المعارضة بالمثل : معناها لا أحد يستطيع أن يأتي بمثلها. كالذي حصل مع سيدنا موسى لم يستطع سحرة فرعون أن يأتوا بمثل ما أتى به موسى .
يظهر على يدي مدّعي النبوة : معناها فما كان خارقا للعادة لكنه لم يقترن بدعوى النبوة كالخوارق التي تظهر على أيدي الأولياء أتباع الأنبياء فإنه ليس بمعجزة بل يسمى كرامة ولكن تسمى معجزة للنبي الذي يَتَّبِعْه هذا الولي لأنه لولم يسلك طريق هذا النبي لم يصل إلى هذه الكرامة .
ونصل مما تقدم إلى أن المعجزات خاصة بالأنبياء عليهم السلام، وما دام أن قائمة الأنبياء قد ختمت منذ خمسة عشرة قرنا فلا سبيل إلى ظهور معجزات على أيدي غيرهم مهما بلغوا من الورع والصلاح، فإذا شفي مريض بلمسة من شخص آخر فليس ذلك بمعجزة ، وإذا نجا شخص من موقف عادة ما يكون فيه الموت مؤكدا فليس ذلك بمعجزة أيضا .
وأما الإعجاز في حياته – صلى الله عليه وآله وسلم – فنعني به أنه حقق بجانبه البشري في وقت وجيز ما عجز عنه غيره من البشر سواء كانوا أنبياء أو قادة أو زعماء ، وهذا يشير بوضوح إلى تفضله على غيره، وأنه الأولى بالتقليد والإتباع، وهذا الجانب لا نستدل به على صدقه بقدر ما نستدل به على عظمته، وهذه العظمة تقود فئات من الناس إلى اتباعه في كل أقواله مطمئنين إلى أنه أفضل قدوة، وأفضل من يتبع ، فأقواله هي أصح وأصدق الأقوال، وأفعاله وأحكامه هي أعدل الأحكام ، وتشريعه أفضل تشريع، ودينه أفضل الأديان، ومن جانب آخر فإن الغرض من هذا البحث هو استخلاص المعاني التي تمنح صاحبها التفوق والنجاح في التغيير.
صحيح أن الرسل قد أيدهم ربهم بالوحي والمعجزات، وربهم واحد، ودينهم واحد، ورسول الوحي إليهم واحد، لكنهم يختلفون في جوانبهم البشرية، ولعل هذه الجوانب هي التي تفسر اختلافهم في درجات الاستحواذ على عقول الناس، فنجد منهم من أوصل رسالته إلى الآفاق البعيدة وامتدت في طول الزمان وعرضه كما هو الشأن بالنسبة لصاحب المقام المحمود – صلى الله عليه وآله وسلم – ومنهم من ظلت شريعته محصورة على نطاق ضيق، فقد يزود القادة في معاركهم بنفس العدد والعدة ولكن النصر لا يكون حليف الجميع.
وتحفل السيرة النبوية الشريفة بأنواع كثيرة من الأحداث والمعاني التي يمكن اعتبارها المفاتيح الحقيقية للتغيير، ولكن السؤال الذي تصعب الإجابة عنه هو، ما هي تلك المعاني ؟ خصوصا وأن حياته – صلى الله عليه وآله وسلم – مفعمة بالحيوية والنشاط، وهو يتصرف في حياته تارة باعتباره نبيا، وأخرى باعتباره حاكما قاضيا، وتارة ثالثة باعتباره إنسانا عاديا، ثم من أين تؤخذ المعاني التي نفتش عنها، هل تؤخذ من لباسه وهيئته، أو من أقواله وتصرفاته، والناس يختلفون اليوم في ذلك اختلافا كبيرا كما اختلف بعض الصحابة في فهم السبب الموجب للجنة، عندما قال لهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فبعضهم كان يركز على هيئته الحسنة، وبعضهم الآخر على قيامه ليلا، وبعض ثالث على الصيام، وغير هؤلاء فكروا في أمور أخرى، ولكن الحقيقة شيء آخر. عن أنس بن مالك قال : كنا جلوسا عند النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فقال : يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة ، فطلع رجل من الأنصار ، تنظف لحيته من وضوئه ، قد علق نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضا ، فطلع ذلك الرجل مثل حالته الأولى .
فلما قام النبي ، تبعه عبد الله بن عمرو فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت ! قال : نعم .
قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير أنه إذا تعار – تقلب في فراشه – ذكر الله عز وجل حتى ينهض لصلاة الفجر قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا .
فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله . قلت : يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة . ولكني سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات : يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة ، فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك ، فأنظر ما عملك فأقتدي بك ، فلم أرك عملت كبير عمل !! فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت . قال عبد الله : فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه .
فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك
أقوال المنصفين المحدثين في النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أحب أن أشير في هذا المقام إلى المكانة التي يحتلها النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في عقول المنصفين من غير المسلمين حتى نعرف أن إنجازاته تستحق التعريف بها والدعوة من خلالها
1 – مهاتما غاندي :
أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر
صورة للزعيم والفيلسوف الهندي غاندي
… لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته و صدقه في الوعود و تفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه و رسالته هذه الصفات هي التي مهدت الطريق و تخطت له المصاعب و ليس السيف، بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة .
2 – راما كريشناراو :
لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها . ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة . فهناك محمد النبي ، ومحمد المحارب ، ومحمد رجل الأعمال ، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء ، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا.
3 – المفكر الفرنسي لامارتين :
صورة للمفكر الفرنسي لامارتين
إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة ، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – في عبقريته ؟ فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة وسنوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات ، فلم يجنوا إلا أمجادا بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانيهم ، لكن هذا الرجل لم يقد الجيوش ويسن التشريعات ويقيم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط ، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينئذ . ليس هذا فقط ، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة…
هذا هو محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – الفيلسوف ، الخطيب ، النبي ، المشرع، المحارب ، قاهر الأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة ، بلا أنصاب ولا أزلام، هو المؤسس لعشرين امبراطورية في الأرض، وإمبراطورية روحانية واحدة، هذا هو محمد– صلى الله عليه وآله وسلم
بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل : هل هناك من هو أعظم من النبي محمد– صلى الله عليه وآله وسلم – ؟ .
4 – مونتجومري :
إن استعداد هذا الرجل لتحمل الاضطهاد من أجل معتقداته، والطبيعة الأخلاقية السامية لمن آمنوا به واتبعوه واعتبروه سيدا وقائدا لهم، إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة ، كل ذلك يدل على العدالة والنزاهة المتأصلة في شخصه ، فافتراض أن محمدا مدع افتراض يثير مشاكل أكثر ولا يحلها، بل إنه لاتوجد شخصية من عظماء التاريخ الغربيين لم تنل التقدير اللائق بها مثل ما فعل بمحمد .
5 – الدكتور زويمر :
إن محمدا كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين ، ويصدق عليه القول أيضا بأنه كان مصلحا قديرا وبليغا فصيحا وجريئا مغوارا ، ومفكرا عظيما ، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات ، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء .
6 – برنارد شو :
إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد ، هذا النبي الذي وضع دينه دائما موضع الاحترام والإجلال فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالدا خلود الأبد، وإني أرى كثيرا من بني قومي قد دخ
صورة للفيلسوف البريطاني برنارد شو
لوا هذا الدين على بينة ، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة – يعني أوربا
إن رجال الدين في القرون الوسطى ، ونتيجة للجهل أو التعصب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة ، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية ، لكني اطلعت على أمر هذ الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية ، وفي رأيي أنه لوتولى أمر العالم اليوم ، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها .
7 – تولستوي :
يكفي محمد فخرا أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة ، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم ، وأن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة[
هذه نماذج من أقوال المنصفين الغربيين في النبي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم –
وقبل البحث في أسباب الإعجاز في حياته – صلى الله عليه وآله وسلم – لا بد من الحديث أولا عن مظاهر ذلك الإعجاز، فبها يمكن أن نضع أيدينا على العوامل الحقيقية والأسباب التي أعجز بها النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – غيره من الناس