المبحث الثاني
دوافع المستشرقين وأهدافهم
باستطاعتنا أن نتعرف على دوافع المستشرقين وأهدافهم من خلال أعمالهم ، ومن النظرات التاريخية إلى واقع حال الدول الغربية ، قبل أن تظهر فيها ظاهرة الاستشراق وبعدها ، ومن النظر في صلة الاستشراق بالتبشير ، وإلى صلته بالاستعمار .. إلخ فسأذكر فيما يلي خلاصة عن دوافعهم وأهدافهم. مع العلم أن الدوافع تلتقي مع الأهداف ، باعتبار أن الدافع يمثل المحرض النفسي لاتخاذ الوسائل التي توصل إلى الأهداف الغائبة من العمل (١).
أ ـ دوافع الاستشراق :
تنوعت دوافع الاستشراق خلال فترات نشأته منها :
١ ـ الدافع النفسي :
لا شك أن حب الاطلاع والتعرف على حياة الآخرين وأفكارهم وسبل معيشتهم أمر فطري غريزي في الإنسان وهذه الرغبة متأصلة في أعماق النفس البشرية لا يمكن أن تستأصل. ومن أجل هذه الرغبة يتحمل الإنسان المتاعب والمصاعب بأنواعها (٢).
لذا فهذا الدافع كان من أول الدوافع التي جعلت المستشرقين يهتمون بالشرق وحضارته وسبل عيش أهله وطرق تفكيرهم ، إلى غير ذلك مما يجهلونه ويحبون أن يطلعوا عليه.
__________________
(١) أجنحة المكر الثلاثة للميداني ص ١٢٥.
(٢) فلسفة الاستشراق ص ٤٠ ـ ٤٢ ، د. أحمد سمايلوفتش ، طبعة دار المعارف.
٢ ـ الدافع التاريخي :
العلاقة بين الشرق والغرب قديمة جدا ، كان يصحبها في بعض الأحيان عداء وحروب بين الطرفين ، وصراع من أجل السيطرة سواء كانت فكرية أو عسكرية. مما يدعو كل طرف منهما للاطلاع على ما عند الآخر من عقائد ، وتراث وحضارة وعادات وقيم ليخترقه ويسيطر عليه من خلال نقاط الضعف التي فيها. ومن الأمثلة على ذلك الحروب الصليبية حيث اقتضت هذه الحروب استصحاب من له خبرة واطلاع على جغرافية الشرق وأحوال أهله ودياناتهم وعاداتهم .. إلى غير ذلك من الأمور (١).
٣ ـ الدوافع الاقتصادية والتجارية :
من الدوافع التي كان لها الأثر في تنشيط حركة الاستشراق ، رغبة الغربيين في التعامل مع الشرق لترويج بضائعهم في أسواقه والاستيلاء على موارده الطبيعية الخام بأبخس الأثمان ؛ لذا حرصوا على فتح أسواق تجارية لصناعاتهم في منطقتنا ، وحرصوا كذلك على قتل النشاط الصناعي والتجاري في شرقنا حتى يبقى متخلفا ، شاعرا بالنقص والحاجة لهم ، منهزما نفسيا أمام تقدمهم مما يسهل خضوعه وخنوعه وانقياده لهم.
هذه من الدوافع التي جعلت الغرب يهتم بالشرق ويحب التعرف على كل شيء فيه خاصة جغرافيته ، ومكان الخيرات فيه مما جعل هؤلاء الطامعين يشجعون الباحثين والمفكرين في تقديم دراسات وافية عن الشرق (٢) وقد نالت هذه الدراسات الرضا والقبول وأصبحت تدر على أهلها ودور النشر التي تتولى نشرها أرباحا هائلة.
٤ ـ الدافع الديني :
إننا لا نحتاج إلى عناء كبير للتعرف على دافع الاستشراق الديني فقد بدأ
__________________
(١) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ـ د. محمود زقزوق ص ٧٤.
(٢) افتراءات فيليب حبيب وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي ـ عبد الكريم الباز ص ١٩ ، وأجنحة المكر الثلاثة ص ١٢٨.
الاستشراق أول ما بدأ كما ذكرت سابقا من الفاتيكان ، وكان أول رواده من رجال الكنيسة وعلماء اللاهوت حيث ظلوا المشرفين على هذه الحركة والمسيرين لها حتى القرن التاسع عشر ؛ وذلك للدفاع عن الكنيسة وسلطانها ولمواجهة الضغوط الشديدة المتزايدة من المفكرين المتمردين عليها ، خاصة وأن بعض المتمردين وجدوا في الإسلام فرصة لتفكيرهم وتخلصا من سلطان كنائسهم التي تحجر على عقولهم ، حيث أظهر بعضهم إعجابه بالإسلام. مما أفزع الكنيسة ودفعها لمحاربة الإسلام بثلاثة اتجاهات :
١ ـ الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه ، والافتراءات عليه بمختلف الأكاذيب لشحن أتباعها ضده وتنفيرهم منه ، والإثبات لجماهيرها التي تخضع لسلطانها أن الإسلام هو الخصم الوحيد للمسيحية وهو دين لا يستحق الانتشار ، زاعمة أن أتباعه ـ على حد زعمهم ـ قوم همج متخلفون ، سراق نياق ، سفاكو دماء ، يبحثون عن المتعة الرخيصة من الكأس إلى غير ذلك من الأباطيل والافتراءات التي لا تمت للحقيقة بصلة (١).
٢ ـ حماية النصارى من خطر الإسلام بالحيلولة بينهم وبين رؤية حقائقه الناصعة ، وآياته البينة الواضحة ، وتاريخه المجيد حتى لا يؤثر عليهم فيدخلوا فيه.
٣ ـ محاولة تنصير المسلمين فمن أجل ذلك جهزوا جيوشا من المنصرين لهذا الغرض ، ووضعوا بين أيديهم الإمكانيات الكبيرة ؛ لإعطاء الثقة لمن فقدها من أبناء جنسهم ، ولهز ثقة المسلمين أنفسهم في دينهم.
فمن أجل هذا الغرض عقدوا مؤتمرات عدة بدءوها بمؤتمر فينا الكنسي سنة (١٣١٢ ه) الذي قرروا فيه إنشاء كراسي جامعية للغة العربية (٢) كما حصل في جامعة كمبردج آنذاك وغيرها وذلك ليسهل عليهم التعرف على الإسلام
__________________
(١) افتراءات فيليب حبيب وبروكلمان على التاريخ الإسلامي ص ١٨ ـ الاستشراق والخلفية الفكرية زقزوق ص ٧٢. الاستشراق والخلفية الفكرية ص ١٩.
(٢) الاستشراق والخلفية الفكرية ص ٧٢.
ومعرفة مكامن الضعف عند المسلمين فيتسللوا من خلالها. وكذلك أنشئوا المجلات العلمية لنشر أفكارهم ودسائسهم فيها كمجلة العالم الإسلامي (سنة ١٩١١ م) برئاسة (صموئيل زويمر) رئيس المبشرين في الشرق الأوسط. كما أكثروا من التأليف عن الإسلام بكتب فقدت روح البحث العلمي لما حوته من تفاهات وأساطير وأباطيل وقلب للحقائق عن الإسلام ككتب «سال» مثلا (١) وقد استمرت سيطرة الكنيسة على حركة الاستشراق من سنة (١٣١٢ م) إلى القرن الثامن عشر حيث بدئ بالفصل بين اللاهوت والدراسات الاستشراقية في بعض البلاد الغربية كفرنسا وانجلترا. أما ألمانيا والنمسا فقد استمرت فيهما سيطرة الكنيسة على الحركة الاستشراقية لمنتصف القرن التاسع عشر حيث فصل بينهما.
وخير من وجه حركة الاستشراق وجهة علمية بعيدة عن التنصير وكان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر المستشرق الفرنسي (سلفستر دي ساسي).
وممن اشتهر من المستشرقين بالدراسات الإسلامية على وجه الخصوص «جولد تسيهر» ، و «نولديكه» ، و «فلهاوزن» ، «ريتشارد بل» ، و «بلاشير» وغيرهم. كما أن هذا الدافع دفع اليهود لاستغلال حركة الاستشراق لتحقيق مآربهم وأهدافهم وإن لم يظهروا بشخصيتهم اليهودية بل تلونوا مع كل الطوائف وعملوا تحت كل اللافتات وكان من أشهرهم اليهودي المجري «جولد تسيهر» ، والألماني «نولديكه» وغيرهما كثير.
وكان هذا الدافع من أكثر الدوافع التي دفعت عجلة الاستشراق للأمام وأكثر من أساتذتها وتلاميذها.
٥ ـ الدافع الاستعماري والسياسي :
لازمت حركة الاستشراق الاستعمار الغربي لبلاد الشرق الإسلامي فقد
__________________
(١) الاستشراق والخلفية الفكرية ص ٧٢.
استطاع الغرب المسيحي أن يسيطر على كثير من بلدان العالم الإسلامي. وقد كان هذا الاستعمار امتدادا للحروب الصليبية التي كانت في ظاهرها دينية وفي باطنها استعمارية.
ولم تأت نهاية القرن التاسع عشر حتى كانت كل أجزاء العالم الإسلامي تقريبا قد سقطت في براثن الاستعمار الغربي. وليتم لهم السيطرة ، وليتمكنوا من الاستمرار في بقائهم في هذه البلاد كان لازما عليهم دراسة أحوال الشرق ، وتاريخه ، ولغاته وعقائده فجندوا لهذه المهمة عددا كبيرا ممن لهم دراية بالشرق وأحواله فسخروا علمهم لخدمة الاستعمار البغيض فكان هؤلاء المستشرقون عملاء لحكوماتهم ، وشركاء لهم في صنع القرار السياسي في آن واحد.
بعد تحرر البلاد الإسلامية من الاستعمار العسكري رأى ساسة الغرب أن يكون الاستعمار له طابع آخر وهو أن يكون استعمارا فكريا ؛ لذا اقتضى الأمر أن تزود القنصليات والسفارات والمؤسسات الدولية التابعة لهم بمن لديهم الخبرة في الدراسات الاستشراقية ليبثوا ما تريده دولهم من اتجاهات سياسية ، وليقوموا بمهمات سياسية متعددة منها :
١ ـ الاتصال بالسياسيين والتفاوض معهم لمعرفة آرائهم واتجاهاتهم.
٢ ـ الاتصال برجال الفكر والصحافة للتعرف على أفكارهم وواقع بلادهم.
٣ ـ بث الاتجاهات السياسية التي تريدها دولهم ، فيمن يريدون بثها فيهم وإقناعهم بها.
٤ ـ الاتصال بعملائهم وأجرائهم الذين يخدمون أغراضهم السياسية داخل شعوب الأمة الإسلامية (١).
وقام هؤلاء المستشرقون بدراسة هذه البلاد في كل شئونها من عقدية
__________________
(١) الاستشراق والمستشرقون ـ د. مصطفى السباعي ص ١٨ ـ ١٩.
وعادات وأخلاق وثروات ولغات وتاريخ إلى غير ذلك. للتعرف على مواطن القوة فيها فيضعفوها ، وإلى مواطن الضعف فيغتنموها ، ولإضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين ، وبث الوهن والارتباك في تفكيرهم ، وكان لهم في ذلك دسائس تسللوا بها إلى نفوس المسلمين منها :
١ ـ التشكيك بفائدة ما في أيدي المسلمين من تراث ، وبما عندهم من عقيدة وشريعة ، وخلق وقيم إنسانية. ليفقدوا الثقة بأنفسهم ويرتموا في أحضان الغرب يستجدون منهم المقاييس الأخلاقية والمبادئ والعقائد والحلول لمشاكلهم ، ليتم للغرب إخضاع المسلمين لحضارته وثقافته إخضاعا كاملا.
٢ ـ إحلال مفاهيم جاهلية ماتت منذ انتشر الإسلام ، كالقوميات الفرعونية ، والفينيقية ، والآشورية ، والعربية والكردية والتركية ، والفارسية ، ونحو ذلك ؛ ليتسنى لهم تشتيت شمل الأمة الواحدة (١).
٣ ـ إحلال الفتن الطائفية بين السكان كالمسلمين والنصارى والدروز والعلويين ، وغير ذلك. وما حرب لبنان عنا ببعيد. وإشعال الفتن بين الدول الجارات كما حصل في إشعالهم الحرب بين العراق وإيران وتمزيق وحدة الأمة الواحدة بسياستهم «فرق تسد» ، وطبخ الانقلابات العسكرية لصالح سياسة دولة من دولهم .. حتى باتت كثير من حكوماتنا عسكرية تحكم شعوبها بالحديد والنار وسفك الدماء وسجن الأحرار والمصلحين. مع أنهم لا يرضون لأنفسهم إلا الديمقراطية وكامل الحرية الشخصية للفرد.
فمن خلال هذه الدراسات تعرف الغرب على مكامن وبواعث القوة والمجد ومواقع الخير والإنتاج والعبقرية والتفوق عند الشرق وعلى مواقع الجدب وهزال الإمكانات والمواهب (٢) فتسنى لهم السيطرة الكاملة على شرقنا العزيز ، فضيعوا هويته ، وأفقدوه ثقته بنفسه فكان لهم ما أرادوا. وبهذا يكون قد خرج
__________________
(١) أجنحة المكر الثلاثة ـ ص ١٢٧ ـ ١٢٨.
(٢) وحي الله حقائقه في الكتاب والسنة نقض مزاعم المستشرقين ـ د. حسن عتر. ص ٢١.
الاستشراق عن غايته الأساسية التي أسس من أجلها مما أثار في نفوس بعض المنصفين منهم الأسى والحزن لهذه السياسة حيث قال «استفان فيلد» مظهرا استياءه :
[والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين. وهذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة](١).
ومن بين الأمثلة العديدة على ارتباط الاستشراق بالاستعمار :
١ ـ المستشرق «كارل هينريخ بيكر» (ت ١٩٣٣ م) مؤسس (مجلة الإسلام) الألمانية الذي قام بدراسات تخدم الاستعمار الألماني في إفريقيا حيث حصل الرايخ الألماني في عام ١٨٨٥ ـ ١٨٨٦ م على مستعمرات في إفريقيا واستمر هذا الاستعمار إلى عام ١٩١٨ م.
٢ ـ المستشرق الروسي «بارثود» (ت ١٩٣٠ م) الذي تم تكليفه عن طريق الحكومة الروسية بالقيام ببحوث تخدم السيادة الروسية في آسيا الوسطى. وقد أسس مجلة باسم (عالم الإسلام).
٣ ـ المستشرق (سنوك هورجرونية) عالم الإسلاميات الهولندي الشهير ، فإنه في سبيل خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام ١٨٨٥ م بعد أن انتحل اسما إسلاميا هو (عبد الغفار) ، وأقام هناك ما يقرب من نصف عام ، وقد ساعده على ذلك أنه كان يجيد العربية كأحد أبنائها ، وقد لعب هذا المستشرق دورا هاما في تشكيل السياسة الثقافية والاستعمارية في المناطق المستعمرة للهولنديين في الهند الشرقية ، وقد شغل «سنوك» مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية في أندونيسيا (٢).
__________________
(١) الاستشراق ـ محمود حمدي زقزوق ص ٤٤.
(٢) نفس المرجع السابق ص ٤٥ ـ ٤٦.
٤ ـ «هانوتو» ج. ت (١٩٤٤ م) المستشرق الفرنسي الذي كان بمقترحاته يوجه سياسة فرنسا في مستعمراتها الأفريقية الإسلامية والتي ركز فيها على إضعاف المسلمين في عقيدتهم حتى يسهل قيادهم (١).
٥ ـ اللورد «كيرزن الإنجليزي» الذي كان متحمسا لإنشاء مدرسة للدراسات الشرقية لدعم الموقع الذي نالته بريطانيا في الشرق وقد تحولت هذه المدرسة فيما بعد إلى جامعة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية. والذي يظهر لك مقدار اعتماد الدول الاستعمارية على الاستشراق أن الحكومة البريطانية كانت تضع سياستها في البلاد التي احتلتها بعد التشاور مع فريق من المستشرقين.
وهكذا يظهر لنا جليا الارتباط العضوي الذي كان يجمع بين الاستعمار والاستشراق وكيف استطاع الاستعمار أن يسخر الاستشراق لأغراضه الرخيصة ، وأن يخرج الاستشراق عن أهدافه العلمية.