الرئيسية / زاد الاخرة / الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1

الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1

الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ١٠١ – ١٢٠

الغيوب وهو الباري جل وعلا هو المقدار المكلف به الناس. اي العبادة عبر ادراكاتهم العقلية.٤ ـ فوائد المعارف القلبية:

أ ـ ان الإنسان لم يخلق للخلود في هذا العالم بل هو مخلوق لعوالم أخرى، فهو يعيش منذ ولادته عالمه البرزخي بمعنى إنه يصنع بأعماله وعقائده عالمه البرزخي، وعندما يتكامل ويبلغ ويرشد يصنع حياته الاخروية التي هي بعد الحياة البرزخية في عين عيشه حالياً للحياة الدنيوية، والمراتب القلبية تجعله مشرفاً على تلكم العوالم.

وقد يظن البعض أن هذا نوع من الخيال وتسطير الكلمات فما الحاجة إلى الاشراف على هذه العوالم وهو لم يعشها بمعنى لم يحن ظرفها الزماني فنقول:- خير مثال على ذلك الطفل الذي يعيش في بطن امه يكون له اذن وانف وفم ولسان وشفتين وكل شيء فَلِمَ كل هذه الاجهزة هل هى حتى يستعين بها في حياته داخل رحم أمه؟ بالطبع لا، من الواضح ان هذه الاجهزة لأجل ان يعيش بها في عالم آخر غير عالم الرحم. وهو عالم الدنيا. وهكذا الإنسان في مراحله القلبية فالانسان لا يحتاج اليها في ادارة شئون عالم الدنيا إلا إنه محتاج لها في عالم الاخرة.

ب ـ ان المراتب القلبية هي السبيل لمعرفة الغيب فكلّ يستطيع ادراك الغيب وكلا يعيش الغيب ولو مرتبة ضامرة.

ج ـ الفائدة الجليلة والعظيمة في الادراكات القلبية هي رؤية أشرف مرئي وهو نور واجب الوجود.

٥ ـ ان الإنسان اذا أدرك بلحاظ المراتب القلبية حقيقة من الحقائق وأراد لها ان تنزل إلى الادراك العقلي النظري فلابد ان تتنزل بمعناها لا بوجودها وحقيقتها، فالارتباط بين المراتب القلبية والعقل النظري هي بوحدة المعنى وبوحدة المفهوم،

١٠١
فالمراتب القلبية تدرك الشيء بوجوده العيني وهويته العينية اما القوة العقلية فهي اكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الادراكين بمن يدرك الشيء المقابل للمرآة تارة ويدرك تارة أخرى صورته في المرآة.والمرآة هي القوى الادراكية الحصولية العقلية.

٦ ـ ان الادراكات العقلية يتصور فيها التصور والشك والترديد والجزم، اما في المدركات القلبية فهي صحيحة دوماً على صواب أبدً لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية. والسر في ذلك إنه في الادراكات العقلية يكون المدرك هو صورة الشيء، والحاكي عن الشيء، فيرد التساؤل عن مدى مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته وان تحصيل اليقين في الامور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما اذا كان نفس الشيء وعينه حاضرا فإنه يكون يقينا لا لبس فيه ولا ترديد، ومن هنا نجد ان الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية اشار إلى ندرة الحصول على اليقين بل كلها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلى ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}.

ومن هنا نعرف السر في حث كثير من العلماء على تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألاّ يقتصر على تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور. إذ الادراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة لها.

٧ ـ ان مراتب الادراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا حيث أن الوصول إلى الحقائق تتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الانسان إلى هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلى تلك المراتب وتكون بالنسبة اليه كفصل جوهري حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلى تلك المرحلة فيتصفح حيث ما شاء في العالم الغيبي.

 

١٠٢
فالذي يدرك الغيب لا يعنى إنه ادرك كل الغيب، فالله عز وجل لا تحيطه الابصار والقلوب بل عرفته القلوب بحقائق الايمان.٨ ـ مما ذكرنا يتضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، واوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من اجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتى تتهيأ النفس لتصفح انوار الملكوت وتقوى الادراكات القلبية، فمنهم من وصل إلى المراد وهو المتبع لطريقة أهل البيت (عليهم السلام) ومنهم من ضل الطريق وأضل غيره.

٩ ـ ان معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية، وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد فيقال ان كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست على نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبر بذلك الفلاسفة، او حكاية المظهر عن الظاهر كما عبر العرفانيون. لكن هذه الحكاية وان كانت غير قابلة للخطأ والصواب بل هي صواب دائم إلا انها ليست حكاية احاطة لأن الرقيقة لا تمثل كل كمالات الحقيقة.

١٠ – من الأمور التي تدلل على أهمية الادراكات القلبية هو رجوع جميع الادراكات العقلية اليها بيان ذلك:-

إنه قد ثبت في محله رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلى البديهيات التصورية والتصديقية وهي رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نرى انها في تكونها محتاجة إلى الادراكات القلبية فعندما نقول إنه صادق فيعني عدم احتمال اللامطابقة والسر في ذلك ان النفس تدرك ذاتها ووجودها والصورة نفسها مدركة لديها بالعلم الحضوري فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدى النفس فلا يحتمل اللانطباق، وهذا ببركة

١٠٣
العلم الحضوري.ونفس الشيء يقال في أول البديهيات التصديقية وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما فموضوع القضية اجتماع النقضين ومحمولها هو الامتناع. حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود وحيث إن للوجود محكياً، فترى ان هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلى حقيقة في وجود الإنسان هي إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية اما اتصاله بالغيب فهو اتصال حضوري مباشر.

 

الجهة الثانية:

حول ضابطة حجية المعارف القلبية.

قد يتراءى لغوية هذا البحث وذلك لما ذكرناه سابقا من ان المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حجة كله، بل كل ادراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلى هذا البحث وذلك لأن العرفاء انفسهم في بحث المكاشفات يشيرون إلى ان المكاشفات على اقسام وان الادراكات الحضورية على درجات، وأن بعض الاشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثلات العيانية من الشياطين أو كون قوى النفس قد اختلقتها. فلا يمكن القول بحجية كل الادراكات القلبية، فكما ذكرنا في العلوم الحصولية قد تحصل الحجب والامراض التي تمنع عن ادراك الحقائق فهنا كذلك تحصل حجب النفس التي تحجب الواقع عن ادراكه – وقد تعرضنا تفصيلا في بحث الرؤية القلبية(١) إلى تصرف الشياطين والجن في

 

١- انظر كتاب دعوى السفارة في الغيبة الكبرى ـ مسألة الرؤية القلبية. 

١٠٤
قلب الكائن البشري هو تصرف تكويني وفعل حضوري ولكن ليس حضور الحقائق العالية.ـ وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص والسيد حيدر الآملي في نص النصوص، على ان من الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني…

فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة باعتبار ان الكتاب ارتباط بعالم الغيب وان القرآن تنزل من الصقع الربوبي.

نلاحظ مما تقدم ان العرفاء ركزوا على نكتة ان المدركات قد لا تكون من الحقائق فلذا يجب الاعتماد على الميزان المعصوم وادراك معصوم.

ويتبقى جانب آخر نشير اليه وهو تنزل المدركات القلبيه الى المدركات العقلية، حيث ان العلوم الحضورية يجب ان تنزل إلى القوة العقلية حتى يستطيع ان يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزل يجب ان يكون مأموناً والمقصود بالأمن ان الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب ان تكون متطابقة مع حقائق الاشياء التي توصل اليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا توجد امراض تمنع من تنزل ادراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي على القوة السفلى، فهنا ايضاً توجد امراض واخطار تمنع من حصول الادراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة وقد تكون الصورة مشوشة.

وبتعبير أخر: ان مرآة العقل قد تصاب بسبب الاخلاق الرديئة او الأعمال السيئة تشوبها حجب فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم ومن هنا نحتاج إلى ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاحجة. حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ لا في نفس المدرَك، ولا في تنزله، ويظهر من هنا الميزة

١٠٥
كتاب الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – (ج ١) للسّيّد مُحمّد علي بحر العلوم (ص ١٠٦ – ص ١١٨) 

١٠٦

خاتمة:

حول العلاقة بين الحجج الاربعة.

لقد مضى الكلام في هذا الفصل حول الطرق والحجج الاربعة اثنان نقليان هما الكتاب والسنة واثنان تكوينيان هما العقل والقلب والغرض من هذه الخاتمة هو الإشارة إلى الارتباط والعلاقة بين هذه الطرق.

وقد ذكر للعلاقة بينها امور:-

ـ ان الفلسفة وهي الباحثة عن مدركات العقل والعرفان وهو الباحث عن لغة الادراكات الحضورية، وهما تلميذان يؤهلان لفهم نكات الوحي.

ـ ان العقل والقلب يرجع اليهما في رفع متشابهات النص، وإنه يرجع إلى محكمات النص ليرفع متشابهات العقل والقلب فيرفع متشابة كل منهما بمحكم الآخر.

ـ ان العقل والقلب شأنهماالادراك، اما الوحي فهو نفس المدرَك.

ـ وقال البعض:- ان وظيفة العقل والقلب هو التصور، وأما الحكم فهو من وظيفة الوحي بمعنى ان المخاطَب هو العقل والقلب اما نفس الخطاب هو الكتاب والسنة حيث انهما مواد الوحي. فالمخاطَب ليس هو القوى النازلة بل المخاطب هو العقل والقلب، واللغة اللسانية وظيفتها احداث التصور، واللغة العقلية وظيفتها احداث أصل الادراك، والحكم والتصديق يكون من الشارع فالمدرك لهذا الحكم والتصديق والتصوير هو العقل، والمدرك لهذه الاشعاعات النورية هو القلب.

فكما أن الالفاظ موصلة للمعنى وبها يحتج فكذلك في لغة العقل بهما يحتج على الإنسان فالعقل والقلب هما المخاطبان ولغة الخطاب هو الوحي.

بتعبير آخر: ان العقل ايضاً يحكم ويصدق ويدرك التصورات ولكن يتبع حكم الوحي والشارع. فليس فيه الغاء لدورهما.

 

١٠٧
ـ ان هناك سنناً تكوينية جعلها الله عز وجل في طريقة التفكير البشري، فالعلم وان كان نورا يقذفه الله في قلب الإنسان الا ان طريقه القذف تعتمد على أحد نحوين:الاول: هي الوصول إلى الاستنتاج عن طريق تهيئة المقدمات والمواد وعبر مراعاة موازين ما يسمى بالمنطق، وذكرنا انها معدات تعد الإنسان لكي يفاض عليه النتائج.

والآخر: هو التصفية والتخلية عن الرذائل والتحلية بالفضائل والايمان والمعارف، فيصل الإنسان إلى العلوم الحضورية وهذا مسلك الاشراق والعرفاء…

فهاتان سنتان تكوينيتان في نيل الفكر والمعرفة الانسانية، ويضاف إلى هاتين السنتين سنة وطريقة ثالثة وهي الوحي (الكتاب والسنة).

وهذه الطرق ليست متقابلة بل يجب الاستعانة بكل منها مع الاخر فاذا استمد الإنسان بالسنتين التكوينيتين دون الوحي فيعني خسران المعارف الهائلة، وكذلك لا يستفيد تمام وكمال الفائدة من الرافد الاخير إلا بالرافدين الاوليين لانهما قناتي وطريقي المعارف.

ـ ووجه آخر لبيان العلاقة وهو ان الرياضة العقلية في العلوم العقلية، والرياضة القلبية في العلوم القلبية العرفانية بالغة الأهمية من حيث كونها معدة للتأهل وخوض الوحي لفهم اسراره.

والعمدة التي تدور حولها جميع هذه الاجوبة لبيان العلاقة هو بيان التلازم بين هذه الطرق المختلفة بوضع كل في دوره الموظف له بحيث لا يلغى أحدهما الاخر بل الوصول إلى الحالة الوسطية، وهذه الوجوه هى لبيان تلك الحالة الوسطية، ومنها جعل العقل والقلب الحجة الباطنة وجعل الوحي الحجة الظاهرة.

 

١٠٨
وفي حديث طويل عن الصادق (عليه السلام) أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا تنفع شيء إلا به، العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم وانهم مخلوقون…. وعرفوا به الحسن من القبيح وأن الظلمة في الجهل وان النور في العلم فهذا ما دلهم عليه العقل. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: ان العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته علم، أن الله هو الحق وانه هو ربه، وعلم ان لخالقه محبة وان له كراهية وأن له طاعة وان له معصية فلم يجد عقله يدله على ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه…”الحديث(١).فيبين الإمام (عليه السلام) أن مصدر الأمور وأسسها هو العقل، ثم سأل سائل هل يكتفي بالعقل فقال: إنه علّم العقل بانه لا يصل الى الحقائق من رضى الله وغيرهما….بل يصل اليها بعلم الوحي.

فلابد منهما كليهما ولا يتوهم ان الشريعة والمعارف تجريد وغيب محض بل هو غيب وشهادة وذلك اننا اذا حافظنا على موازين تلقي معارف الغيب حينئذ يكون التنزل سليما حتى الى عالم الحس والشهادة، فبيوت الغيب يجب ان تؤتى من ابوابها فلابد من التدرج عبر بوابة العقل ثم بوابة القلب، فكما ان سنة الله مع عالم المخلوقات جرت بالتدرج فكذلك تنزل هذه المعارف.

فالنتيجة ان التمسك بالوحي ورفض العقل والقلب هو رفض للوحي ايضاً وذلك لأن المخاطب بالكتاب والسنة هو العقل وجعل المخاطب غير العقل والغاء شرط العقل هو في الواقع الغاء للكتاب والسنة.

وكذلك من تمسك بالعقل من دون الكتاب والسنة فقد ضيع العقل ايضاً،

 

١- اصول الكافي: ١ / ٢٩. 

١٠٩
وذلك لأن التمسك بالعقل والقلب هو ابقاء الإنسان في الحدود النازلة وعدم ارتقائه إلى المعاني العالية وهو حرمان للعقل من المعارف الالهية، وكذلك من ادعى انه يفهم الكتاب والسنة من دون الالتفات إلى النكات العقلية فقد أنزل المعارف من مستواها العالي، فلابد من الوسطية والتوازن.وقد حاول العلامة الطباطبائي أن يذكر في كل مسألة الفحص في هذه الطرق الاربعة ولا يقتصر على جانب دون آخر، وممن حاول أيضاً الجمع بين هذه الطرق هو الملا صدرا في الحكمة المتعالية، وبغض النظر عن مدى موفقية كل منهما في النتائج التي توصلا اليها إلا أنها محاولة جريئة وجديدة في بابه فلم يقصر فكره على طريقة واحدة ومنهجية واحدة، حيث إنه استفاد من نكات مذكوره في السنة في ايجاد براهين عقلية لأمور عجز العقل في السابق عن اثباتها كالمعاد الجسماني.

ـ اما الشيخ الانصاري فيذكر في الرسائل:

ان التنافي بين الادلة النقلية والادلة العقلية لو قدر وجوده لا يخرج عن صور ثلاث:

اما صورة التعارض لدليلين قطعيين.

واما صورة تعارض نقلي قطعي وعقلي نظري.

واما صورة تعارض نقلي ظني وعقلي قطعي (نظري وبديهي).

اما الصورة الاولى: فلا وجود لها ولم يشر أحد من الباحثين اليها قط.

اما الصورة الثانية: فهي وان كانت بدوا تعارض إلا أن الإنسان اذا دقق ولاحظ في مواد الدليل العقلي لوجد أنها ظنية وليست قطعية، والمشكلة تكمن اننا للوهلة الاولى لا نلتفت الى ذلك بل بعد فتره من الزمن حيث نتصور استحكام التعارض والسر في عدم التعارض هو ان الوحي برهان وقطعي حيث ثبت واقعيته. وإنه من واجب الوجود فلا يمكن ان يتصادم مع العقل القطعي. وقد نبّه الملا صدرا إلى ان

١١٠
قول المعصوم يمكن ان يستخدم كوسط في البرهان لعصمته عن الخطأ.اما الصورة الثالثة: إنه لو اعيد النظر في العقل القطعي وتأكدت من قطعيته فانه يكون قرينة على التصرف في الظاهر الظني والتأويل.

وتوجد صورة رابعة في التعارض بين الظني النقلي والظني العقلي وفي هذه الصورة نلاحظ ان العقل الظني ليس بحجة اما النقلي الظني فقد ذكرنا في بداية بحثنا امكان اعتباره ووقوعه – كما يظهر من عبارة الشيخ في بحث الانسداد، ومال إلى ذلك كثير من علمائنا كالبهائي والشيخ الطوسي والميرزا القمي وغيرهم.

ويشير الشيخ إلى توصية هامة وهي:-

انه في بحوث المقام يجب التتبع وبذل الجهد للحصول على المعارف النقلية القطعية منها والظنية المعتبرة بناءً على اعتباره في التفاصيل النظرية في شعب المعرف”، فكما نجهد انفسنا في البحوث العقلية البحتة أو القلبية فانه يجب بذل الجهد بعناية فائقة في تحصيل القطعيات النقلية، ومما يؤسف له قلة الجهود المبذولة في هذا المضمار بالقياس إلى حجم النقل الواصل بإيدينا وبالقياس إلى ما يبذل من جهود في المجال الآخر، فإنه لو اثريت البحوث العقلية الاستدلالية في المعارف النقلية لتوفّر تبويب كثير من الطوائف للأدلة النقلية ولأمكن العثور على جم كبير من القرائن والاستفاضات المعنوية في كثير من المسائل.

*  *  *  *

 

١١١
الفصل الثاني

 

[image] - مركز الأبحاث العقائدية  نظرية الحكم على ضوء الإمامة الإلهية

 

١١٢

١١٣

نظرية الحكم على ضوء الإمامة الإلهية

 

المبحث الأول

 

لمحة تاريخية

ان الناظر للتاريخ الاسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته ل منها في مسألة الخلافة والحاكمية، يرى كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهى وبين التنظير والتطبيق لدى اكثر المذاهب الاسلامية، فكثير ممن رفعوا راية الشورى لم يثبتوا على مبدأ واحد وقول متحد منذ بداية الخلافة الاسلامية وحتى يومنا هذا، لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبق. كما ان بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا على مقولتهم بل نرى ذلك البعض يحاول ان يخفف من وطأتها ويدمجها مع الشورى ويحاول ان يجعلها شورى عند التطبيق وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون الملل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشورى والنص وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدوها من القول بالنص بل يجعلونها من القول بالشورى، وأوضح مثال على ذلك هو ما سارت عليه الزيدية والاسماعيلية. حيث حسبوا ان هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم اقامة الحكم الاسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم الى التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الامامية ان تخرج منه وحافطت على وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشورى. وقد يكون من الامور التي دفعت الى التلفيق هو احجام مَن نُص عليه

١١٤
عن اقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات الى أن الأئمة (عليهم السلام) كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة على كل مَن شاء الرجوع اليهم. وان المتتبع للروايات المتناثرة هنا وهناك يرى ان الأئمة كانوا يمارسون كل انواع السلطة وكافة شؤونها وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر وانما قد أدبر الناس عنهم.واكثر مؤلفي الشيعة ممن تعرضوا للملل والنحل ردوا شبه الزيدية فراجع اكمال الدين والغيبة للطوسي وأصول الكافي للكليني والكشي في رجاله.

فنرى الشهرستاني في الملل والنحل يقول: والاختلاف في الإمامة على وجهين: أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار قال بإمامة كل من اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمة: إما مطلقاً وإما بشرط أن يكون قرشياً على مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً على مذهب قوم(١).

وقال: الخلاف الخامس: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الامامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان.. ـ ثم نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة ـ فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد الى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فإنها تغرّة يجب أن يقتلا… وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة(٢).

وقال: الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة

 

١- الملل والنحل ـ الشهرستاني ص ٣٣.٢- الملل والنحل ـ الشهرستاني ص ٣٠ ـ ٣١.

 

١١٥
فمن الناس من قال: قد وليت علينا فظاً غليظاً. وارتفع الخلاف..(١).وقال في الباب السادس: الشيعة: هم الذين شايعوا علياً(رضي الله عنه)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته: نصاً ووصيةً إما جلياً وإما خفياً واعتقدوا أو الامامة لا تخرج من أولاده وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل (عليهم السلام) اغفاله وإهماله، ولا تفويضه الى العامة وارساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتبري: قولا وفعلا، وعقداً، الا في حال التقية ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك”(٢).

وقال في الزيدية: اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبyساقوا الإمامة في أولاد فاطمة (رضي الله عنها)، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي، عالم، زاهد شجاع، سخي، خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة.. وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة.. ثم ذكر السليمانية من فرق الزيدية ـ أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول إن الامامة شورى بين الخلق ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقا باختيار الأمة حقاً اجتهادياً وربما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي(رضي الله عنه)خطأ لا يبلغ درجة الفسق.. قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج اليها لمعرفة الله تعالى وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل لكنها يحتاج اليها لإقامة الحدود

 

١- المصدر السابق ص ٣١.٢- المصدر السابق ص ١٣١.

 

١١٦
والقضاء…”(١).وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية وقوله في الإمامة كقول السليمانية.. وأكثرهم ـ في زماننا ـ مقلدون لا يرجعون الى رأي واجتهاد أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة ويعظمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة اهل البيت وأما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة..”(٢).

ويقول سعد بن عبدالله الاشعري القمي، وهو من الفقهاء اخذ اصل كتابه في الفرق عن النوبختي وهو من المتكلمين له كتاب الفرق والمقالات، الا ان سعد اضاف على ما أخذه: واختلف أهل الاهمال في إمامة الفاضل والمفضول فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول اذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلا الفاضل المتقدم، واختلف الكل في الوصية فقال أكثر أهل الاهمال: توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يوص الى أحد من الخلق… ثم عدّ البترية والسليمانية من فرق الزيدية من أهل الاهمال”(٣)، وقال عن الجارودية من الزيدية.. فقالوا بتفضيل علي ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن من رفع علياً عن هذا المقام فهو كافر، وأن الامة كفرت وضلت في تركها بيعته ثم جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي ثم في الحسين بن علي ثم هي شورى بين أولادهما فمن خرج منهم وشهر سيفه ودعا الى نفسه فهو مستحق للإمامة”(٤).. وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول الله لعلي بن أبي طالب ثم الحسن بن علي وبعد أن مضى الحسين بن علي لا يثبت الا

 

١- المصدر السابق: ص ١٣٧ ـ ١٤٢.٢- المصدر السابق: ص ١٤٢ ـ ١٤٣.

٣- المقالات والفرق لسعد بن عبدالله الاشعري: ص ٧٢.

٤- المصدر السابق: ص ١٨.

 

١١٧
باختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم”(١).وفي المقالات لابن الحسن الاشعري المتوفى ٣٢٤ هـ في ص ٤٥١ ـ ٤٦٧ قال: وأجمعت الروافض على ابطال الخروج وانكار السيف ولو قتلت، حتى يظهر لها الإمام، وحتى يأمرها بذلك..”.

فهو يشير الى نفس النكتة التي ألمح اليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدى الإمامية في النص وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التارخية يتضح لنا امران:

١ ـ هي ان الصياغات المختلفة للشورى والتلفيق بينها وبين النص معدود عند اصحاب التراجم والمؤرخين في منهج يقابل النص.

٢ ـ ان بعض الفرق الشيعية ـ في الأصل ـ انتقلت من النص الى الشورى او الى التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلمة لزوم اقامة الحكومة الاسلامية، حيث عجزت افكارهم عن ايجاد حل ضمن اطار النص بخلاف فقهاء الامامية الاثنى عشرية الذين مع بقائهم وتمسكهم بالنص استطاعوا ايجاد صيغ بديلة عن الشورى او التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفرق: الزيدية الذين نتيجة هذا التصادم ذهبوا الى ما ذهبوا اليه، وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه اكمال الدين واتمام النعمة ص ٧٧ فصلاً في الجواب عنه.

 

 

١- المصدر السابق: ص ١٩. 

١١٨
كتاب الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – (ج ١) للسّيّد مُحمّد علي بحر العلوم (ص ١١٩ – ص ١٣٠) 

١١٩

المبحث الثاني

 

النظريات المختلفة في ادارة شؤون الحكم ودور الشورى فيها(١)

 

١ ـ النظرية الاولى المشهورة:

من أن للأمة صلاحية البت في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم الى كافة

 

١- مجموع هذه النظريات وأدلتها ووجوهها الآتية مستخلصة من الكتب التالية:١ ـ تفسير المنار لمحمد رشيد رضا.

٢ ـ روح البيان للآلوسي.

٣ ـ فقه الدولة الإسلامية ـ للشيخ المنتظري ج ١.

٤ ـ مفاهيم القرآن ـ دراسة موسعة عن صيغة الحكومة الاسلامية ـ للشيخ السبحاني.

٥ ـ پيام قرآن ـ ج ١٠ قرآن مجيد وحكومت اسلامى ـ للشيخ مكارم الشيرازي.

٦ ـ طرح حكومت اسلامي للشيخ مكارم الشيرازي.

٧ ـ تفسير الميزان ج ٤ ـ ص ١٢٤ للعلامة الطباطبائي.

٨ ـ الحكومة الاسلامية في احديث الشيعة للشيخ السلطاني والمظاهري والمصلحى والخرازيوالاستادي.

٩ ـ الاجتماع السياسي الاسلامي للشيخ شمس الدين.

١٠ ـ مقالات للشيخ مهدي الحائري ـ مجلة حكومة اسلامي ١ ـ ٢.

١١ ـ تنبيه الامة وتنزيه الملة للميرزا النائيني.

١٢ ـ حكومت در اسلام ـ للسيد الروحاني.

١٣ ـ الاسلام يقود الحياة ص ١٧٢ للشهيد السيد الصدر. ١٥ ـ الفقه ـ الاجتهاد والتقليد ج ١للسيد الشيرازي.

وغيرها من الكتب التي صدرت أخيراً عن الحكومة الاسلامية وخصّت الشورى بباب أو فصل مستقل.

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...