العراق بيضة القبان بين جبهة الاحتلال وجبهة الاستقلال
– إذا كانت “إسرائيل” مَن يخوض حرب الإبادة ويرتكب الجرائم بحق الإنسانيّة في غزة، فإن أميركا هي مَن يغطّيها ويموّلها ويسلّحها ويشاركها قرار الحرب وخططها ومن ضمنها هذا التوحّش المنظم. وهذا يعني أن واشنطن يجب أن تدفع ثمناً يوازي الثمن الذي تدفعه تل أبيب عقاباً على هذه الجرائم، وأول الثمن هو السمعة السيّئة ورفض دور الوسيط الأميركيّ في أي مفاوضات. وإذا كنا نتحدث عن البعد السياسي للحرب بعيداً عن الجانب الأخلاقي والقانوني فهي حرب أميركية ثم إسرائيلية. وهذا معنى الاستنفار الغربي بقيادة أميركية بمجرد تلقي “إسرائيل” ضربة موجعة بداية الحرب بعد طوفان الأقصى، والإعلان الرسمي بأنها هنا شريك كامل في الحرب، ولذلك فإن ما فعله محور المقاومة لم يكن أكثر من استنفار موازٍ لضمان التوازن بين طرفي الحرب الإسرائيلي والفلسطيني، لتكون مهمة حركة أطراف المقاومة جذب القوة الأميركية وبعض فائض القوة الإسرائيلية الى ساحات مواجهة أخرى لتخفيف الضغط عن جبهة غزة. وهذا ما فعلته جبهة لبنان إسرائيلياً، وما فعلته جبهات العراق وسورية واليمن مع أميركا. فاستهداف القواعد الأميركية في سورية والعراق جذب للقوة الأميركية نحو هاتين الساحتين، ومعادلات البحر الأحمر جذب للقوة الأميركية نحو هذا الممر المائي الاستراتيجي ليصير قضية أميركية منفصلة عن مسار الحرب في غزة.
– أميركا صاحبة الحرب ليس فقط دعماً لـ”إسرائيل”، بل حماية لحضورها وهيمنتها ونفوذها ومصالحها، لأن “إسرائيل” ليست مجرد كيان في الشرق الأوسط، بمقدار ما هي ركيزة الهيمنة الأميركية على هذه المنطقة، ومهما ضعفت وعجزت عن أداء دور الشرطي، يبقى فشلها وتعرّضها لخطر الانهيار تهديداً مباشراً لمكانة واشنطن وهيبتها وقوة ردعها. وإن سقطت “إسرائيل” سقط النفوذ الأميركي في المنطقة، وربما أبعد من المنطقة. ولذلك أظهرت هذه الحرب كم أن واشنطن مستعدّة لتحمل الخسائر السياسية والمعنوية لتوفير أفضل وسائل الدعم لـ”إسرائيل”، كما أظهرت أنه يستحيل خوض معركة فلسطين ولو كان السقف بحدود الحفاظ على معادلة نصر طوفان الأقصى عبر إعلان وقف الحرب الإسرائيلية دون تحقيق أي أهداف والدخول في تفاوض لتبادل الأسرى، يبدو مستحيلاً دون إدراك أن الفوز مرهون بإضعاف القدرة الأميركية في المنطقة، وخوض الحرب بالتوازي ضد الأميركيين حتى تنضج حساباتهم لتفادي الأثمان الباهظة بأثمان أقل، فينزل الأميركي والإسرائيلي عن الشجرة، لصالح معادلات تتيح لقوى المقاومة فرصة الربح بالنقاط، إلا إذا اختار الأميركي، وهو صاحب القرار هنا لا الإسرائيلي، بالذهاب الى الحرب الشاملة والمنازلة على الضربة القاضية، وكل شيء يقول إنه لن يفعل.
– العراق هو الساحة المفصلية هنا، لأن الوجود الأميركي في العراق بات عبئاً ثقيلاً على المنطقة ومعادلاتها، وإخراج هذا الوجود من العراق يعني المثل بالنسبة لسورية، وفتح الباب لتواصل جغرافيا قوى المقاومة من إيران إلى العراق وسورية ولبنان ففلسطين. والمعركة على مستقبل الوجود الأميركي في العراق هي معركة سياسية وعسكرية، لكن الأهم فيها هو جانبها السياسي، فاستمرار الضربات بحق الوجود الأميركي له وظيفة استنزاف وتذكير، لكن العامل الحاسم بقرار الانسحاب هو موقف الحكومة العراقية، وقد سبق وتمّ اختبار معادلة مشابهة عام 2011، ونجحت حكومة نوري المالكي باستثمار عمليّات المقاومة للوصول الى نقطة مشابهة، قبل أن تتمكن واشنطن من توظيف حربها على سورية لاستنهاض تنظيم داعش وتركه يتمدّد في العراق لاتخاذه ذريعة للعودة. والظرف الآن مماثل، حيث الضربات تتلاحق على الأميركي، وقد ارتكب حماقة تتيح مطالبة الحكومة العراقية له بالانسحاب، وهي تبدو ذاهبة بهذا الاتجاه، ما يعني التأكيد على أهمية هذه الحلقة من الحرب، والضغط على هذه الحلقة الضعيفة والخاصرة الرخوة للفوز بأهم معارك الحرب، إخراج أميركا من العراق.
– سوف يحرك الأميركيون داعش مجدداً ويستنفرون جماعاتهم من الأكراد، ويضغطون مالياً، لكن كل هذه الأكلاف أقل خطورة من بقاء الأميركي في العراق، وتجب مساندة الحكومة والمقاومة في العراق من كل أطراف محور المقاومة حتى ضمان تحقيق الهدف، الذي سوف يفتح مساراً جديداً في المنطقة كلها، وخصوصاً في فلسطين، وأكبر جائزة يقدمها محور المقاومة لفلسطين هي إذلال أميركا من العراق، ثم طردها من سورية حكماً، وفتح الطرق بين أطراف محور المقاومة من إيران حتى البحر المتوسط، وفتح طريق تعافي سورية واستعادة أراضيها، لأن الانسحاب الأميركي يفتح طريق الانسحاب التركي، وسورية المتعافية جائزة إضافية لفلسطين.
الصراع على العراق هو بيضة القبان في المواجهة الدائرة بين جبهة الاحتلال وجبهة الاستقلال في المنطقة.