ناصر قنديل
في الكلام المعلن لوزير الخارجية الأميركيّة أنتوني بلينكن، كما في تسريبات الكواليس، أن القضية الرئيسية في نقاشاته مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وأركان مجلس الحرب في كيان الاحتلال، هي القلق على المدنيين الفلسطينيين الذين تجمعوا بمئات الآلاف كنازحين في رفح، ولذلك فهو جاء يطلب من نتنياهو صرف النظر عن عملية عسكرية يتحدّث نتنياهو عنها بإلحاح الى حد القول، نرغب أن نقوم بعملية رفح بدعم واشنطن، لكننا مستعدون لفعل ذلك وحدنا إذا لم نحصل على دعمكم. وكلام بلينكن الذي يتدفق بالإنسانية والقلق على المدنيين تكرره مندوبته في مجلس الأمن الدولي ليندا توماس التي تحاضر في زملائها الأعضاء في المجلس عن حرص حكومتها ووزيرها على المدنيين في غزة كمبرر يفسر مشروع القرار المقترح أميركياً على المجلس تحت عنوان وقف النار.
إنسانية بلينكن وتوماس ومن خلفهما رئيسهما جو بايدن، كانت موضوعاً بارزاً عن كثب في مداخلات المندوب الروسي فاسيلي نيبينيزيا والمندوب الصيني ليو جييي وممثل الجزائر عمار بن جامع في مجلس الأمن، خلال مناقشة المشروع الأميركي والتصويت ضده، لأنه مشروع منافق كما قال المندوب الروسي يهدف للتلاعب بالرأي العام دون تحقيق وقف النار، طارحاً السؤال المليون وهو لماذا الآن تشعر واشنطن بأن هناك مدنيين يقتلون؟ والمشروع يريد منح رخصة لقتل المزيد كما قال المندوب الصيني، وهو يهدف لشراء الوقت لصالح قوات الاحتلال لارتكاب المزيد من الجرائم بربط وقف النار بشروط يعلم صاحب المشروع درجة صعوبة تحقيقها، فيصير التملّص بداعي عدم توافر الشروط صكّ براءة للقاتل، كما قال المندوب الجزائريّ.
بلينكن يأتي محكوماً بالقلق من خسارة رئيسه للانتخابات الرئاسية أمام شارع متفجّر يضغط بقوة لوقف الحرب على غزة، ووقف المذبحة المفتوحة فيها، وواشنطن تريد مخاطبة هذا الشارع بالقول إنّها تضغط على تل أبيب وتخاصمها وتهددها تلبية لرغبة هذا الشارع والسعي لتنفيذ طلباته، لكن بلينكن وكل إدارة الرئيس بايدن عندما تريد أن تتحمل مسؤولية تأجيل عملية رفح، فهي تشتري صك براءتها من الشراكة بكل الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال، وتقدّم التأجيل كإثبات لجدية التزامها بمعايير حماية المدنيين، لكنها في الوقت نفسه تقدّم خشبة خلاص لنتنياهو الذي يعلم أنه يتحدّث عن معركة رفح لكنه لن يذهب اليها، فيضع الضغوط الأميركية سبباً للتأجيل تلو التأجيل. ويبدو تشدده بخوضها علامة “وطنية” يقدمها للرأي العام اليميني في الكيان، ويبدو التأجيل حرصاً على العلاقة بواشنطن يقدمها للتيار المعارض في الكيان، وذلك لأن مدرسة الكذب تجمع بلينكن ونتنياهو، والسباق بينهما هو على مَن يربح جائزة الأكذب.
نتنياهو يعلم أن مصلحته هي في إطالة أمد الحرب، وأفضل طريقة لذلك هي معركة رفح التي يستمرّ بالحديث عنها ولكنه لا يخوضها، وهو يدرك أن خوضها يعني نهاية الحرب بشكلها الراهن، لكن دون أن تتوقف عمليات المقاومة، فلماذا يخوضها، وهو يفعل العكس. يقول إن عدم خوضها يعني عدم تحقيق النصر، وعندما يسأل لاحقاً عن سر عدم تحقيق النصر سيكون سهلاً عليه أن يقول لأننا لم نذهب الى رفح. ويوماً بعد يوم يصبح عدم الذهاب مفسراً بصفته ترجمة لضغوط أميركية. كما أن نتنياهو يعلم أن السباق بينه وبين بايدن دخل مرحلة أن يحاول أحدهما إسقاط الآخر كبش فداء للبقاء، حيث لا مانع لدى بايدن أن يؤدي بنتنياهو للرحيل عن الحكم إذا كان هذا جواز عبوره للانتخابات الرئاسيّة، وبالمقابل فإن نتنياهو لا يمانع بأن ينال جائزة إسقاط بايدن وترجيح كفة دونالد ترامب، كبديل للهزيمة في غزة، مع حرب لم يتمّ إغلاق ملفها، وتستمرّ حتى تأتي لحظة مناسبة لإغلاقها، لكن كل ذلك تحت سقف أن أميركا صهيونية وان “إسرائيل” قاعدة اميركية متقدمة في المنطقة.
سباق الكذب والخناجر وراء الظهور، علامة من علامات المأزق الأميركي الإسرائيلي، وتوزيع نصاب الخسائر، حيث كل منهما في وضع لا يتحمّل أن يسدّد من رصيده الخسائر ويسعى لنقلها إلى رصيد الحليف. وفي الحروب السابقة كان الأميركي والإسرائيلي يتفقان على ترحيل الخسائر إلى رصيد الشريك في العالمين العربي والإسلامي، كما حدث مع خسارة الحرب على سورية، لكن في هذه الحرب يبدو أن أعظم إنجازات حكومات العالمين العربي والإسلامي ليست بنصرة غزة، بل بعدم المشاركة بالحرب عليها، فصار الأميركيّ والإسرائيليّ وجهاً لوجه، كل منهما يسعى إلى النفاد بجلده، ويكذبان على بعضهما وعلى جمهور كل منهما، وغزة تراقب وتصمد وتثق بأن قضيتها ليست من يسدّد ثمن الهزيمة، طالما أنها في الحالتين سوف تنصر.