إضاءات إسلامية
اتجهت الحضارة التي كان لها وجود لسنوات وقرون طويلة نحو الزوال بعد مرور الزمان، وفقدت قدرتها على النفوذ وأصبحت مقعدة حيث وصلت إلى النهاية.
اتجهت الحضارة التي كان لها وجود لسنوات وقرون طويلة نحو الزوال بعد مرور الزمان، وفقدت قدرتها على النفوذ وأصبحت مقعدة حيث وصلت إلى النهاية.
والسؤال المطروح هنا: هل تقبل الحضارات الزوال وهل تموت؟ أم أنّ الحضارات لا تموت والذي يموت حقيقة هو أصحابها فيفقدون القدرة على الحركة نحو الأمام فيتوقّفون.
يعتقد البعض أنّ الحضارات – كما كافّة القوى الطبيعية – تابعة لطريقة مشتركة من حيث الولادة والنمو والانحطاط والموت. نُسب هذا الرأي إلى أشخاص أمثال، اشبنغر[1]، ودانيلو سكي وتوينبي حيث قالوا: “إنّ كافة الحضارات، تولد وتنمو وتنضح ومن ثم تموت”[2] صحيح أنّ هؤلاء الأشخاص لم يكن لديهم تحليل واحد في توضيح رؤيتهم، إلّا أنهم يعتقدون بموت الحضارات. يعتقد توينبي أنّ الحركة الدائرية للحضارات تشتمل على أربع مراحل:
1- مرحلة الظهور أو الولادة.
2- مرحلة النموّ والتكامل.
3- مرحلة النزول، أو السقوط.
4- مرحلة التجزئة[3].
يتفق اشبنغر وتوينبي على أنّ موت الحضارة يحصل عندما يزول الإبداع من المجتمع المتحضّر. يعتقد توينبي أنّ الأشخاص هم الذين يحرّكون التاريخ ويبين أنّ موت الحضارة يصبح واقعاً عندما لا تتمكّن المجموعة المحركة من إبداع قوىً بالمقدار الكافي لمواجهة المشكلات فتتحوّل هذه المجموعة الصغيرة وهم قادة المجتمع إلى مجموعة ظالمة فتزول الوحدة الاجتماعية وتُجزّأ الحضارة وتموت[4].
وهو من جملة الأشخاص الذين يعتقدون أنّ الحضارة الغربية في معرض السقوط. ويقابل هذه الرؤية، الرؤية الأخرى التي يعتقد أصحابها أنّ الحضارة لا تموت. بل تتجه نحو الحضيض، وأنّ الذي يموت هو الأمم والشعوب التي تتفرّق عن بعضها، وسبب تفرقها هو الانحطاط الثقافي الذي يقوم بدور في ظهور الحضارة.
يعتمد بحث حوار الحضارات، أو تصادمها على مبدأ أنّ الحضارات في العالم المعاصر أصبحت عديدة وهي تتمتّع بالقدرة على الحوار أو التصادم حتّى لو كان بعضها في الأوج والبعض الآخر دون ذلك. أمّا الحضارة التي تتنزل من الأوج إلى المراتب الدنيا، فهي لا تزول، بل تظهر روحها المتكاملة في مكان آخر، وهذا هو الذي يُعَبّر عنه بهجرة الحضارات.
يقول الشهيد مطهّري: “للحضارة طلوع وغروب، أي أنها تطلع في مجتمع ثم تصل إلى الانحطاط في ذاك المكان فتطلع في مكان آخر”[5].
كتب سوروكين في نقد المعتقدين بموت الحضارات:
“هناك الكثير من المعتقدات الثقافية للحضارة اليونانية والرومانية ما زال يُعمل بها حتّى اليوم وتشكّل جزءاً من حضارتنا وثقافتنا ومؤسّساتنا، أو أنها دخلت في أفكارنا وسلوكنا وعلاقاتنا.
كانت هذه المعتقدات حية وفاعلة وكانت مؤثّرة فينا حتى إنها أكثر حياة من الموضة التي كانت رائجة بالأمس أو من الكتاب الذي وصل قبل سنة إلى أكبر مقدار من البيع. إنّ أيًّا من الحضارات القديمة لم يمت…”[6]
صحيح أنه لم يبق في اليونان علماء أمثال أرسطو وأفلاطون وأن اليونان لم تقدّم فكراً جديداً، ولكنّ الذي كان موجوداً في أوج بلوغ الحضارة اليونانية، موجود بين أيدي مجتمعاتنا المتحضّرة اليوم أو أنّ نتائج الحضارة الإسلامية موجودة اليوم في الغرب.
يعتقد ويل ديورانت الذي عمل على توضيح زوايا تاريخ الحضارات أنّ: الحضارات لا تموت بل الأقوام والطوائف هي التي تزول. وتعرّض لبحث هذا الموضوع في كتابيه لذات الفلسفة ومدخل إلى تاريخ الحضارة.
يقول في الكتاب الأوّل تحت عنوان “استمرار الحضارة” أثناء جوابه عن سؤال: هل يمكن أن تبقى الحضارة حيّة إلى مدة غير محدّدة، أو أنها محكومة بالفناء؟:
“الحضارة ليست أمراً ماديّاً حتى تتعلّق بأرض وتراب محدودين، بل هي خليط لا يقبل اللمس من الإبداعات الفنية والثقافية. وإذا كان يمكن نقل هذا الخليط إلى مكان جديد يتمتّع بقوى مادية، فإنه يحفظ بشكل كبير ويبسط نفوذه وتصبح حقيقته متجذرة. الحضارة لا تموت بل تبقى بدءاً من الدولة والجيش والسياسيين والمحاسبين الذين تمتلكهم الحضارة والتي نمت وتطوّرت على أساس وجودهم. وأمّا الذي يموت فهو الأقوام والجماعات. الحضارة اليونانية لم تمت. بل الأرض التي أنجبت أمثال هومر والاسكندر لم تعد قادرة على تقديم نوابغ آخرين، فالحضارة اليونانية لم تبق اليوم في ذاك المكان، بل هي حية في مكان آخر وفي مكان معنوي وهو عبارة عن الحافظة للنوع الإنساني… كان أفلاطون وتلامذته يتحركون بشكل غير محدود في الأكاديمية وفي كلّ ساعة كان يحضر درسه آلاف الطلّاب. نعم الأمم والجماعات هي التي تموت، والأرض القديمة أصبحت يابسة حيث يمسك الناس معاولهم لينقلوها إلى مكان آخر بما يمتلكون من فنّ وذكريات ومحفوظات. إذا جعلت التربية هذه الذكريات واسعة وعميقة، فتهاجر معها والذي يتغير هو المكان والمسكن”[7].
يعتقد ويل ديورانت أنّ “الحضارات هي الأبناء الروحيون للنوع الإنساني”[8] وما هو موجود بين أيدينا اليوم هو النتائج التي قدّمها هؤلاء الأبناء، فالحضارة لا تموت بل تبقى حيث تظهر في مكان آخر. ثم إنّ ويل ديورانت يكرّر هذا الكلام في كتابه مدخل إلى تاريخ الحضارة ويقول: “الحضارات لا تموت كما أنّ الحضارة اليونانية لم تمت. بل الذي زال هو قالبها وقد انتشرت في أرض أخرى، فالحضارة اليونانية محفوظة في حافظة النوع الإنساني. الحضارات حية وهي نتاج روح البشر. والأمم هي التي تموت. والحضارة تهاجر مع التعليم والتربية وتختار مسكناً جديداً لها في مكان آخر”[9].
بناءً على ما تقدّم فالمقصود من هجرة الحضارات هو سريان إنتاج المجتمع المتحضر القديم إلى مجتمع متحضر جديد. ويتصل هذا السريان طبق رؤية ديورانت بالحقيقة عن طريق التعليم والتربية والتي يطلق عليها الثقافة، فتجد لها مكاناً عند قوم آخرين وهذا يعني أنها باقية. وأمّا الأمم المتحضّرة فهي التي قد تنحطّ فتميل في يوم من الأيام نحو البربريّة فتزول مظاهر الحضارة بالتدريج منها. يبدأ موت الأمم من خلال زوال الثقافة أو الانحراف فيها. ومع حركة الثقافة بين الصعود والهبوط يتلاشى الشعب المتحضّر ويصل إلى مرحلة الموت.
عندما تكون المرحلة، مرحلة انحطاط ثقافي، يستغل العدوّ الخارجيّ الفرصة للهجوم ويقضي على ما تبقى من الروح الثقافية والجماعية، وقد يعمد تارة إلى إزالة مظاهر الحضارة. لقد حوّل الاسكندر عرش جمشيد إلى خراب، وعمل المسيحيون للقضاء على مسلمي الأندلس، ومع هذه الحملات والحروب بقيت بعض جلوات الحضارة الإسلامية. ولكن لو لم يحصل انحطاط ثقافي وفساد اجتماعي في المجتمع، فالثقافة قادرة على مواجهة الحملات الخارجية بقوّة وصلابة، وبالتالي إرغام العدوّ على الاستسلام. صحيح أنّ المغول خرّبوا المدن الإسلامية وقتلوا الآلاف من الناس، إلا أنّ الثقافة الإسلامية كانت قوية ومتعالية وقادرة بحيث انجذبوا إليها. الحضارات من وجهة نظر الإسلام تقبل الهجرة والتكامل، وذلك للوصول إلى الحضارة العالمية الواحدة، أي حكومة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
روضة المبلغين (4) – 2015م، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] مستقبل الغرب،ز،ج،دبيوس،ترجمة بهاء الدين بازاركاد، 22، ابن سينا، مدخل إلى تاريخ الحضارة، ويل ديورانت، ترجمة أحمد بطحائي، خشايار ديهيمي،، 259، انتشارات الثورة الإسلامية.
[2] مستقبل الغرب، 75.
[3] م.ن، 60.
[4] م.ن، 65.
[5] فلسفة التاريخ، الشهيد مطهري، ج1، 246.
[6] مستقبل الغرب، 75.
[7] لذات الفلسفة، 306.
[8] م.ن، 307.
[9] مدخل إلى تاريخ الحضارة، 263.