مفاهيم القرآن (العدل والإمامة) – الشيخ جعفر السبحاني – ج ١٠
7 أيام مضت
القرآن الكريم
37 زيارة
وأما الدعوى الثانية
وهي أنه بعد ما تبين أن العدل حسن، والظلم قبيح، فالله سبحانه موصوف بالعدل ومنزه عن الظلم، وذلك، مضافا إلى أنه سبحانه حكيم، والحكيم يعدل ولا يجور – أن الجور رهن أحد أمرين، إما الجهل بقبح العمل، أو الحاجة إليه، والمفروض انتفاء كلا المبدأين عنه سبحانه.
وربما يقال إن كون الشئ حسنا أو قبيحا عند الإنسان لا يلازم كونه كذلك عند الله، فكيف يمكن استكشاف أنه سبحانه لا يفعل القبيح؟
والجواب عنه واضح لأن المدرك للعقل هو حسن الفعل على وجه الإطلاق، أو قبحه كذلك، من دون أن تكون للفاعل مدخلية فيه سوى كونه فاعلا مختارا، وأما كونه واجبا أو ممكنا فليس بمؤثر في قضاء العقل. وعلى ذلك فإذا ثبت كون الشئ جميلا أو قبيحا فهو عند الجميع كذلك.
* شمولية عدله سبحانه يظهر من الآية الأولى أن عدله يعم جميع شؤونه، حيث يقول: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) * (1) فقوله: ” قائما ” حال من لفظ الجلالة، في قوله: شهد الله، أو الضمير المنفصل، أعني: إلا هو.
والمتبادر منه أنه سبحانه يجري العدل في عامة شؤونه في خلقه وتشريعه فهو عادل ذاتا وفعلا.
وتشهد على ذلك مضافا إلى شهادته سبحانه به، شهادة الملائكة وأولي العلم، فكأن الآية تنحل إلى الجمل التالية:
(١) آل عمران: ١٨.
(١٧)
1 – ” شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط “.
2 – ” شهدت الملائكة أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط “.
3 – ” شهد أولو العلم أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط “.
فالآية تدل على شهادته سبحانه على أمرين: (1) الأول: لا إله إلا هو، لا نظير له.
الثاني: إنه قائم بالقسط.
ومن المعلوم أن الشهادتين ليستا من مقولة الشهادة اللفظية، وإنما هي من مقولة الشهادة التكوينية، ففعله سبحانه في عالم الخلقة يدل على أمرين:
الأول: لا خالق ولا مدبر إلا هو، فإن إتقان النظام، وسيادته على جميع الكائنات من الذرة إلى المجرة، لأوضح دليل على أن الخالق والمدبر واحد، وإلا لانفصمت عرى الانسجام والاتصال بين أجزاء الكون، وقد أوضحنا في محله أن تعدد العلة واختلاف السببين يستلزم اختلافا في المسبب، فلا يمكن أن يكون النظام الواحد معلولا لفاعلين مدبرين مختلفين في الحقيقة.
الثاني: يشهد فعله سبحانه في عالم التكوين والتشريع أنه سبحانه عادل وقائم بالعدل.
وأفضل كلمة قيلت في تعريف العدل هي ما روي عن علي عليه السلام، حيث قال:
” العدل يضع الأمور مواضعها “. (2)
(1) ما ذكرنا مبني على أن قيامه بالقسط من المشهود به خلافا للسيد الطباطبائي حيث خص الشهادة بالتوحيد.
(2) نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 437.
(١٨)
بيان ذلك أن لكل شئ وضعا خاصا يقتضيه إما بحكم العقل، أو بحكم الشرع والمصالح الكلية في نظام الكون، فالعدل هو رعاية ذلك الوضع وعدم الانحراف إلى جانب الإفراط والتفريط.
نعم موضع كل شئ بحسبه، ففي التكوين بوجه، وفي المجتمع البشري بوجه آخر، وهكذا. وبلحاظ اختلاف موارده تحصل له أقسام ليس هنا مقام بيانها، إلا أن العدل بالنسبة إلى الله تعالى على أنحاء ثلاثة:
1 – العدل التكويني: وهو إعطاؤه تعالى كل موجود ما يستحقه ويليق به من الوجود فلا يهمل قابلية، ولا يعطل استعدادا في مجال الإفاضة والإيجاد.
2 – العدل التشريعي: وهو أنه تعالى لا يهمل تكليفا فيه كمال الإنسان وسعادته، وبه قوام حياته المادية والمعنوية الدنيوية، والأخروية، كما أنه لا يكلف نفسا فوق طاقتها.
3 – العدل الجزائي: وهو أنه تعالى لا يساوي بين المصلح والمفسد، والمؤمن والمشرك، في مقام الجزاء والعقوبة، بل يجزي كل إنسان بما كسب، فيجزي المحسن بالإحسان والثواب، والمسئ بالإساءة والعقاب، كما أنه تعالى لا يعاقب عبدا على مخالفة التكاليف إلا بعد البيان والإبلاغ.
وبذلك تبين معنى الآية، وشهادته سبحانه على كونه قائما بالقسط في جميع الأنحاء.
وأما شهادة الملائكة وأولي العلم وذلك فبتعليم منه سبحانه.
وأما سائر الآيات التي أوردناها في صدر الفصل، فهي غنية عن التفسير، لأنها بصدد بيان أن العذاب في الدنيا والآخرة رهن عمل الإنسان، فلو عذب فإنما
(١٩)
هو لأجل القبائح والذنوب التي اقترفها، يقول سبحانه:
* (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد)
*. (1) وقال عز من قائل: * (فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
*. (2) والله سبحانه لا يظلم عباده ولو جاء العبد بحسنة يضاعفها، كما قال سبحانه:
* (وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما)
*. (3) ولأجل إيضاح عدله سبحانه في عالم التكوين والتشريع نعطف النظر إلى آيات تدل على ذلك في الفصل التالي.
(١) آل عمران: ١٨٢.
(٢) التوبة: ٧٠.
(٣) النساء: ٤٠.
(٢٠)
2024-09-27