الرئيسية / من / طرائف الحكم / السُّجُودُ – مفهومه وآدابه والتربة الحسينية

السُّجُودُ – مفهومه وآدابه والتربة الحسينية

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف مبعوث للعالمين، نبينا محمد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين، ومن أخلص من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. وبعد:

إنّ أساليب علاقة الاِنسان بخالقه تعالى تتسع باتساع الحياة وطرق التعامل معها في شؤونها المختلفة، وليست هي موقوفة على اسلوب واحد أو نمط واحد، قال تعالى: ( يا أيُّها الاِنسان إنّك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه )،

فللاِنسان في مسيرة حياته بطولها خطوط وصل بينه وبين الله تعالى لا يحول دونها شيء إلاّ إرادة الاِنسان نفسه في تقطيعها أو تهميشها، ذلك الذي سيجر إلى نفسه الشقاء بمحض إرادته..

فما زال الاِنسان يشق طريق حياته من خلال معرفته بالله تعالى وتحري سبل رضاه متمثلاً قوله تعالى: ( وما لاَحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى إلاّ ابتغاء وجه ربه الاَعلى ) فهو على سبيل النجاة.. إذ هو ماضٍ مع كلمة الله تعالى في خلقه: ( وما خلقت الجن والاِنس إلاّ ليعبدون ). وتلك هي العبادة في مفهومها الواسع الذي لاتخرج عن إطاره صغيرة ولا كبيرة في طريق الكدح الاِنساني الطويل. وهكذا تكون حياة الاِنسان عامرة بالعبادة فهو على صلة بالله تعالى لا تنقطع.

غير أنّ الاِنسان أحوج ما يكون إلى أنماطٍ من الصلة بالله تعالى تكون فيها الروح هي الحاضرة بالدرجة الاُولى، بعيداً عن معترك الحياة وشؤونها. فالروح تسمو في أجوائها الخاصة بها، وتتألق حيث تتراجع مصالح الجسد العاجلة ومشتهياته.

من هنا كانت العبادات الخاصة التي أوجبتها الشريعة السمحة بمثابة الفرص النموذجية لتألق الروح وتساميها وتكاملها، لاستجماع البصيرة وشحذها بمزيد من الطاقة اللازمة لدفعات الحياة اللاحقة.. ناهيك عما تتفرد

( 6 )

به هذه العبادات الخاصة من أسباب القرب إلى الله تعالى ونيل رضاه، فالحج والصيام هجرتان إلى الله تعالى في لونين مختلفين، تعيش الروح مع كلِّ منهما نمطاً من أنماط التكامل والسمو، وفي الزكاة والصدقات حركة جهادية تنفلت فيها الروح من أسر الاَنا ومن أسر المادة لتذوق حلاوة الاحساس بالمسؤولية إزاء عباد الله الذين كرّمهم الله تعالى وعظّم حرماتهم.. وفي الصلاة انقطاعة لا نظير لها إلى الله تعالى.. وقوف وامتثال وخضوع في أشكال شتى وأذكار متعددة تنتقل خلالها الروح من روض إلى روض، ومن فناء إلى فناء، ومن موعظة إلى اُخرى.. تستقبل في ذلك كلّه أجمل التعاليم في سياق منتظم، إنّها مدرسة الروح ومنتجع القيم..

وفي أثناء هذه الرياضة الروحية المثلى يستشعر الاِنسان قربه الحقيقي من بارئه حين يضع جبهته على التراب، ساجداً خاضعاً مسبّحاً بحمد ربّه الاَعلى الذي سبّح له كلّ شيء.

إنّ المتمثل لحالات السجود يدرك جيداً أنَّ السجود وحده مدرسة.. ولاشكّ فإنّ لكلِّ مدرسة نظامها وحدودها وآدابها.. ومن ناحية اُخرى فلقد ارتبطت بمدرسة السجود معالم اُخرى واقترنت بها لاَسباب جديرة بتحقق ذلك الاقتران، فدخلت في موسوعة السجود مفردات مثل «التربة الحسينية» فما هو موقع هذه المفردة من هذه الموسوعة، وكيف نفهم مفردات اُخرى تعترضنا هنا من قبيل «سجود الملائكة لآدم»، و «سجود يعقوب وبنيه ليوسف» ونحو هذا؟

في مدرسة السجود هذه وبين صفحات موسوعتها سينتقل بنا هذا الكتاب مجيباً عن شتى الاَسئلة ممّا له بالبحث صلة.

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة

( 7 )

المقدِّمة
لقد كرم الله تعالى الاِنسان وفضّله على كثير ممن خلق بما أعطاه من العقل ليميّز به الاَشياء، ويختار ما يراه مناسباً ومتوافقاً مع ما أراده الله تعالى له من الوصول إلى الكمال من خلال العبودية لله وحده، قال تعالى: ( وما خلقت الجن والاِنس إلاّ ليعبدون ).
لقد شرّف الله تعالى هذا الاِنسان على بقية مخلوقاته بالعبادة،

وجعل الصلاة من أفضل العبادات، فهي صلة العبد بربه، ومعراج المؤمن، وقربان كلّ تقي، والحدّ الفاصل بين المسلم والكافر،

والميزان في قبول الاَعمال، وفي الاَثر عن النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: « إنّ أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، فإذا قبلت قبل سائر عمله، وإذا رُدّت عليه، رُدّ عليه سائر عمله ».

والصلاة هي العبادة التي يمتثل بها العبد أمام خالقه واهب الحياة، وهي التي تطهّر روحه، وتصدّه عن الفحشاء والمنكر، وتهديه إلى سواء السبيل، قال تعالى: ( إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ).

وأفضل أجزاء الصلاة وأهمها هو السجود لله سبحانه وتعالى ؛ لاَنّه يمثّل منتهى مظاهر العبودية والتذلّل والتعظيم لله جلَّ وعلا، وهو أعظم العبادات، وما عُبد الله بمثله، وما من عمل أشقّ على إبليس من أن يرى ابن آدم ساجداً لله تعالى ؛ لاَنّه قد أُمر به فعصى وغوى فهلك، وابن آدم قد أُمر به فأطاع وسجد فنجا.

( 8 )

والسجود ـ في نظر الاِسلام ـ هو غاية الخضوع والتواضع البشري أمام الله عزَّ وجلَّ ـ خالق الكون وربّ العالمين ـ وذروة التحليق والسمو الاِنساني في مسيرة العبودية لله وحده، لذا يحرم السجود لغير الله سبحانه وتعالى بأيّ شكلٍ كان، وليس السجود مقتصراً على الانسان وحده، قال تعالى: ( ولله يسجد من في السموات والاَرض ).

إنَّ المسلمين متّفقون بأجمعهم على ضرورة السجود لله سبحانه وتعالى، ومتّفقون على وجوب سجدتين في كلِّ ركعة من كلِّ صلاة، ويعتبرون ذلك من ضروريات الاِسلام ؛ لاَنَّ السجود من الواجبات الركنية في الصلاة فلا يجوز تركها بأيّ حالٍ من الاَحوال، وإنّما يختلفون فيما يصح السجود عليه، ولهم في هذه المسألة آراء متعددة.

ونحن سنتناول هذه الآراء وغيرها ممّا يتعلق بمفهوم السجود، ونحاول دراستها تفصيلاً، وفقاً لمنهج البحث العلمي الموضوعي، مستهدين بآيات القرآن الكريم وبما ثبت من السُنّة النبوية الشريفة وسيرة أهل البيت عليهم السلام، وذلك ضمن أربعة فصول:
الأَول: في بيان مفهوم السجود وآثاره العبادية.

والثاني: في أنواع السجود.
والثالث: في بيان حرمة السجود لغير الله.
والرابع: في بيان ما يصح السجود عليه وما لا يصح، وتوضيح الاَسباب الموجبة للسجود على التربة الحسينية.
آملين منه تعالى التوفيق في الوصول إلى كلمة الفصل، وبه نستعين.

( 9 )

الفصل الاَول

مفهوم السجود وآثاره العبادية

المبحث الاَول

معنى السجود وموقعه العبادي

أولاً : تعريف السجود:
1 ـ السجود في اللغة:
الطاعة والخضوع، يقال: سَجَدَ، سُجُوداً، أي: خضع وتطامن (1)، ومنه قوله تعالى: ( ألم ترَ أنّ الله يسجد له من في السموات والاَرض… ) (2) فهذا لسان حال تلك المخلوقات في الطاعة والخضوع، وكل شيء ذلّ
____________
(1) المعجم الوسيط 1: 416 ( سجد )، مكتب نشر الثقافة الإسلامية 1412 هـ ط4.
والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير|الفيومي 1: 266 ( سجد )، منشورات دار الهجرة ـ قم 1414 هـ ط2.
(2) سورة الحج: 22|18.

( 10 )

فقد سجد (1)، وهو ساجد. والجمع: سُجّد، وسُجودٌ (2).
والسَجّادُ: الكثير السجود (3)، ورجل سجّاد: على وجهه سَجّادة، أي: ثفنة من أثر السجود (4).
وقد اشتهر به الاِمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام لكثرة سجوده لله تعالى ولهذا لُقب عليه السلام بالسجاد، وذي الثفنات.
والمسجَدُ: جبهة الرجل حيث يصيبه أثر السجود (5)، والجمع مَسَاجِدُ، والمساجِدُ من بدن الانسان: الاَعضاء السبعة التي يسجد عليها، وهي: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان (6).
والمَسجِدُ: بيت الصلاة (7)، ومكانها المخصص.
والمَسجِدُ الحرام: الكعبة، والمسجِدُ الاَقصى: مسجد بيت المقدس، قال تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجِد الحرام إلى المسجِد
____________
(1) المصباح المنير 1: 266 ( سجد ).
(2) المعجم الوسيط 1: 416 ( سجد ).
(3) المعجم الوسيط 1: 416 ( سجد ).
(4) أساس البلاغة|الزمخشري: 285 ( سجد )، دار الفكر ـ بيروت 1409 هـ 1989م.
(5) المختار من صحاح اللغة: 229 ( سجد )، انتشارات ناصر خسرو ـ طهران 1363 هـ ش. وأساس البلاغة: 285 ( سجد ).
(6) المعجم الوسيط 1: 416 ( سجد ). (7) المصباح المنير|الفيومي 1: 266 ( سجد ).

( 11 )

الاَقصى الذي باركنا حوله ) (1). والجمع: مساجِد.
2 ـ السجود في الاصطلاح:
هو الانحناء ووضع أعضاء السجود (2)على الاَرض، بحيث يساوي موضع جبهته موقفه، أو يزيد بقدر لبنة لا غير (3).
وحقيقته: وضع الجبهة وباطن الكفين والركبتين وطرفي الابهامين من القدمين على الاَرض (4)، بقصد التعظيم (5).
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام تسمية مثل هذا السجود بالسجود الجسماني، وهو أقلّ رتبةً من السجود الآخر المسمى بالنفساني، قال عليه السلام : « السجود الجسماني: هو وضع عتائق الوجوه على التراب، واستقبال الاَرض بالراحتين والركبتين وأطراف القدمين مع خشوع القلب وإخلاص النية.
____________
(1) سورة الاسراء 17|1.
(2) أعضاء السجود سبعة، وهي: الجبهة، والكفان، والركبتان، وابهاما الرجلان.
تذكرة الفقهاء|العلامة الحلي 3: 185، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم 1414 هـ ط1، وإليه ذهب أحمد بن حنبل واختاره الشافعي في أحد قوليه، كما في المغني لابن قدامة الحنبلي 1: 591. والاُم للشافعي 1: 114.
(3) جامع المقاصد في شرح القواعد|المحقق الكركي 2: 298، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم 1414 هـ ط2.
(4) المقنعة|الشيخ المفيد: 105.
(5) مهذب الاحكام في بيان الحلال والحرام|السيد السبزواري 6: 416، مؤسسة المنار ـ 1412هـ ط4.

( 12 )

والسجود النفساني: فراغ القلب من الفانيات، والاقبال بكنه الهمّة على الباقيات، وخلع الكبر والحمية، وقطع العلائق الدنيوية، والتحلّي بالاخلاق النبوية » (1).

شاهد أيضاً

لأكون مع الصادقين د. محمد التيجاني

الذين اعتلوا منصة الخلافة بعد رسول الله، ويفسره الشيعة على أنهم الخلفاء الاثنا عشر وهم ...