البحث الثاني
حقيقة السر المستودع في فاطمة ( عليها السلام )
عبد الحسين صادق العاملي
أنائحة مثلي على العرصة القفرا * تعالى أقاسمك المناحة والذكرى
حديث الجوى يا ورق يرويه كلنا * عن العبرة الوطفاء والكبد الحرى
كلانا كئيب يتبع النوح أنة * إذا ما وعاها الصخر صدعت الصخرا
خذي لك شطرا من رسيس مبرح * ولي منه يا ذات الجناح ذري شطرا
خلا إنها تبكي وما فاض دمعها * وأرسلتها من مقلتي أدمعا حمرا
فلا جمر أحشائي يجفف عبرتي * ولا عبرتي في صوبها تخمد الجمرا
وقائلة وهي الخلية من جوى * معرسه أضحى في الحيازم والصدرا
رويدك نهنه عن غرامك واتخذ * شعاريك في الخطب التجلد والصبرا
فقلت ولكن فاتني الصبر كله * لرزء أصيبت فيه فاطمة الزهرا
غداة تبدت مستباحا خباؤها * ومهتوكة حجب الخفارة والسترا
على حين لا عين النبي أمامها * لتبصر ما عانته بضعته قسرا
على حين لا سيف الرسول بمنتضى * الغرار ولم تنظر لرايته نشرا
بنحلتها جاءت تطالب معشرا * بدا كفرهم من بعد ما أضمروا الكفرا
عموا عن هواها ثم صموا كثيرهم * كأن بسمع القوم من قولها وقرا
لقد أرعشت بالوعظ صل ضغونهم * فثاروا لها والصل إن يرتعش يضرا
فلو أنهم أوصى النبي بظلمهم * لها ما استطاعوا غير ما ارتكبوا أمرا
وأنى وهم طورا عليها تراثها * أبوا وأبوا منها البكا تارة أخرى
وهم وشموها تارة بسياطهم * وآونة قد أوسعوا ضلعها كسرا
وخلي حديث الباب ناحية فما * تمثلته إلا جرت مقلتي نهرا
بنفسي التي ليلا توارت بلحدها * وكان بعين الله أن دفنت سرا
بنفسي التي أوصت بإخفاء قبرها * ولولاهم كانت بإظهاره أحرى
البحث الثاني
حقيقة السر المستودع
* كتمان الأسرار :
أكد القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة على اطلاع الباري عز وجل على خائنة
العين وما تخفي الصدور ، ويعني هذا أن الله يعلم السر وما أخفى ، وهو ما أضمره
الإنسان وأسره ثم نسيه * ( والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ) * ( 1 ) ، وأيضا جاء قوله
تعالى * ( وأسروا قولكم أو اجهروا به ، أنه عليم بذات الصدور ) * ( 2 ) . ليؤكد هذه
الحقيقة ، حقيقة السر الذي يكتمه الإنسان على غيره ولكن لا يخفى على الله تعالى أي
سر لأن الله تعالى خالق الإنسان في هذا العالم وإلى ذلك أشار القرآن * ( قل أنزله
الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، إنه كان غفورا رحيما ) * ( 3 ) ، فيعلم الله تعالى
حقيقة أسرار الناس وما يكتمون ، إلا أنه هناك أسرار مودعة من قبل الله تعالى عند
كثير من الأولياء وخصوصا الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين حيث أمرهم
بحفظها ولا يظهروها إلا لمن هو أهل لها ، ولنعم ما قيل في الشعر المنسوب إلى مولى
الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حيث قال :
لا تفش سرا ما استطعت إلى امرئ * يفشي إليك سرائرا يستودع
فكما تراه بسر غيرك صانعا * فكذا بسرك لا محالة يصنع
وإلى ذلك أشار الفرزدق :
لا يكتم السر إلا من له شرف * والسر عند كرام الناس مكتوم
السر عندي في بيت له غلق * ضلت مفاتيحه والباب مردوم
إذن الأسرار المودعة من قبل الله تعالى عند الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين
هي أمانات وكما ورد في المثل الذي يقول ” السر أمانة فانظر عند من تضع أمانتك ” ،
وقال الله تعالى : * ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) * ( 1 ) .
وأسرار الله تعالى كلها أماناته في أرضه وقلوب أوليائه ولا إجازة لهتكها وكشف
قناعها إلا بين يدي صاحبها الذي هو أهل لها وهذا أمر أمر الله تعالى به عباده
المخلصين من الأنبياء والأولياء – ( عليهم السلام ) – وبالغ معهم ، وأمرهم أيضا أن يأمروا بذلك
المؤمنين ويبالغوا فيه ، حتى قالوا ” إفشاء سر الربوبية كفر وهتك أستار الألوهية
زندقة ” وقالوا ” لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها ، فتظلموها ، ولا تمنعوها من أهلها
فتظلموهم كونوا كالطبيب الشفيق يضع الدواء موضع الداء ” .
وقالوا في الشعر المنسوب الفارسي ” فمن منع الجهال علما أضاعه ومن منع المستوجبين
فقد ظلم ” ، وأقوالهم الشاهدة بذلك وإشاراتهم الدالة عليه أشهر وأظهر من أن تخفى
على أحد ، ومع ذلك نحن نذكر بعض ذلك استظهارا لك ولغيرك لئلا يهمله أحد ويوقع
نفسه في الهلاك الأبدي والشقاء السرمدي ، حيث جاء قوله تعالى تعليما لعباده وتأكيدا
لهم في أداء الأمانة التي هي أسراره إلى أهلها * ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات
والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا ) * ( 2 ) .
والمراد أنه يقول : الذين هم الملائكة والجن والحيوانات والوحوش والطيور وغير ذلك
– أو على استعداد كل واحد من السماوات والأرض والجبال بنفسها ، لأنها عند
الأكثرين شاعرة بذاتها – لأجل إيداع أمانتنا التي هي أسرارنا فما وجدنا أهلا لها
ومستعدين لحملها لعدم قابليتهم وضعف استعدادهم لأن حمل الشئ وقبوله موقوف
على قابلية ذلك الشئ واستعداده ووجدنا الإنسان أهلا لها ومستعدا لحملها فأمرناه
بحملها وأشرنا إليه بقبولها لأنه كان ” ظلوما جهولا ” أي بسبب أنه كان مستعدا لها
ومستحقا لحملها ” بظلوميته وجهوليته ” .
فكأنه يقول : إن السبب الأعظم والممد الأعلى في أهليته لهذه الأمانة المعروضة على
السماوات والأرض والجبال وما فيها من المخلوقات كان ” ظلوميته وجهوليته ” لأنه لو
لم يكن مستحقا لحملها ومستعدا لقبولها لكان كغيره من الموجودات لعدم هاتين
الصفتين فيه ، وعلى هذا التقدير تكون صفتا ” الظلومية والجهولية ” مدحا له ” يعني
للإنسان ” لا مذمة كما ذهب إليه أكثر المفسرين ( 1 ) ، ولا شك أنه كذلك واللام في ” لأنه
” لام التعليل لا غير ، ليعرف به هذا المعنى والمراد بالإنسان نوعه وبالحمل استعداده
للحمل وقابليته له .
وهذا هو المعنى المطابق للأمانة والعرض والحمل والقبول والإباء
إجمالا لا غير ، وإلا الأمانة ما كانت شيئا محسوسا معروضا على كل واحد من
الموجودات حسا وشهادة ولا كان آباؤهم عنها قولا وفعلا ، كما يرسخ في أذهان
المحجوبين عنها .
إذن بما أنه تعالى مع عظمة شأنه وجلالة قدره لم يضع ويدع الأمانة
إلا عند أهلها ، ولم يأذن بها إلا إلى صاحبها فلا ينبغي أن يفعل غيره بخلاف ذلك وإلا
يكون مخالفا لأمره سالكا غير طريقه وأيضا لو لم تكن رعاية الأمانة عنده عظيمة
ما مدح بنفسه للراغبين أمانته ، وما سلكهم في سلك المصلين الصلاة الحقيقية ،
وما جعلهم من الوارثين * ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلواتهم خاشعون ،
والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون ) * إلى قوله تعالى * ( أولئك
هم الوارثون الذين هم يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) * فحيث مدحهم على ذلك
وسلكهم في سلك هؤلاء المعظمين بل قدمهم عليهم وجعلهم من الوارثين ” الذين
يرثون الفردوس ” فعرفنا أن رعايتها ” يعني رعاية الأمانة ” معتبرة وقدرها جليل
وشأنها عظيم وبالجملة الخيانة في هذه الأمانة هي إيداعها عند غير أهلها ، وإمساكها
عن أهلها ، وكلاهما غير جائز وإليه أشار جل ذكره في قوله * ( يا أيها الذين آمنوا
لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) * أي ” لا تخونوا الله
والرسول ” بإيداع أسرارهم عند غير أهلها ” وأنتم تعلمون ” عاقبة الخائن وصعوبة
عذابه وشدة عقوبته : * ( ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) * أي ذلك القول ” وصاكم به
لعلكم تتقون ” عنها أي تحتزرون عن الخيانة بعد ذلك وتعظمون مكانتها . جعلنا الله
من الحاملين أمانته والراعين عهده ، الموفين به الوارثين جنته ، بمحمد وآله أجمعين .
وإذ فرغنا من كلام الله تعالى ، فلنشرع في كلام الأنبياء ( عليهم السلام ) ومنها قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
” من وضع الحكمة في غير أهلها جهل ، ومن منع عن أهلها ظلم ” ” أن للحكمة حقا ،
وأن لها أهلا : فأعط كل ذي حق حقه ” وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ” أن من العلم كهيئة المكنون ،
لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله ، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله ” وغير ذلك
من الأقوال المعلومة لأهلها .