تفسير الميزان : السيد الطباطبائي
يومين مضت
القرآن الكريم
17 زيارة
نفسه (بأنه هدى للعالمين ونور مبين وتبيان لكل شئ) مهديا إليه بغيره ومستنيرا بغيره ومبينا بغيره، فما هذا الغير! وما شأنه! وبماذا يهدي إليه! وما هو المرجع والملجأ إذا اختلف فيه! وقد اختلف واشتد الخلاف.
وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم (مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي) الكلمات أو الآيات، فإنما هو كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي.
وليس بين آيات القرآن (وهي بضع آلاف آية) آية واحدة ذات اغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحير الذهن في فهم معناها، وكيف! وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الاغلاق والتعقيد، حتى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم، وإنما التشابه في المراد منها وهو ظاهر.
وإنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها ومركبها، وفي المدلول التصوري والتصديقي.
توضيحه: ان الانس والعادة (كما قيل) يوجبان لنا ان يسبق إلى أذهاننا عند استماع الألفاظ معانيها المادية أو ما يتعلق بالمادة فإن المادة هي التي يتقلب فيها أبداننا وقوانا المتعلقة بها ما دمنا في الحياة الدنيوية، فإذا سمعنا ألفاظ الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والرضا والغضب والخلق والامر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادية لمفاهيمها.
وكذا إذا سمعنا ألفاظ السماء والأرض واللوح والقلم والعرش والكرسي والملك وأجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى أفهامنا مصاديقها الطبيعية.
وإذا سمعنا: إن الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء وأو يشاء كذا قيدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.
وإذا سمعنا نحو قوله: (ولدينا مزيد الآية) وقوله: (لاتخذناه من لدنا الآية)
(٩)
وقوله: (وما عند الله خير الآية). وقوله: (إليه ترجعون الآية) قيدنا معنى الحضور بالمكان.
وإذا سمعنا نحو قوله: (إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها الآية). أو قوله:
(ونريد ان نمن الآية) أو قوله: (يريد الله بكم اليسر الآية) فهمنا: أن الجميع سنخ واحد من الإرادة، لما إن الامر على ذلك فيما عندنا، وعلى هذا القياس.
وهذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة، ومن حقنا ذلك، فإن الذي أوجب علينا وضع ألفاظ إنما هي الحاجة الاجتماعية إلى التفهيم والتفهم، والاجتماع إنما تعلق به الانسان ليستكمل به في الافعال المتعلقة بالمادة ولواحقها، فوضعنا الألفاظ علائم لمسمياتها التي نريد منها غايات وأغراضا عائدة إلينا.
وكان ينبغي لنا ان نتنبه: أن المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول والتكامل كما أن السراج أول ما عمله الانسان كان اناء فيه فتيلة وشئ من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضائة به في الظلمة، ثم لم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي ولم يبق من اجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بإزائه لفظ السراج شئ ولا واحد.
وكذا الميزان المعمول أولا، الميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلا.
والسلاح المتخذ سلاحا أول يوم، السلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك.
فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلك باق، وليس إلا لان المراد في التسمية إنما هو من الشئ غايته، لا شكله وصورته، فما دام غرض التوزين الاستضائة أو الدفاع باقيا كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقيا على حاله.
فكان ينبغي لنا ان نتنبه أن المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك مما لا مطمع فيه البتة، ولكن العادة والانس منعانا ذلك، وهذا هو الذي دعى المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسمة ان يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير وليس في الحقيقة جمودا على الظواهر بل هو جمود على العادة والانس في تشخيص المصاديق.
(١٠)
لكن بين هذه الظواهر أنفسها أمور تبين: أن الاتكاء والاعتماد على الانس والعادة في فهم معاني الآيات يشوش المقاصد منها ويختل به أمر الفهم كقوله تعالى: (ليس كمثله شئ الآية). وقوله: (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير). وقوله: (سبحان الله عما يصفون).
وهذا هو الذي دعى الناس أن لا يقتصروا على الفهم العادي والمصداق المأنوس به الذهن في فهم معاني الآيات كما كان غرض الاجتناب عن الخطاء والحصول على النتائج المجهولة هو الذي دعى الانسان إلى أن يتمسك بذيل البحث العلمي، وأجاز ذلك للبحث ان يداخل في فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصدة العالية، وذلك على أحد وجهين، أحدهما: ان نبحث بحثا علميا أو فلسفيا أو غير ذلك عن مسألة من المسائل التي تتعرض له الآية حتى نقف على الحق في المسألة، ثم نأتي بالآية ونحملها عليه، وهذه طريقة يرتضيها البحث النظري، غير أن القرآن لا يرتضيها كما عرفت، وثانيهما: ان نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخص المصاديق ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى:
(إنا نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ الآية). وحاشا أن يكون القرآن تبيانا لكل شئ ولا يكون تبيانا لنفسه، وقال تعالى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان الآية). وقال تعالى: (إنا أنزلنا إليكم نورا مبينا الآية). وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقانا ونورا مبينا للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشد الاحتياج! وقال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا الآية). وأي جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه! وأي سبيل اهدى إليه من القرآن!.
والآيات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم والمتشابه في أوائل سورة آل عمران.
ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي علمه القرآن وجعله معلما لكتابه كما يقول تعالى:
(نزل به الروح الأمين على قلبك الآية). ويقول: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم الآية). ويقول: يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة الآية). وعترته وأهل بيته (الذين أقامهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المقام في الحديث المتفق
(١١)
عليه بين الفريقين (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). وصدقه الله تعالى في علمهم بالقرآن، حيث قال عز من قائل: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). وقال: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه الا إلا المطهرون الآية) وقد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من اخبارهم في التفسير. وسنورد ما تيسر لنا مما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل بيته في ضمن أبحاث روائية في هذا الكتاب، ولا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجة نظرية عقلية ولا فرضية علمية.
وقد قال النبي صلى الله عليه وإليه وسلم: (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع وما حل مصدق، من جعله امامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعروف لمن عرف النصفة، فليرع رجل بصره، وليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب ويخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلص ويقل التربص). وقال علي عليه السلام: (يصف القرآن على ما في النهج) (ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض الخطبة).
هذا هو الطريق المستقيم والصراط السوي الذي سلكه معلمو القرآن وهداته صلوات الله عليهم.
وسنضع ما تيسر لنا بعون الله سبحانه من الكلام على هذه الطريقة في البحث عن الآيات الشريفة في ضمن بيانات، قد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجة نظرية فلسفية أو إلى فرضية علمية، أو إلى مكاشفة عرفانية.
واحترزنا فيها عن أن نضع الأنكتة أدبية يحتاج إليها فهم الأسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو عملية لا يختلف فيها الافهام.
(١٢)
وقد تحصل من هذه البيانات الموضوعة على هذه الطريقة من البحث استفراغ الكلام فيما نذكره:
(1) المعارف المتعلقة بأسماء الله سبحانه وصفاته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوحدة وغيرها، وأما الذات فستطلع أن القرآن يراه غنيا عن البيان.
(2) المعارف المتعلقة بافعاله تعالى من الخلق والامر والإرادة والمشية والهداية والاضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط، إلى غير ذلك من متفرقات الافعال.
(3) المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بينه وبين الانسان كالحجب واللوح والقلم والعرش والكرسي والبيت المعمور والسماء والأرض والملائكة والشياطين والجن وغير ذلك.
(4) المعارف المتعلقة بالانسان قبل الدنيا.
(5) المعارف المتعلقة بالانسان في الدنيا كمعرفة تاريخ نوعه ومعرفة نفسه ومعرفة أصول اجتماعه ومعرفة النبوة والرسالة والوحي والالهام والكتاب والدين والشريعة، ومن هذا الباب مقامات الأنبياء المستفادة من قصصهم المحكية.
(6) المعارف المتعلقة بالانسان بعد الدنيا، وهو البرزخ والمعاد.
(7) المعارف المتعلقة بالأخلاق الانسانية، ومن هذا الباب ما يتعلق بمقامات الأولياء في صراط العبودية من الاسلام والايمان والاحسان والاخبات والاخلاص وغير ذلك.
وأما آيات الاحكام، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه.
وقد أفاد هذه الطريقة من البحث إرتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات، وأما التأويل بالمعنى الذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات، فسترى أنه ليس من قبيل المعاني.
ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد اما تيسر لنا ايراده من الروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامة والخاصة، وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين. فإنها
(١٣)
على ما فيها من الخط والتناقض لا حجة فيها على مسلم.
وسيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم عليه السلام، ان هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب، أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه سلام الله عليهم.
ثم وضعنا أبحاثا مختلفة، فلسفية وعلمية وتأريخية واجتماعية وأخلاقية، حسب ما تيسر لنا من البحث، وقد أثرنا في كل بحث قصر الكلام على المقدمات المسانخة له، من غير تعد عن طور البحث.
نسئل الله تعالى السداد والرشاد فإنه خير معين وهاد الفقير إلى الله: محمد حسين الطباطبائي
(١٤)
2025-01-04