جل عن الشبيه والمثيل، وتعالى عن التشبيه والتمثيل، عز عن ولد ينفعه، وتقدس عن عدد يجمعه، الواحد الأحد، الذي لا يشبهه أحد، ولا يساويه أحد، له الجلال الباهر، والجبروت القاهر، والملكوت الزاهر، والسلطان الفاخر، هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، الأول بالذات، والآخر بالصفات، والظاهر بالآيات، والباطن عن التوهمات، حارت في إدراك ملكات ملكوته مذاهب التفكير، وغارت عن الرسوخ في علمه جوامع التفسير، تاهت العقول في تيه عظمته، وهامت الأوهام في بيداء عزته، حماها نور الأحدية، وغشاها جلال سبحات الربوبية، عن إدراك حقيقته الإلهية، فرجع الطرف خاسئا حسيرا، والعقل مبهوتا مبهورا، والفكر متحيرا مذعورا، والوهم مذموما مدحورا، فسبحان الملك الحق المتعالي عن الجهات والأمكنة، الذي لا تأخذه نوم ولا سنة، ولا تصف جلال كمال عظمته الألسنة اللسنة، لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، ولا يصفه لسان، به كان الخلق لا بالخلق كان.
إن قلت: متى فقد سبق الكون كونه، أو قلت قبله فالقبل بعده، أو قلت أين؟ فقد تقدم المكان وجوده، أو قلت كيف؟ فقد أصحت عن الوصف صفته، أو قلت مم؟ فقد باين الأشياء كلها، أو قلت هو، فالهاء والواو كلامه. بالكلمة تجلى الصانع للعقول، وبها احتجب عن العيون، فسبحان من جوده آية وجوده، وأنوار عظمته مانعة من سهوده، لم يزل، ولا يزال، أزليا أبديا في الغيوب، ليس فيها أحد غيره ولا معبود سواه، لا يجوز عليه التشبيه الذي يرقبه فهمك، ولا التشكيك الذي ينتجه وهمك، الجبار الذي فتق ورتق ظلام العدم بقوته وقهره، فأهل الوجود بلا إله إلا الله، وأتقن نظام الموجودات بقدرته وأمره، فليس خالق إلا الله خالق السماوات، وبالعدل فطرها، وأجرى فيها شمسها وقمرها، فهي دائرة بقهره، طالعة لأمره، ملأها بالأنوار، وقدسها بالأبرار، وحرسها بالشهب الثواقب من الأغيار، وحفظها من الأود والانفطار، فهي عالم الملكوت، وقبة الجبروت، وسرداق العظمة والجلال والجبروت، سقفا مرفوعا، وسمكا محفوظا، بغير عمد يدعمها، ولا دسار يقبضها، لم يشيدها سبحانه خوفا من سطوة سلطان، ولا خشية من نزول حدثان، بل جعلها دليلا للناظر، وعلما للسائر، تدل آياتها على عظمته، ورفعتها على قدرته، وكمال لطفه وحكمته، فمن نظر في خلق السماوات، وتعاقب حركات السيارات، واختلاف الليل والنهار، وما تضمن ذلك من الحكمة العجيبة، والقدرة الغريبة، بل في نفسه، وتركيب جسده، شاهد في كل لحظة، وعاين في كل لمحة، شاهد حق، وناطق صدق، ينطق بأن صانعه حي قيوم قدير، ويشهد بأن موجوده رب حكيم خبير. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وقمر ذو إشراق، وسراج وهاج،
(١٤)
وسحاب صاعد، وماء فجاج، وأجسام ذات أعضاء، وأحياء وأمشاج، والكل يدلون على الصانع القدير، فسبحان من فطر الخلائق على عظائم المختلفات، وأنطقهم بغرائب اللغات، وقدر لهم الأعمار والأرزاق والأقوات، فهو الخالق العليم، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، ولا يغيب عن حفظه مكيال قطرة، فكيف يغيب عنه ما هو أبداه، ويخفى عليه ما هو أنشأه، لأن الخالق عالم بخلقه، محيط بصنعه، ومؤلف بين عناصره، شاهد بحقائقه وسرائره، مدرك بباطنه وظاهره، فهو العالم بخفيات الغيوب، الشاهد لسرائر القلوب، فالأعضاء شهوده، والجوارح جنوده، والضمائر غيوبه، والسرائر عيانه، فلا يخفى عليه شئ من خلقه، ولا يعزب عنه شئ من صنعه، وكيف يغيب عنه ما هو أبداه، ويخفى عليه ما هو أنشأه، فسبحانه من قادر عليم، لم يزل على الأسرار رقيبا، ومن الأرواح قريبا، وعلى الأعمال حسيبا، فهو الرقيب القريب، الشاهد الذي لا يغيب، فسبحان القيوم القدير، المتكلم الخبير، السميع البصير، سمعه منزه عن الأصمخة والأذان، وبصره منزه عن الحدقة والأجفان، وكلامه جل عن الآلات واللسان، فطر العقول فلا ضد حضره حين فطرها، وبرأ النفوس فلا ند خبره حين اختبرها، وحده لا شريك له، الروح قطرة من قطرات بحار ملكوته، والنفس شعلة من شعلات جلال جبروته، والسماوات السبع والأرض ومن فيهن ذرة من ذرات قدرته، وسبعون ألف عالم أثر من آثار حكمته، والعالم بأسره سر من أسرار صنعته، والكل شاهد بأنه هو الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له في جلال كبريائه، وعظمته، أهل السماوات يظنونه من الأرض، وأهل الأرض يظنونه في السماء، وهو الصمد الديان، المنزه عن الأين والمين، الموجود في كل مكان، المتعالي عن الادراك بالبصر والعين، العالي عن الحدوث والحدثان، الواحد الفاضل عن الاثنين، المعبود في كل زمان.
خلق الإنسان فقدره، وأحسن خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، خلقه من ماء مهين نطفة، وأنشأه من الحق شرعة ومنهاجا، وفطره على التوحيد، وأوقد له من العقل سراجا، وحل له رباط الضريح بأنامل الفرج والاعتبار، وأخرجه من مشيمة الرحم بيد المشية والرحمة والاقتدار، ودفع له دم الطمث في الصدر لبنا، وغذاه برزقه، وأخرجه إليه سهلا لينا ورباه بلطفه، وأنبته نباتا حسنا، وجعل له سمعا يسمع آياته، وعقلا يفهم كلماته، ويدرك صفاته، وبصرا يرى قدرته، وفؤادا يعرف عظمته، وقلبا يعتقد توحيده، ولسانا ينشر تمجيده، وجعل جسده مدنيته، والروح منه خليفته، وقلبه كعبته وبيته، الذي أطاف به ملائكته، وكرمه وفضله، وفض له سوابغ النعماء، وأمره بمعرفته، ليشكره على عميم العطاء والنعماء، وأسكنه دار المحنة والابتلاء، وأرسل عليه الرسل ونصب له
(١٥)
الأدلاء، وساقه بسوط القهر إلى ميدان الفناء، وساوى بالموت بين الملوك والفقراء، ذلك لطف وعدل لنفوذ قلم القضاء، والوصول إلى دار البقاء، وإعادتهم بعد الموت لطفا واجبا لإيصال العوض والجزاء، فسبحان من فطر الخلائق، فلم يعي بخلقهم حتى ابتدأهم، ولم يستأنس بهم حين أوجدهم وأنشأهم، ولم يستوحش لفقدهم إذ أماتهم وأفناهم، ولم يعجزه بعثهم إذ هو أهون عليه إذا دعاهم، للمحسنات وناداهم، تبارك القوي القدير، علمه بهم قبل التكوين كعلمه بهم بعد الإيجاد والتبيين، فسبحان من ألهم، ومن له الفضل والمنن. آمنت بذي الملك والملكوت، وأسلمت لذي العزة والجبروت، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، الرب المنفرد بالوحدانية وعدم القرين، الحي القوي، العلي الغني عن المعين، شهدت بواجب الوجود، ومفيض الكرم والجود، بالأحدية التي لا تحد، والوحدانية التي لا تعد، والصمدانية التي ليس لها قبل ولا بعد، والإلهية البسيطة التي كل لها ملك ومملوك، وعبدت من سري وفؤادي وروحي وخيالي وسوادي، بأن الله هو الحق المبين وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، الرب الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
شهدت لربي ومولاي مصور ذاتي، ومقدر صفاتي، الذي له نسكي وصلاتي ومحياي ومماتي، بأنه هو الذي لا إله إلا هو رب كل شئ، وخالق كل شئ ومعبود كل شئ، وملك كل شئ، ومالك كل شئ وبيده ملكوت كل شئ، القيوم الأول، قبل وجود كل شئ، والحي الباقي بعد فناء كل شئ، الواحد المسلوب عنه الشبيه والنظير، الأحد الذي لا كمثله شئ، وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، وأن هذه الصفات الإلهية، والمدائح الربانية، لا يستحقها أحد سواه، ولا يملكها ويستوجبها إلا الله وأنه سبحانه حكم عدل لا جور في قضيته، ولا ظلم في مشيئته وأنه تجري الأمور على ما يقضيه لا على ما يرتضيه، وأعتقد أنه من عرف بهذا الاعتقاد وحده، ونزهه عن مشاهدة المحدثات وعبده، وأعلن شكر الإله وحمده، فهو مؤمن مخلص قد شملته العناية والمنة، ووجبت له النجاة والجنة، وذلك كله بلطفه وعنايته وحوله وقوته ومنه وهدايته وإرشاده ودلالته. فسبحان من ابتدأ بالفضل، وكلف بالعدل، ومدح العلم وذم الجهل، وأفاض اللطف، وأوضح السبيل، ونصب الدليل، وأرسل الرسل، وبعث الأنبياء عليهم السلام حكاما لإظهار أمره، ونشر عدله، ونصب الأوصياء عليهم السلام أعلاما لكمال دينه، وبيان فضله، بعثهم بالهدى ودين الحق، رسلا مبشرين ومنذرين، صادقين معصومين، إليه يدعون، وعنه يقولون، وبأمره يعملون، ثم جعلنا وله الحمد من أمة خير الأنبياء عليهم السلام، وأطيب مخلوق من الطين والماء، وأشرف مبعوث شرفت به الأرض والسماء، الجسد المطهر، والروح المقدس المعطر، الذي تعطرت به
(١٦)