الرئيسية / كلامكم نور / مفاهيم القرآن (العدل والإمامة) – الشيخ جعفر السبحاني – ج 1٠

مفاهيم القرآن (العدل والإمامة) – الشيخ جعفر السبحاني – ج 1٠

7 – كما يأمر إذا كان من عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع الإملاء فليقم مكانه وليه وليملل بالعدل، يقول سبحانه: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم) *. (1) وباختصار: تتجلى في هذه الآية التي هي أطول آية وردت في القرآن الكريم مظاهر عدله في التشريع مرة تلو مرة، وللقارئ الكريم أن يستشف منها ما ذكرناه من المعاني.
8 – الطهارة من الحدث أحد شرائط صحة الصلاة والصوم والحج ، وتحصل عن طريق استعمال الماء بكيفية خاصة متقربا فيها إلى الله، ولكن ربما يكون استعمال الماء مضرا بصحة المتوضئ أو موجبا لبطء برء مرضه، إلى غير ذلك من الأعذار فأوجب سبحانه التيمم بالصعيد بدل استعمال الماء، وهذا يدل على مرونة الإسلام في تشريعه وتعاطفه مع فطرة الإنسان التي ترغب في العافية وتنضجر عن كل ما يحول دونها، قال سبحانه: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) *. (2) فقوله: * (ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج) * يكشف اللثام عن وجه العدول من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية.
كما دلت الآيات القرآنية على استثنائه سبحانه طوائف ثلاث من الحضور
(١) البقرة: ٢٨٢.
(٢) المائدة: ٦ –
(٢٩)

في ساحات الجهاد لأجل الحرج، قال سبحانه: * (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) *. (1) وفي آية أخرى يبين بوضوح أن تشريعه خال من الحرج، ويقول: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (2) . فكل حكم يتضمن الحرج فهو مرفوض بحكم أنه حرجي، وقد أخبر سبحانه عن عدم تشريع الحكم الذي في امتثاله حرج.
9 – لقد شملت العناية الإلهية الأمة الإسلامية من بين سائر الأمم برفع النسيان والخطأ عنهم وعدم المؤاخذة عليهما، في حين كانت الأمم السالفة مسؤولة عن خطاها ونسيانها إذا كانت مقصرة في مبادئ الخطأ والنسيان، يقول سبحانه: * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) *. (3) روى الكليني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى “. (4)
(١) الفتح: ١٧.
(٢) الحج: ٧٨.
(٣) البقرة: ٢٨٦.
(٤) الكافي: ٢ / 86.
(٣٠)

فما أروع هذا التشبيه حيث إن الراكب المنبت وإن كان يعدو بفرسه أميالا عديدة بغية الوصول إلى غايته، ولكنه بفعله هذا ينتج عكس المطلوب حيث إن المركوب يعييه التعب ولا يكون بمقدوره الاستمرار في العدو، ويبقى هو في وسط الطريق لا يهتدي إلى بغيته، فهو لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى.
فهكذا الدعوة إلى الشريعة إذا كانت مقرونة بالشدة والضعف تنتج عكس المطلوب حيث لا تجد لها أذنا صاغية، بل يخرج الناس منها أفواجا. ولأجل ذلك صدع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسهولة شريعته، وقال: ” بعثت بالشريعة السهلة السمحة “. (1) 10 – دلت الآيات القرآنية على أن التكليف على القدر المستطاع وقد أطبق عليه العقل والنقل، إذ كيف يمكن تكليف الناس بأعمال، كإدخال الشئ الكبير في الظرف الصغير، من دون تغير في الظرف والمظروف؟ أو التحليق في الهواء دون وسيلة، إلى غير ذلك من الأمور الممتنعة التي تدخل في نطاق التكليف بما لا يطاق، حتى أن محققي العدلية ذهبوا إلى أن هذا النوع من التكليف المحال، بمعنى أنه لا ينقدح في ذهن الآمر، الطلب والإرادة الجدية المتعلقة ببعث العاجز إلى المطلوب، ولو تظاهر به فإنما تظاهر بظاهر التكليف لا بواقعه.
فتكون النتيجة: أن امتناع المكلف به يلازم امتناع نفس التكليف أيضا، يقول سبحانه: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. (2) وقال في آية أخرى: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) *. (3) ومضمون كلتا الآيتين واحد، وهو أن الله يكلف الإنسان بقدر طاقته وقابليته.
هذه نماذج استعرضناها لإثبات أن التشريع الإسلامي يتمتع بمرونة، وأنه مبني على أساس العدل.
وفي الحقيقة أن التشريع الإسلامي من مظاهر عدله في هذا المجال.
(١) سفينة البحار: ١ / ٦٩٥.
(٢) البقرة: ٢٨٦.
(٣) الطلاق: ٧ –
(٣١)

شاهد أيضاً

كتاب المحبة و الشوق و الرّضا و الانس‌ 5

و أمّا السبب الثاني: و هو حبّه لمن أحسن إليه‌ فواساه بماله و لاطفه بكلامه ...