جامع السعادات – محمد مهدي النراقي – ج ١
59 دقيقة مضت
زاد الاخرة
7 زيارة
وأفكارك (16) وسيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية أو عملية صورة روحانية، فإن كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك، وإن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدي به في أخراك إلى جوار الله وكرامته ” انتهى.
وهذه الكلمات صريحة في أن مواد الإشخاص الأخروية هي التصورات الباطنية والنيات القلبية والملكات النفسية المتصورة بصور روحانية وجودها وجود إدراكي، والانسان إذا انقطع تعلقه عن هذه الدار وحان وقت مسافرته إلى دار القرار وخلص عن شواغل الدنيا الدنية وكشف عن بصره غشاوة الطبيعة، فوقع بصره على وجه ذاته والتفت إلى صفحة باطنه وصحيفة نفسه ولوح قلبه وهو المراد بقوله سبحانه:
(وإذا الصحف نشرت) (17) وقوله تعالى: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) (18).
صار إدراكه فعلا وعلمه عينا وسره عيانا، فيشاهد ثمرات أفكاره وأعماله، ويرى نتائج أنظاره وأفعاله ويطلع على جزاء حسناته وسيئاته، ويحضر عنده جميع حركاته وسكناته. ويدرك حقيقة قوله سبحانه:
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (19).
فمن كان في غفلة عن أحوال نفسه ومضيعا لساعات يومه وأمسه يقول:
(ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) (20) (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) (21).
وقد أيد هذا المذهب أعني صيرورة الملكات صورا روحانية باقية أبد الدهر موجبة للجبهة والالتذاذ والتوحش والتألم، بأنه لو لم تكن تلك الملكات
(16) هكذا وجدنا العبارة في النسخة الخطية والمطبوعة ولا يخفى ما فيها من الإجمال.
(17) التكوير الآية 10.
(18) في الآية 22.
(19) الإسراء الآية 13 – 14.
(20) الكهف الآية 49.
(21) آل عمران الآية 30.
(٤٣)
والنيات باقية أبدا لم يكون للخلود في الجنة أو النار وجه صحيح، إذ لو كان المقتضي للثواب أو العذاب نفس العمل والقول، وهما زائلان لزم بقاء المسبب مع زوال السبب وهو باطل، وكيف يجوز للحكيم أن يعذب عباده أبد الدهر لأجل المعصية في زمان قصير، فإذا منشأ الخلود هو الثبات في النيات والرسوخ في الملكات، ومع ذلك فمن يعمل مثقال ذرة من الخير أو الشر يرى أثره في صحيفة نفسه أو في صحيفة أعلى وأرفع من ذاته أبدا كما قال سبحانه:
(في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة) (22).
والسر فيه أن الأمر الذي يبقى مع النفس إلى حين مفارقتها من الدنيا ولم يرتفع عنها في دار التكليف يبقى معها أبدا ولا يرتفع عنها أصلا لعدم تجدد ما يوجب إزالته بعد مفارقته عن عالم التكليف.
ثم الظاهر أن هذا المذهب – عند من قال به من أهل الشرائع – بيان لكيفية الثواب والعقاب الروحانيين مع إذعانه بالجنة والنار الجسمانيين ” إذ لو كان مراده قصر اللذة والثواب والألم والعقاب والجنات والقصور والغلمان والحور والنار والجحيم والزقوم والضريع وساير ما ورد في الشريعة القادسة من أمور القيامة على ما ذكر فهو مخالف لضرورة الدين.
(تنبيه) الدنيا والآخرة متضادتان، وكل ما يقرب العبد إلى إحداهما يبعد عن الأخرى وبالعكس، كما دلت عليه البراهين الحكمية والشواهد الذوقية والأدلة السمعية، فكل ملكة أو حركة أو قول أو فعل يقرب العبد إلى دار الطبيعة والغرور يبعده عن عالم البهجة والسرور، وبالعكس، فأسوأ الناس حالا من لم يعرف حقيقة الدنيا والآخرة وتضادهما ولم يخف سوء العاقبة وأفنى عمره في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش وقصر سعيه على جر المنفعة لبدنه من نيل شهوة أو بلوغ لذة أو اكتساب ترفع، ورئاسة أو جمع المال من غير تصور لما يصل إليه من فائدته، كما هو عادة أكثر أبناء الدنيا، ولم يعرف غير هذه الأمور من المعارف الحقيقية والفضائل الخلقية والأعمال الصالحة المقربة إلى عالم البقاء فكأنه يعلم خلوده في الدنيا، ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل، ولا جزاء فعل، ولا يعتقد بما يرجوه المؤمنون
(22) عبس الآية: 13 – 15.
(٤٤)
2025-12-11