الرئيسية / مستحبات الايام ولياليها / بيان الدواء النافع في حضور القلب في الصلاة

بيان الدواء النافع في حضور القلب في الصلاة

اعلم أنّ المؤمن لا بدّ و أن يكون معظّما للَّه، و خائفا منه، و راجيا و مستحييا من تقصيره، فلا ينفكّ عن هذه الأحوال بعد إيمانه و إن كانت قوّتها بقدر قوّة يقينه فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلّا تفرّق الفكر و تقسيم الخاطر و غيبة القلب عن المناجاة

و الغفلة عن الصلاة و لا تلهي عن الصلاة إلّا الخواطر الرّدية الشاغلة، فالدّواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر، و لا يدفع الشي‌ء إلّا بدفع سببه فليعلم سببه، و سبب توارد الخواطر إمّا أن يكون أمرا خارجا أو أمرا في ذاته باطنا.

أمّا الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر، فإنّ ذلك قد يختطف الهمّ حتّى يتبعه و يتصرّف فيه، ثمّ ينجرّ منه الفكر إلى غيره و يتسلسل و يكون الأبصار سببا للافتكار، ثمّ يصير بعض تلك الأفكار سببا للبعض و من قويت رتبته و علت همّته لم يلهه ما يجري على حواسّه، و لكن الضعيف لا بدّ و أن يتفرّق به فكره، فعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغضّ بصره أو يصلّي في بيت مظلم، و لا يترك بين يديه ما يشغل حسّه، و يقرب من حائط عند صلاته حتّى لا يتّسع مسافة بصره، و يحترز من الصلاة على الشوارع و في المواضع المنقوشة المصبوغة و على الفرش المصبوغة و لذلك كان المتعبّدون يتعبّدون في بيت صغير مظلم، سعته بقدر السجود ليكون ذلك أجمع للهمّ، و الأقوياء كانوا يحضرون المساجد و يغضّون البصر و لا يجاوزونه موضع السجود و يرون كمال الصلاة في أن لا يعرفوا من على يمينهم و شمالهم».

(1) أقول: قال الشهيد الثاني- رحمه اللّه‌ [1]-: ينبغي أن لا يعدل إلى غمض العينين ما وجد السبيل إلى القيام بوظيفة النظر و هي جعله قائما إلى موضع سجوده و غيره من الأمور المعلومة شرعا، فإن تعذّر القيام بها مع فتحهما فالغمض أولى لأنّ الفائت من وظيفة الصلاة و صفتها بتقسّم الخاطر أعظم منه مع الإخلال بوظيفة النظر انتهى كلامه، و يمكن أن يقال: إنّ الغضّ الّذي هو من خشوع الجوارح المأمور به يغني عن الغمض فلا حاجة إلى ترك السنّة من وظيفة النظر، اللّهمّ إلّا أن يشتغل بالتأمّل في موضع سجوده و ما بين قدميه و نحوهما فحينئذ لا يبعد ما قاله رحمه اللّه.

قال أبو حامد: «و أمّا الأسباب الباطنة فهي أشدّ فإنّ من تشعّبت الهموم به في أودية الدّنيا لم ينحصر فكره في فن واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب و غضّ البصر لا يغنيه فإنّ ما وقع في القلب من قبل كاف للشغل فهذا طريقه أن يردّ النفس قهرا

إلى فهم ما يقرأه في الصلاة و يشغلها به عن غيره و يعينه على ذلك أن يستعدّ له قبل التحريم بأن يجدّد على نفسه ذكر الآخرة و موقف المناجاة و خطر المقام بين يدي اللّه تعالى و هول المطّلع، و يفرغ قلبه قبل التّحريم بالصلاة عمّا يهمّه، فلا يترك لنفسه شغلا يلتفت إليه خاطره، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعثمان بن أبي شيبة: «إنّي نسيت أن أقول لك: تخمّر القدير الّذي في البيت فإنّه لا ينبغي أن يكون في البيت شي‌ء يشغل الناس عن صلاتهم»[1]فهذا طريق تسكين الأفكار فإن كان لا يسكن هائج أفكاره بهذه الدّواء المسكّن فلا ينجيه إلّا المسهل الّذي يقمع مادّة الدّاء من أعماق العروق و هو أن ينظر في الأمور الشاغلة الصارفة له عن إحضار القلب و لا شكّ في أنّها تعود إلى مهمّاته و أنّها إنّما صارت مهمّا بشهواته فليعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات و قطع تلك العلائق، فكلّ ما يشغله عن صلاته فهو ضدّ دينه و جند إبليس عدوّه، فامساكه أضرّ عليه من إخراجه فيتخلّص عنه بإخراجه.

كما روي «أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا لبس الخميصة الّتي أتاه بها أبو جهم و عليها علم و صلّى فيها نزع بعد صلاته و قال: اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنّها ألهتني آنفا عن صلاتي و ائتوني بأنبجانيّة أبي جهم و أمر بتجديد شراك نعله، ثمّ نظر إليه في الصلاة إذ كان جديدا فأمر أن ينزع منها و يردّ الشراك الخلق[2]».

و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد احتذى نعلا فأعجبه حسنها فسجد فقال: تواضعت لربّي كيلا يمقتني ثمّ خرج بها فدفعها إلى أوّل سائل لقيه، ثمّ أمر عليا عليه السّلام أن يشتري له نعلين سبتيّتين‌


[1] قال العراقي: الحديث أخرجه أبو داود من حديث عثمان الحجى و هو عثمان ابن طلحة كما في مسند أحمد و وقع للمصنف أنه قال ذلك لعثمان بن شيبة و هو وهم‌

[2] قال الفيومى في المصباح: الخميصة: كساء أسود معلم الطرفين و يكون من خز أو صوف و ان لم يكن معلما فليس بخميصة. و ظاهر النووي في شرحه على صحيح مسلم أن الكساء إذا كان له علم فهو خميصة و إذا لم يكن له علم فهو انبجانية ا ه و هي- بالباء المفتوحة- كما في القاموس في مادة ن ب ج و منبج- كمجلس- موضع، و كساء منبجانى و انبجانى بفتح بائهما نسبة على غير قياس. و الخبر رواه مسلم في صحيحه ج 2 ص 78 و نحوه النسائي في السنن ج 2 ص 72. و ابن ماجه تحت رقم 3550.

جرداوين فلبسهما [1].

و كان في يده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاتم ذهب قبل التحريم و كان على المنبر فرماه و قال:

«شغلني هذا نظرة إليه و نظرة إليكم» [2].

(1) أقول: و نسبة أمثال هذه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يليق بجلالة قدره و يشبه أن يكون من اختلافات العامّة ذبّا عن الطعن في أئمّتهم بما يشبهها كما هو دأبهم و العلم عند اللّه.

قال أبو حامد: «و قيل: إنّ بعضهم صلّى في حائط له فيه شجر فأعجبه دبسيّ طار في الشجر يلتمس مخرجا فأتبعه بصره ساعة ثمّ لم يدر كم صلّى فجعل حائطه صدقة ندما و رجاء للعوض عمّا فاته، و هكذا كانوا يفعلون قطعا لمادّة الفكر، و كفّارة لما جرى من نقصان الصلاة و هذا هو الدّواء القامع لمادّة العلّة و لا يغني غيره فإنّ ما ذكرناه من التلطّف بالتسكين و الردّ إلى فهم الذكر ينفع في الشهوات الضعيفة، و الهمم الّتي لا تشغل إلّا حواشي القلب فأمّا الشهوة القويّة المرهقة فلا ينفع معها التسكين بل لا يزال تجاذبها و تجاذبك ثمّ تغلبك و ينقضي جميع صلاتك في شغل المجاذبة، و مثاله رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره و كانت أصوات العصافير تشوّش عليه، فلم يزل يطيرها بخشبة هي في يده و يعود إلى فكره فتعود العصافير فيعود إلى التنفير بالخشبة فقيل له: إن هذا سير السواني[1]و لا ينقطع فإن أردت الخلاص فاقلع الشجرة، فكذلك شجرة الشهوة إذا استعلت و تفرّعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار و انجذاب الذّباب إلى الأقذار، و الشغل يطول في دفعها فإنّ الذّباب كلّما ذبّ آب و لأجله سمّى ذبابا فكذلك الخواطر و هذه الشهوات كثيرة و قلّما يخلو العبد عنها، و يجمعها أصل واحد و هو حبّ الدنيا و ذلك رأس كلّ خطيئة، و أساس كلّ نقصان و منبع كلّ فساد، و من انطوى باطنه على حبّ الدّنيا حتّى مال إلى شي‌ء منها لا ليتزوّد منها و يستعين‌

‐———-

[1] السانية: الناقة التي يستقى عليه من البئر، جمعها سوان.


[1] أخرجه ابن حقيق في شرف الفقراء بسند ضعيف. (المغني)

[2] أخرجه النسائي في سننه ج 8 ص 195 عن ابن عباس.

بها على الآخرة فلا يطمعنّ في أن يصفو له لذّة المناجاة في الصلاة فإنّ من فرح بالدنيا فلا يفرح باللّه و بمناجاته و همّة الرّجل مع قرّة عينه فإن كانت قرّة عينه في الدّنيا انصرف لا محالة إليها همّه و لكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة و ردّ القلب إلى الصلاة و تقليل الأسباب الشاغلة فهذا هو الدّواء و لمرارته استبشعه أكثر الطباع، و بقيت العلّة مزمنة و صار الداء عضالا حتّى أن الأكابر اجتهدوا أن يصلّوا ركعتين لا يحدّثون أنفسهم فيها بأمور الدنيا فعجزوا عنه فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا، و ليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها عن الوسواس لنكون ممّن خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا، و على الجملة فهمّة الدنيا و همّة الآخرة في القلب مثل الماء الّذي يصبّ في قدح فيه خلّ فبقدر ما يدخل فيه من الماء يخرج الخلّ لا محالة و لا يجتمعان».

شاهد أيضاً

الإمام الخامنئي: حقوق المرأة في الإسلام تتجاوز أي منطق غربي خاطئ

إمام الخامنئي: حقوق المرأة في الإسلام تتجاوز أي منطق غربي خاطئ 2025-12-03  استقبل آية الله ...