من جملة الفجائع التي حدثت على مفاخر العلم وأهل التقوى وشيعة آل محمد (ص) بفتوى غريبة من قاضيين كبيرين من قضاة الشام ، وهما : برهان الدين المالكي وعباد بن جماعة الشافعي .
وقد أصدرا حكم قتل أفقه علماء الإسلام في عصره وهو : العالم العامل ، والتقي الفاضل ، والزاهد الورع ، أبو عبدالله محمد بن جمال الدين المكي العاملي ( رضوان الله تعالى عليه ) ، ومن سعة اطلاعه في المسائل الفقهية أنه صنف وألف كتاب اللمعة الدمشقية في السجن في أسبوع واحد ، وليس عنده أي كتاب فقهي سوى كتاب : ( المختصر النافع ) .
وكتاب ( اللمعة ) يدرس في الحوزات العلمية حتى اليوم لاحتوائه على أكثر الفروع والمباني الفقهية . وكان الشيخ الشهيد ( قدس سره) مرجعا لعلماء المذاهب الأربعة في حل المعضلات العلمية وكشف الأحكام الدينية ، وكان يعيش في تقية ، أي يخفي مذهبه من الحكومة ومن عامة الناس ، ومع ذلك عرفوا منه التشيع فشهد عليه نفر عند الحاكم ، فحوله الحاكم إلى القاضي فزجه القاضي في السجن حقدا .
فبقي سنة كاملا سجينا في قلعة الشام يعاني من التجويع والتعذيب ، وبعدها حكم برهان الدين المالكي وابن جماعة الشافعي بإعدامه ، فقتلوه أولا بالسيف ثم صلبوه ، و لم يكتفوا بهذا المقدار من إظهار الحقد الدفين ، فحركوا الهمج الرعاع العوام كالأنعام ، فرجموا جسد ذلك العالم الفقيه بالحجارة ، وأعلنوا أنهم فعلوا كل ما فعلوه بذلك الفقيه الفاضل والعالم العامل ، لأنه رافضي مشرك !!
وعلى هذا الجرم الذي ليس مثله جرم في الإسلام !!
أمروا بحرق جسده الشريف ، وذروا رماده في الفضاء .
وكان ذلك في التاسع أو التاسع عشر من جمادى الأولى عام 786 من الهجرة النبوية الشريفة ، في عهد الملك برقوق وحاكمه يومذاك على الشام : بيد مرو .
قتل الشهيد الثاني:
ومن جملة الفجائع الشنيعة ضد مذهب الشيعة ، والتي حدثت بسبب فتوى بعض علمائكم ، قتل العالم الفقيه ، والتقي النبيه ، العالم الرباني ، المعروف بالشهيد الثاني ، الشيخ زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد العاملي ( قدس الله نفسه الزكية ) .
وكان هو أشهر العلماء وأعظمهم في بلاد الشام ، وكان يعيش في عزلة من الناس ، دائبا على التأليف والتصنيف ، يقضي أوقاته في تحقيق المسائل واستنباط الأحكام وتدوينها ، وقد صنف أكثر من مائتي مؤلف في مختلف العلوم .
فحسده علماء عصره لتوجه الناس إليه وتعظيمهم له ، فبعث قاضي صيدا واسمه معروف ، كتاب إلى السلطان سليم العثماني جاء فيه قد وجد في بلاد الشام رجل مبدع خارج عن المذاهب الأربعة.
فأمر السلطان بإرسال الشيخ زين الدين إلى اسلامبول ليحاكموه ، وكان الشيخ آنذاك في الحج فلم ينتظروا رجوعه ، بل أرسلوا له جماعة فقبضوا عليه في المسجد الحرام ، وقد قال تعالى : ( ومن دخله كان آمنا )(47) فسجنوه أربعين يوما في مكة ثم بعثوه عن طريق البحر إلى إسلامبول عاصمة الخلافة .
ولما وصل إليها ونزل الساحل ، ضربوا عنقه وقطعوا رأسه قبل أن يحاكموه ، ورموا بجثته في البحر وبعثوا برأسه إلى السلطان !!
فيا أيها الحاضرون ! بالله عليكم أنصفوا !!
هل قرأتم أو سمعتم أن أحد علماء الشيعة عامل واحدا من علماء السنة أو عوامها بهذا الشكل ، وقد كانوا متمكنين ومقتدرين في ظل ملوك الشيعة وحكوماتها التي حكمت على كثير من بلاد السنة ؟!
بالله عليكم ! هل إن عدم الانتماء إلى المذاهب الأربعة ذنب يستوجب القتل ؟! ليت شعري ما هو دليلهم ؟!
هل إن المذاهب الأربعة التي وجدت بعد رسول الله (ص) بعشرات السنين هي التي يجب الانتماء إليها والتمسك بها والعمل على طبقها ؟! ولكن المذهب الذي كان على عهد النبي الكريم (ص) وكان مرضيّا عنده ، لا يجوز التمسك به ؟ ! وإن المتمسك به يجب قتله !!
وإذا كان كذلك ، فبرأي من كان المسلمون يأخذون ويعملون في الفترة الواقعة بعد النبي (ص) وقبل ميلاد الأئمة الأربعة وانتشار آرائهم ؟!
أم تقولون إن الأئمة الأربعة كانوا على عهد رسول الله (ص) وأخذوا منه بلا واسطة ؟!
الحافظ : لم يدّع أحد بأن الأئمة الأربعة أو أحدهم أدرك النبي (ص) وتشرف بصحبته أو سمع حديثه .
قلت : وهل ينكر أحد صحبة الإمام علي عليه السلام لرسول الله (ص) واستماع حديثه الشريف ، حتى أصبح باب علم الرسول (ص) ؟!
الحافظ : لا ينكر أحد ذلك ، بل كان علي ( رضي الله عنه) ، من كبار الصحابة ، وفي بعض الجهات كان أفضلهم .
قلت : على هذه القاعدة لو اعتقدنا بأن متابعة الإمام علي عليه السلام والأخذ منه في المسائل الفقهية واجب لما قاله النبي (ص) في حقه : إن من أطاعه فقد أطاعني ، ومن عصاه فقد عصاني ، وهو باب علمي ، ومن أراد أن يأخذ من علمي فليأت الباب .
فهل هذا الاعتقاد كفر ؟! أم الذي خالف النبي (ص) فقد كفر ؟! لقوله سبحانه وتعالى : ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )(48)!
وإذا قلنا : إن من لم يعتقد بما قاله النبي (ص) في علي بن أبي طالب والأئمة من ولده الذين جعلهم عدل القرآن الحكيم في حديث الثقلين وألزم متابعتهم والتوسل بهم في حديث السفينة وهما حديثان مقبولان عندكم أيضا كما ذكرنا مصادركم فيهما .
فلو قلنا : بأن من خالف عترة النبي (ص) وأهل بيته الطاهرين فقد تمرد على الله ورسوله وخرج من الدين ، ما قلنا شططا ، وما ذهبنا غلطا ، بدليل الحديثين الشريفين ، السفينة والثقلين ، وأدلة عقلية ونقلية أخرى .
ولكن مع كل ذلك ما صدرت منا هكذا فتاوى خطيرة تشجع عوام الشيعة وملوكهم على ارتكاب جنايات فجيعة في حق أهل السنة والجماعة ، بالنسبة إلى علمائهم أو جهالهم .
وإنما علماؤنا دائما يعلنون : أن أهل السنة والجماعة إخواننا في الدين ، ويجب أن نتحد كلنا ضد غير المسلمين المعادين ، غاية ما هنالك إننا نقول : إن الأمر اشتبه والحق التبس عليكم ، ولكنكم تبعا لبعض علمائكم تقولون فينا خلاف ما نقوله فيكم ، إنكم تقولون في حق الشيعة المؤمنين أتباع أهل بيت النبوة عليهم السلام : إنهم أهل البدع وغلاة ورفضة ويهود وكفرة ومشركون و و و.!!!
وتبيحون بل توجبون قتل من لم ينتمِ إلى أحد المذاهب الأربعة ، وليس عندكم أي دليل شرعي وعقلي وعرفي في ذلك !
الحافظ : ما كنت أظن أنكم هكذا تفترون علينا ، وتكذبون على علمائنا أمورا بعيدة عن الحقيقة ، وإنما هي من أباطيل الشيعة وأكاذيبهم الشنيعة ، وهم يقصدون بها إثارة وأحاسيس الناس واكتساب عطفهم وحنانهم .
قلت : كل ما نقلته لكم هو حق وصدق بشهادة التاريخ ، وكيف تظن بأني أفتري عليكم وعلى مذهبكم أو علمائكم ، في وجودك وحضور كثير من العلماء معك ، وكذلك بحضور هذا الجمع الغفير من أتباعكم ، أيعقل ذلك ؟!
واعلم أني نقلت قضيتين من التاريخ كنموذج من معاملة علمائكم وقضاتكم مع فقهائنا وعلمائنا .
وإذا تصفحتم تاريخ خوارزم وحملاتهم على إيران ، وقوم أزبك وحملاتهم على بلاد خراسان ، وحملات الأفغان على إيران ، وقتلهم عامة الناس بلا رحمة ، ونهب أموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم وبيعهم في الأسواق كما يعامل الكفار ، لصدقتم كلامي وما كذبتم حديثي !
وفي زمن السلطان حسين الصفوي وصل الأفغان ـ وهم قومك وأبناء وطنك ـ إلى أصفهان ، فلم يرحموا حتى المراضع والرضع ، فقتلوا ونهبوا وسبوا ، وهتكوا حرمات المسلمين في كل أرض وطؤوها من بلاد إيران ، كل ذلك بفتاوى علمائهم من أهل السنة والجماعة ، حتى أنهم أفتوا ببيع أسارى الشيعة كالعبيد ، فباعوا ـ كما يحدثنا التاريخ ـ أكثر من مائة ألف رجل شيعي على أبناء السنة وغيرهم في أسواق تركستان !!
الحافظ : إن تلك المعارك كانت سياسية لا ترتبط بفتاوى علمائنا .