الرئيسية / القرآن الكريم / أبحاث قرآنيّة – السيّدة أم أحمد آل سيف

أبحاث قرآنيّة – السيّدة أم أحمد آل سيف

قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}[سورة الجاثية: 1-3]

النقطة الاُولى: الفرق بين الإنزال والتنزيل

تارة نقرأ في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [سورة القدر: 1]، واُخرى نقرأ هذه الآية الشريفة: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الجاثية: 2].

تُشير الآيتان إلى مصطلحين: التنزيل، والإنزال.

أمّا الإنزال فمعناه: أنّ القرآن اُنزل دفعة واحدة (حركة دفعيّة)، وأمّا التنزيل فمعناه: أنّ القرآن اُنزل على دفعات (حركة تدريجيّة) مفصّلاً.

ولا تتعارض الآية في سورة القدر مع الآية في سورة الجاثية؛ لأنّ القرآن اُنزل دفعة واحدة في ليلة القدر، ثمّ بعد ذلك وفي مناسبات متعدّدة اُنزل بالتفصيل على حسب مناسبة النزول على مدى 23 سنة.

السؤال الذي يُطرح هنا: إذا كان القرآن قد اُنزل دفعة واحدة على الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فهل يمكنه أن يتحمّل ويحتفظ بهذا الكتاب الضخم المتضمّن لكلّ التشريعات والأحكام والقوانين الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة و…؟

نقول: يُوجد لدينا رأيان:

الرأي الأوّل: القرآن اُنزل بألفاظه وحروفه وتعليماته وأحكامه على قلبه المبارك {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [سورة الشعراء: 193-194]

ولا يُوجد مانع في ذلك؛ لوجود تجانس بين القابل والفاعل.

لدينا قاعدة تقول: حتى يتمّ تأثير الفاعل في القابل، لابدّ من مجانسة بينهما، فالنار- مثلاً – لا تحرق إلا ما يجانسها من المادّيات، فالوحي القرآني أمر نوراني وقلب الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو محض النور، فالفاعل والقابل متجانسان.

الرأي الثاني يقول: إنّ القرآن له وجودان: وجود لفظي، ووجود عيني، أمّا الوجود العيني فهو الذي اُنزل على قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله).

الوجود العيني: هو حقيقة الشيء المشخّصة العينيّة، يُقال ـ مثلاً ـ : جاء فلان عينه؛ أي: بنفسه وحقيقته. وللقرآن وجود عيني؛ أي: حقيقة خارجيّة، ليست الحروف والألفاظ، إنّما الحروف والألفاظ مظهر له، وأنّ ما اُنزل على قلبه حقيقة القرآن العينيّة وعلى حسب المناسبات تأتي التفاصيل، وهذه الحقيقة غيبيّة غير معلومة الكنه لدينا.

والدليل على هذا القول: قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [سورة الشعراء: 193-194].

المُراد بالقلب: الوجود المجرّد لا الوجود المادّي، فلابدّ أن تنزل عليه حقيقة مجرّدة تتجانس معه، وهي حقيقة القرآن الغيبيّة. مثال: النفس والعلم، تلقّي النفس للعلم إنّما هو انطباع المجرّد في المجرّد.

الدليل الآخر: قوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [سورة المزمل: 5]، دليل على حقيقة عظيمة لا يحتملها الإنسان، فقد رُوي أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يتصبّب عرقًا حين الوحي أو أنّه كان يُغمى عليه حين نزوله. لا أحد يعرف كنه الوحي وما الذي ينزل عليه؛ فهو سرّ بين الله وبين رسوله.

خلاصة النقطة الاُولى: القرآن حقيقة عينيّة نزلت على قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله) لمجانسة بين قلبه المجرّد وبين الحقيقة المجرّدة.

النقطة الثانية: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الجاثية: 2]

تُشير هذه الآية إلى أنّ القرآن نزل من مقام الذات. لدينا مقام الذات ومقام الفعل، عندما نتكلّم عن الله أنّه حكيم، ذاته كلّها حكمة، ذاته كلّها عزّة، فهو حكيم، عليم، لا يحتاج لطرف آخر.

أحياناً لا، حتى نَصِف الله نحتاج طرفاً آخر من مخلوقاته حين نصفه بأنّه خالق، رازق، مالك نصفه بأفعاله، وهذا يسمّى مقام الفعل.

القرآن اُنزل من مقام الذات وليس من مقام الفعل، ليدلّل على أنّ القرآن نزل من مقام عظيم؛ فلا نقرأه كما نقرأ كتاب الفيزياء والطب التي لها مقام واحد.

القرآن نزل من مقام الذات؛ من الله العزيز الحكيم، لا يصدر عنه إلا القوّة والعزّة المتناهية.

الأمر الآخر: إنّ القرآن ليس فقط اُنزل من مقام الذات ثمّ انفصل عن مقام الذات؛ بل إنّه بقي واكتسب صفات الذات؛ لذلك فشل الشرق والغرب في محاولتهم قهر القرآن.

النقطة الثالثة: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الجاثية: 2]

تتكلّم اﻵية عن عدة اُمور:

يُقصد باﻵية العلامة، وتنقسم الآيات إلى عدّة أقسام:

علامة؛ مثل: إشارة المرور، نسمّيها علامة وضعيّة أو اعتباريّة اتّفق المجتمع على وضعها؛ كالقوانين الاجتماعيّة.

آية عقلية؛ كالدخان يدلّنا على النار، والشجرة تدلّ على خصوبة الأرض، عقلنا يوصلنا إلى ذلك.

لكن هناك علامة غير الاُولى والثانية، وهي ما يقصدها القرآن: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الجاثية: 3].

هناك علامة غير الوضعيّة والعقليّة، اليوم الذي تصفرّ فيه الشجرة تنتهي الدلالة العقلية، القرآن يريد دلالة لا تنتهي، الشجرة وإن كانت مخضرّة أو مصفرّة، هذه السماء وهذه الأرض دالّة على وجود الله، ولهذا ليست وضعيّة ولا عقليّة وتسمّى (دلالة حقيقة أو تكوينيّة) وهي لا تنفصل عنها.

لو تأمّلنا الآيتين: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، هنا فرق في الإشارة القرآنيّة. في السماوات والأرض جهات متعدّدة:

فانظر للأرض والسماء بشكل مستقل، بنفسها، بذاتها فهي دالّة على وجود الله.

أو انظر للسماء؛ إنّها بديعة التركيب من جهة، فهي آية.

أو انظر إليها؛ إنّها مزيّنة بالنجوم، إنّ فيها سكّاناً، إنّ فيها عجائب، فهي آية من آيات الله.

وهكذا الأرض، تحمل الإنسان، فيها نموّ، فيها نباتات، توفّر الحياة للإنسان.

أو انظر إلى ما تحمله السماوات والأرض من مخلوقات؛ كلّ مخلوق يُعدّ آية من آيات الله.

الإنسان لوحده آية، الجن لوحده آية، وكذاك الهواء والملاك والنبات.

عندما نقرأ كربلاء من جهات متعدّدة أو مستقلّة، فهي آية لم يُشهد لها مثيل؛ لا بدر ولا اُحد ولا حنين.

مع أنّ تلك كلّها كانت بقيادة المعصوم، لكنّها لم تُخلّد كما خُلّدت كربلاء، حينما أنظر إليها من ناحية أدبيّة فهي آية، ومن ناحية عرفانية، تاريخية و… فهي آية.

كربلاء تمتلئ بالمضامين والمفردات؛ فالعباس آية، وحبيب آية، …، وكربلاء تمتلئ بالآيات لذلك يقول رأس الحسين: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا}؛ بل رأسك أعجب وأعجب؛ بل أعظم الآيات.

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.

 

شاهد أيضاً

ليلة القدر .. بين اصلاح الماضي و رسم المستقبل

أشار العالم الديني و استاذ الاخلاق الزاهد الفقيد الراحل سماحة آية الله مجتبي طهراني ، ...