لا يلوح سيناريو الانفراج في أفق العام الرابع للثورة المصرية لأن مختلف الشواهد ترشح شعار “الأزمة” عنوانا رئيسيا له. لا ينبغي أن يفاجئنا ذلك الادعاء، لأن التاريخ لم يعرف ثورة قامت في بلد ثم تمكنت واستقام لها الأمر خلال سنتين أو ثلاث. وإذا كانت الثورة على عقود من الاستبداد والفساد وفي بلد بأهمية مصر ومحوريته فإن طريقها إلى الاستقرار لابد أن تكتنفه مصاعب وعثرات جمة يستغرق التغلب عليها وقتا أطول.
ومن ثم فإن المشكلة لا تتمثل في مبدأ وجود الأزمة، لكنها تكمن في الطريق الذي تسلكه الثورة وتبث على مدارجه فخاخ الأزمة وألغامها.
“إذا كانت الثورة على عقود من الاستبداد والفساد وفي بلد بأهمية مصر ومحوريته فإن طريقها إلى الاستقرار لابد أن تكتنفه مصاعب وعثرات جمة يستغرق التغلب عليها وقتا أطول”
ثم إن المجتمعات التي تثور على مستبديها لا تعاني فقط من أزمة السلطة الجديدة وأدواتها خصوصا في فترات الانتقال، لكنها هي ذاتها تظل ضحية للأزمة، لأن النظام المستبد لا يقمع الحريات ولا يستأثر بالسلطة والثروة فحسب، ولكنه أيضا يدمر الخلايا الحية في مجتمعه، وهو يشدد قبضته ويستأصل بدائله.
إذا حاولنا تنزيل هذه الفكرة على الواقع المصري ونحن على بعد أيام قليلة من 25 يناير الذي انطلقت فيه شرارة الثورة قبل ثلاث سنوات، فسنجد أن السلطة القائمة تواجه أزمة، وأن المجتمع المصري في جملته يعاني أيضا من الأزمة، وأن جماعة الإخوان تعاني بدورها من الأزمة.
ولا تفوتنا في هذا السياق ملاحظة أن الأجواء المخيمة في القاهرة في الوقت الراهن هي أجواء أزمة بامتياز.
ومن يتابع وسائل الإعلام يجد أنها تقود معركة ضارية ضد المخالفين، إذ تتبنى دعوات صريحة إلى الإبادة السياسية، وتقاوم بشراسة فكرة المصالحة الوطنية، في انحياز سافر للقمع والفكر الواحد، وهي أجواء دعت نائب رئيس القضاة إلى المطالبة بتشكيل مجلس حرب لإدارة البلد، لا لتنميته وإنقاذ اقتصاده ولا لإحداث ثورة في الإدارة أو التعليم، ولكن للقضاء على المخالفين وإسكات أصواتهم، بحسبانهم جميعا إما إرهابيين أو منخرطين في الطابور الخامس.
ورفع أحد الإعلاميين المعروفين السقف عاليا حين زايد على الجميع وادعى في برنامج تلفزيوني أن ثمة مؤامرة أميركية لاغتيال الفريق السيسي، وأن ذلك إذا حدث فسوف يتم قتل كل الأميركيين حيثما وجدوا كما سيتم اقتحام بيوت أعوانهم في مصر وقتلهم أيضا.
أما الهيستيريا التي اجتاحت بعض الدوائر في مصر إزاء شعار رابعة فإنها تعكس ذلك التوتر بشدة، حيث ما خطر ببال أحد أن يلوح شاب بالشعار لقائد طائرة حربية في أسيوط فيتم الإبلاغ عنه ويلقى القبض عليه. وأن يُحال تلميذ السنة الأولى بثانوية كفر الشيخ إلى التحقيق ويحبس 15 يوما لمجرد أن مدرسه وجد الشعار مرسوما على مسطرة يحملها، وأن فتاة في كلية طب بنها حرمت من دخول الامتحان لأنهم وجدوا الشعار مطبوعا على قميصها.. إلى آخر تلك الحوادث التي تعيد إلى الأذهان أجواء ممارسات النازية والفاشية في الأزمنة الغابرة.
في الجانب المتعلق بالسلطة، يفترض بعد إعلان نتائج الاستفتاء على الدستور أن تتوالى استحقاقات إقامة هياكل مؤسسة الحكم، التي على رأسها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا أن أزمة السلطة سوف تتمثل في قدرتها على التعامل مع مجموعة من الملفات الشائكة المرحلة من العام الماضي، والتي تمثل تحديات ثقيلة الوطأة. في مقدمتها ما يلى:
– حسم العلاقة مع الثورة المضادة والدولة العميقة، المتمثلة في أركان النظام القديم وأجهزته وشبكة مصالحه، التي كان لها إسهامها في إسقاط حكم الإخوان، ومن ثم تنتظر حصتها فيما تلا ذلك من خطوات.
خصوصا أن تلك الأطراف مدعومة من القوى الإقليمية التي سارعت إلى مساندة 30 يونيو، انطلاقا من موقفها العدائي لثورة 25 يناير وهو ما يشكل معادلة صعبة للنظام الجديد، الذي يتعذر عليه الجمع بين أهداف ثورة يناير وجماهيرها العريضة، وبين حلفاء 30 يونيو، لأن كلا منهما ينفي الآخر ويعاديه.
“يفترض بعد الاستفتاء على الدستور أن تتوالى استحقاقات إقامة هياكل مؤسسة الحكم، إلا أن أزمة السلطة تتمثل في قدرتها على التعامل مع مجموعة من الملفات الشائكة التي تمثل تحديات ثقيلة الوطأة ”
– تحديد مصير الدولة المدنية والديمقراطية التي قامت لأجلها ثورة 25 يناير، خصوصا بعدما أرسى الدستور الجديد أساس الدور السياسي للمؤسسة العسكرية من خلال تحصين منصب وزير الدفاع لثماني سنوات مقبلة.
وإذا تأكدت الترجيحات الشائعة في الوقت الراهن، الدالة على ترشح الفريق عبد الفتاح السيسي للرئاسة، فإن أفق عسكرة الدولة سيصبح مفتوحا على مصراعيه، وفي ظل تنامي دور المؤسسة الأمنية الذي فرضته الظروف الأخيرة، فإن فكرة تأسيس الدولة المدنية ستصبح في خطر شديد.
-الجراح المرحلة من عام 2013 تمثل تحديا لا يعرف كيف سيتعامل معه النظام الجديد، ذلك أن ملف تلك الجراح يحفل بعناوين عدة، فثمة عدد يتراوح بين 1800 وألفي شخص سيقدمون إلى المحاكمات في قضايا مختلفة، وهذه المحاكمات قد تستمر طوال العام، مع ما قد يستصحبها من أصداء في المحيط الاجتماعي.
وإلى جانب هؤلاء، فثمة 21 ألف شخص رهن الاعتقال رصدهم موقع ويكى ثورة (المستقل) يتعذر تصور إبقائهم في السجون طوال العام، وإلى جانب هؤلاء وهؤلاء فإن الموقع سابق الذكر تحدث عن 2665 شخصا قتلوا إضافة إلى 15.913 آخرين أصيبوا خلال الاشتباكات التي استمرت طوال العام وحتى يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وتلك تركة ثقيلة موضوعة على طاولة النظام الجديد ويتعذر تركها معلقة بلا حل.
– تمثل الحرب على الإرهاب تحديا آخر، على الأقل فثمة ثلاث جبهات مرشحة لاستمرار تلك الحرب المفتوحة التي يخشى أن تستنزف طاقة الدولة بغير طائل، والجبهات الثلاث واحدة منها داخلية ضد عناصر جماعة الإخوان بعد تصنيفها جماعة إرهابية، والثانية في سيناء حيث تتمركز مجموعات تشكلت وترعرعت في محيطها، ولم تنجح جهود السلطة في القضاء عليها.
أما الجبهة الثالثة فهي في غزة، التي نقل تقرير لوكالة رويترز نشر في 15 يناير/كانون الثاني الجاري عن مسؤولين مصريين قولهم إن حرب النظام المصري ضد الإرهاب لن تكتمل إلا بإسقاط نظام حماس القائم في القطاع منذ ست سنوات.
– ثمة ملف آخر له خطورته وأهميته البالغة يتعلق بمستقبل المياه في مصر، ذلك أن السؤال المطروح على النظام الجديد هو كيفية التعامل مع القضية بعد فشل المحادثات الثلاثية التي جرت أخيرا في الخرطوم جراء تمسك الطرف الإثيوبي بموقفه بشأن سد النهضة.
وللتذكرة فقط فإن عملية بناء السد تمضى بخطى متسارعة، وتم إنجاز 30% من مشروعه الذي يفترض أن يكتمل عام 2017، وفي حالة اكتماله فإنه سيؤدي إلى خصم ما بين 12 و14 مليار متر مكعب من حصتها في المياه، الأمر الذي يترتب عليه فقدانها ما بين 25 و40% من إمدادات الكهرباء، إضافة إلى بوار ما بين أربعة وخمسة ملايين فدان من الأرض الزراعية يؤدي إلى تشريد ما بين خمسة وستة ملايين فلاح.
– أما أمّ الأزمات التي تواجه السلطة فتتمثل في أنها إذا صرفت جهدها في التعامل مع الملفات السابقة فإنه لن يكون بوسعها أن تقدم شيئا لصالح تحقيق الأهداف الأساسية للثورة، خصوصا ما تعلق منها بالتنمية البشرية والاقتصادية أو تحقيق العدالة الاجتماعية.
تجليات الأزمة في الجانب المتعلق بالمجتمع المصري، وذلك الذي يخص الإخوان، ألخصها فيما يلي:
– أزمة المجتمع تتمثل في فراغ ساحته السياسية جراء الضعف الشديد في مؤسساته الشعبية ومنظماته المدنية، ذلك أن النظام المستبد لم يدمر بدائله فحسب ولكنه أيضا عمل على اختراق مختلف مؤسساته وإخضاعه لوصايته وسلطانه.
وينطبق ذلك على المؤسسات التي يفترض القانون استقلالها (السلطة التشريعية والجامعات والقضاء والإعلام) أو تلك التي تتشكل بالانتخاب (المجالس المحلية والنقابات العمالية مثلا) كما ينطبق على التعاونيات باختلاف مجالاتها، الزراعية والإنتاجية والاستهلاكية وغيرها.
حدث ذلك أيضا بالنسبة للأحزاب والمنظمات الحقوقية والنقابات المهنية، التي إذا قاومت الاختراق والتطويع فإنها إما وضعت تحت الحراسة من قبل السلطة أو حوصرت بالقانون أو حتى بغير القانون.
“إزاء الضعف الذي استشعرته معظم القوى السياسية والمدنية، فإنها حين أرادت أن تتحدى حكم الإخوان لجأت إلى التحالف مع المؤسسة العسكرية والأمنية في مفارقة فريدة ”
الخلاصة أن نظام الاستبداد قام بتأميم المجال العام، إلا في حالات استثنائية ظلت مؤقتة ولم تؤثر أو تذكر، الأمر الذي لم يتح لمختلف مكونات المجتمع المدني أن تنمو بحيث يشتد عودها وتصبح قوى حقيقية قادرة على التعبير عن شرائح المجتمع أو على كبح جماح السلطة.
وترتب على ذلك أن السلطة أصبحت عنصر القوة الوحيد في المجتمع، خصوصا بعد إقصاء قوى الإسلام السياسي التي لم تنجح تجربتها في الحكم.
وإزاء الضعف الذي استشعرته معظم القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني، فإنها حين أرادت أن تتحدى حكم الإخوان وتسد الفراغ المترتب على إزاحته، فإنها لجأت إلى التحالف مع المؤسسة العسكرية والأمنية في مفارقة فريدة وغير مألوفة في أي مسار ديمقراطي.
هكذا فإنه بدلا من استثمار أجواء الثورة في رفع وصاية السلطة على المجتمع، على نحو يتيح له أن يستعيد حيويته ويفرز قياداته، فإن كيانات المجتمع الهشة استقوت بالمؤسسة العسكرية وفتحت الباب لتنامي دورها السياسي الذي يمهد الطريق لعسكرة المجتمع في الأجل المنظور، وبالتالي فإنها أسهمت في إضعاف المجتمع بدلا من تقويته.
أزمة الإخوان متعددة الأوجه، ذلك أن تصنيفها كمنظمة إرهابية لأول مرة في تاريخها، وضعها في موقف حرج، رغم أن ذلك التصنيف ليست له قيمة قانونية، لأنه كان إعلانا لمجلس الوزراء اعتبر موقفا سياسيا، من جانبه، ومن ثم فإنه لم يعد قانونا ولم تنشره الجريدة الرسمية، وبالتالي فإن الوصف يقتصر أثره على الخطاب السياسي والإعلامي.
مع ذلك فقد كان لذلك الخطاب أثره في توسيع نطاق الرفض الشعبي للحركة، وهو الرفض الذي أسهمت فيه عوامل أخرى موصولة بالأخطاء التي وقعت فيها الجماعة أثناء تولي محمد مرسي للسلطة.
من ناحية أخرى فإن تحالف الجماعة مع جماعات تختلف عنها في نهجها الفكري رغم انتسابها إلى المرجعية الإسلامية حملها بأعباء خصمت من رصيدها، الأمر الذي سوغ نسبة كل أعمال العنف التي وقعت إلى الإخوان.
من ناحية ثالثة، فإن اعتقال كل القيادات وضع الجميع في سلة واحدة بحيث طمست التمايزات بين أجنحة الاعتدال والتشدد.
إضافة إلى أن تلك الخطوة قطعت خطوط الاتصال بين القيادات والقواعد، الأمر الذي فتح الباب لممارسات ومبادرات لم تخل من شطط وحمق.
من ناحية رابعة، فإن الاحتجاجات التي يمارسها شباب الإخوان تبدو بغير أفق واضح، في حين أنها باهظة التكلفة، فالذين يشاركون فيها بصفة منتظمة منذ أكثر من ستة أشهر يعرفون مسبقا أنهم سوف يتعرضون للاعتقال أو القتل (خلال يومي الاستفتاء في 14 و15 يناير/ كانون الثاني تم اعتقال 444 شخصا حسب تصريح وزير الداخلية).
“المعارك الراهنة تستهلك طاقة الحاضر في حسابات الماضي ومراراته، الأمر الذي سيكون المستقبل ضحية له، علما بأن المستقبل هو حلمنا وهو أملنا الذي نعول عليه”
واستمرار تلك المظاهرات يشكل نزيفا مستمرا لا يبدو له هدف واضح سوى أنه تعبير عن رفع صوت الاحتجاجات والغضب، حتى شعارات العودة إلى الشرعية التي ترفع في أغلب تلك المظاهرات تعبر عن وجه آخر للأزمة، التي جعلت المتظاهرين يتعلقون بمرحلة تجاوزها الواقع.
ذلك أن الشرعية باتت مشكلة الجماعة، في حين أن استعادة الديمقراطية هي مشكلة الوطن والمجتمع.
أدرى أن الهيستيريا التي أصابت المجتمع عطلت العقول وحكَّمت الانفعالات، وأن شرائح واسعة من النخبة استسلمت لهذه الحالة، ومن عناصرها من تقدم صفوف الملتاثين الذين ما برحوا يدعون إلى تأجيج الحرائق وتوسيع نطاق الإبادة السياسية.
أدري أيضا أن الدعوة إلى رد الاعتبار للعقل، بما يؤدي إلى إطفاء الحرائق ورأب التصدعات في صفوف الجماعة الوطنية، لن تسلم من الاتهام والتجريح.
لكنني أذكر الجميع بمقولة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل التي أطلقها في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحذر فيها الشعب البريطاني من “إننا لو تركنا الحاضر يصارع الماضي سيضيع المستقبل”.
وتلك المقولة هي أكثر ما ينطبق على الواقع المصري الراهن، لأن المعارك الراهنة تستهلك طاقة الحاضر في حسابات الماضي ومراراته، الأمر الذي سيكون المستقبل ضحية له، علما بأن المستقبل هو حلمنا وهو أملنا الذي نعول عليه.