الرئيسية / القرآن الكريم / عوامل النضج الحضاري دراسة قرآنية

عوامل النضج الحضاري دراسة قرآنية

خلاصة لبحث تخرج البكالوريوس

من المواضيع القرآنية المهمة التي لابد للمسلم التعرّف عليها هي دراسة العوامل المساهمة في إيصال الحضارة الإنسانية إلى نضجها و كمالها بشكل علمي وفي إطار قرآني . فإنّ الحضارة في اللغة تعني الإقامة و الشهود و الحضر، و إنها تعني في الاصطلاح أنّ يتمتع الإنسان بحياة هادئة و كريمة يظهر فيها إمكاناته و قدراته التي ميزه بها الله و مواهبه التي وهبها له سبحانه، وهي تشمل كل أسباب راحة الإنسان و وسائل رفاهيته، و إنّ الحضارة تعني في المفهوم القرآني بالإضافة إلى عمارة الأرض و العيش على سطحها بسلام، عمارة الروح و بناء شخصية الإنسان بناءاً متوازناً، و تنمية القيم والمبادئ الإنسانية انطلاقاً من تعاليم السماء، وهي وسيلة و أداة لغاية أكبر و أسمى هي (العبودية التامة) لله سبحانه و تعالى..

لقد أخبر القرآن عن إمكانية تحقق النضج الحضاري من خلال الكثير من الآيات الكريمة، و يمكننا أن نستشف ذلك من خلال القاعدة القرآنية في تبيين الهدف من الخلقة و التي تنص على أن الكون مخلوق للتكامل، و كذلك يمكننا أن نستنتجه من الآيات التي تربط الفلاح والسعادة الدنيوية بالإيمان والاستقامة، فضلاً عن ضمان السعادة الأخروية و الروحية.

إنّ الحضارة الناضجة في الرؤية القرآنية لها مقومات أساسية وهي عبارة عن: فكرة خلافة الإنسان لله سبحانه في الأرض و وضع النظام الواضح و البرنامج الصريح بوجود الإمامة و القيادة الصالحة. إنّ مسألة النضج الحضاري في الرؤية القرآنية ترتبط ارتباطاً مباشراً مع الإنسان و خياراته وهي متوقفة على نضج البشرية و تكامل رؤيتها للكون والوجود. لابد من خطوات تمهيدية تمهّد لهذا المسير نحو الكمال و هذه الخطوات في الرؤية القرآنية عبارة عن تحديد القوانين و جعل الأحكام الوضعية والتكليفية، وتهيئة الأفراد تدريجياً ثم الإعلان عن الحكم النهائي، ثم تقديم الأسوة الصالحة المتمثلة بالشخص المتكامل أو الإنسان الكامل بسلوكه و تصرفاته و أخلاقه.

إنّ النضج الحضاري لا يمكن أن يتحقق إلّا من خلال المرور بمرحلتين مفصلتين، إحداهما تكمّل الأخرى، فأولاهما تعتبر مرحلة نظرية وهي مرحلة النضج الفكري و العقائدي، وهذه المرحلة تعتبر الحاضنة و الأساس، أمّ الثانية فهي المكملة للأولى، وهي مرحلة نضج السلوك العملي أوالتطبيقي، وهذه المرحلة كما أنها تعتبر وليدة المرحلة السابقة ومعتمدة عليها فهي كذلك تعتبر المكملة والمجسدة لها.

عوامل النضج الفكري والعقائدي

إنّ النضج الفكري و العقائدي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال توفر عوامل أساسية وهي:

العامل الأوّل: الإدراك الصحيح لحقيقة النضج والتكامل، وهذا العامل يتيح للبشرية التعرّف على طبيعة النضج و التكامل و معرفة فرص تحققه و إمكانيات الوصول إليه من خلال إدراك أنّ الهدف من الخلق والوجود هو التكامل (و ما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون)[1]، و إدراك اختيارية الكمال و عدم قسريته (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً و إمّا كفورا)[2]، و إدراك التدرّج في الكمال و فهم مرحليّته (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)[3]..

العامل الثاني: نضج الرؤية الكونية، وهو من العوامل المؤثرة تأثيراً مباشراً في رسم ملامح الحضارات فإنّ رؤية الإنسان للكون و فهمه لحقيقة الوجود تعتبر من المسائل الأساسية التي تساهم في تحديد توجهاته و تطلعاته، و لأجل تكامل الرؤية الكونية لابد من توفر عدة شروط:

الإيمان بالغيب و الحقائق المعنوية (الله ولي الذين أمنوا)[4]
التعقّل و نبذ الخرافات (ولا تقف ما ليس لك به علم)[5]
الإخلاص في التوحيد لله رب العالمين (وقضى ربك ألّا تعبدوا إلّا إياه)[6]

و بواسطة هذه الشروط يتحقق العامل الأول من عوامل النضج الفكري و العقائدي على طريق النضج الحضاري.

العامل الثالث: نضج الرؤية الاجتماعية، ولا يمكن للرؤية الاجتماعية أن تنضج إلّا من خلال اعتماد مجموعة من المبادئ وهي: مبدأ الأصالة المختلطة للفرد و المجتمع ، ومبدأ المساواة في الكرامة و الحقوق الإنسانية، و التفاضل بحسب القابليات والإستعدادات، و الحوار الثقافي و تلاقح الأفكار (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها)[7] ، (ولقد كرمنا بني آدم)[8]، (وكذلك جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا )[9] ..

عوامل نضج السلوك الإنساني و الحضاري

إنّ مرحلة النضج العملي و التطبيقي تتألف من أربعة عوامل، وهذه العوامل هي عبارة عن:

العامل الأول: الجد والعملية، وهو يشكل الخطوة الأبرز على طريق النضج العملي والتطبيقي للسلوك الإنساني في بناء حضارته، و لهذا العامل عدة زوايا و أركان تشكل الروافد التي تمده و تقومه و تكرسه كمبدأ حضاري وهي:

الحث القرآني على السعي والعمل (ولقد مكناكم في الأرض و جعلنا لكم فيها معايش)[10]
التأكيد القرآني على وجوب النعم الإلهية ( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون )[11]
دعوة المؤمنين غلى فعل الخيرات و الإحسان للآخرين (يا أيها الذين أمنوا اركعوا و اسجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير)[12]
النهي عن الكسل و نبذ الجمود
الدعوة للتفكر في الكون و أسرار الطبيعة
اعتماد قانون “الجزاء على قدر المشقة، و الجزاء من جنس العمل (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرة شراً يره )[13]

العامل الثاني: الاعتدال والوسطية (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)[14]، و هذا العامل يشكل الضابط والمنظم لنشاط البشرية عند تحقق العامل الأول المتمثل بالجد والعملية يجب أن يكون لها حدود و ضوابط و قوانين تنظمها و توجهها، وقد ضبطها القرآن من خلال سلوك الاعتدال و الموازنة و الاعتدال ما يلي:

الأوامر القرآنية بوجوب السعي لأجل تأمين حاجات الروح والجسد، (وعد الله الذين أمنوا و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)[15]
الأوامر القرآنية بوجوب الاعتدال في الإنفاق و الاستهلاك، (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و كلوا و اشربوا ولا تسرفوا)[16]

العامل الثالث: الواقعية، وذلك أنّ الواقعية تضمن للحضارة صحة مسارها وعدم انحرافها و سقوطها، و بالتالي فهي تعدّ عاملاً مهماً من العوامل التي تضمن لها النضج و الكمال، و إن لهذه الواقعية عدّة صور و أركان و مصاديق و أهمها:

الدعوة القرآنية للاستفادة من نعم الدنيا الزائلة لأجل الخلود في نعيم الآخرة .
الدعوة القرآنية غلى مراعاة الفطرة السليمة .
الدعوة القرآنية للإنسانية بالاستقامة و تجنب خطوات الشيطان، (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه و إليه النشور)[17]، (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)[18]..

العامل الرابع: السعي لإيجاد الحداثة والتطوير، وهو يعتبر بمثابة الختام في مجموعة العوامل النظرية والعملية وقد استوحينا هذا المعنى من خلال عدة مجموعات من الآيات الكريمة التي تستبطن معنى الحداثة والتطوير، وهي تتمثل في الآيات التي تتحدث عن إنجازات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ و الصالحين، و كذلك الآيات التي تأمر بوجوب تطوير القدرات العسكرية للدولة الإسلامية لتتفوق على كل القوى المعاصرة، بالإضافة إلى الآيات التي تدعو إلى التحمّل و التزيّن و التمتّع بملذات الدنيا، فضلاً عن الآيات التي تدعو المؤمنين إلى التنافس و السباق في أمور الخير.

وفي الختام فإنني لا أدّعي بأنني أوفيت مسألة الحضارة حقها من البحث ولا أنني استقصيت كل العوامل المؤثرة في عملية النضج الحضاري وفق الرؤية القرآنية بالدراسة، لكنني أحمد الله و أشكره على توفيقه الذي حباني به فتمكنت من أن أخطو خطوتي في هذا المجال و أن أخرج موضوع النضج الحضاري والتكامل الإنساني من حيّز الشعارات و سجن المثاليات و أن أطلقه إلى الواقع المعاش، و أن أقرّب ما بين المبادئ والتعاليم الأخلاقية الروحية والمعنوية في القرآن وبين مقتضيات الازدهار المادي والدنيوي في مسألة الحضارة الإنسانية. آملة أن يتقبل الله مجهودي هذا و أن يدّخره لي في صحيفة حسناتي إنه رحيم ودود.

نهى القطراني ـ العراق

[1] سورة الذاريات آية 56

[2] سورة الإنسان آية 3

[3] سورة العنكبوت آية 69

[4] سورة البقرة آية 257

[5] سورة الإسراء :36

[6] سورة الإسراء : 32

[7] سورة النساء: 1

[8] سورة الإسراء: 70

[9] سورة الحجرات : 13

[10] سورة الأعراف : 10

[11] سورة الجاثية : 12

[12] سورة الحج : 77

[13] سورة الزلزلة : 8ـ 9

[14] سورة البقرة : 143

[15] سورة النور : 55

[16] سورة الأعراف : 31

[17] سورة الملك: 10

[18] سورة البقرة : 161