القدوةً الملتبسةًً
إن الجانب الأشد خطورة في ما نطلق عليه “القدوة الملتبسةًً ، ليس تلك الصلة بين شباب اليوم وبين تقنيات الاتصال الحديثة التي جعلت قدوتهم المرجعية في جوانب كثيرة من حياتهم غير واضحة تماماًً .
بل تكمن الخطورة في حصول ذلك الالتباس في مجتمعنا نفسه عندما نقدم نموذجاًً فكرياًً او سياسياًً او دينياًً او سلوكياًً ولا نلتزم تماماًً بما يفترضه هذا النموذج.أي اننا نكون في هذه الحالة مثل الذين يسألهم القرآن الكريم “لم تقولون ما لا تفعلونًً؟ .وقد شهدت حركات سياسية ودينية واجتماعية كثيرة عبر التاريخ في بلدان الشرق والغرب مثل هذه القدوة الملتبسه التي ادت الى خسارة تجربتها والى تراجع النموذج الذي قدمته تلك الاحزاب والحركات في مرحلة معينة.بمعنى ان قادة هذه الحركات الذين كانوا قدوة في الزهد او التواضع أو التضحية على سبيل المثال تحولوا الى حب التملك وحب الشهرة والى التعلق بالمكانة الاجتماعية. لكنهم استمروا في الحديث مع الناس وفي الكتابة عن فضيلة الزهد وعن قيمة التواضع.
ولعل من المفيد في هذا المجال ان نذكر “التجربة الأفغانيةًً التي تحول فيها بعض قادة المجاهدين الى البحث عن الثروة والمكانة وًًحب الدنياًً بعدما كانوا “قدوةًً الجهاد في أودية افغانستان وجبالها قبل سنوات . وبحسب بعض التقارير،(الحياة 10/9/2009) يتحدث الناس بحسرة عن “ثروات تقدر بمئات الملايين من الدولاراتًً كدسها قادة أحزاب “المجاهدينًً الذين تصدوا للغزو السوفياتي في ثمانينات القرن العشرين. هؤلاء القادة تحولوا بغالبيتهم الى إقطاعيين جدد، يمتلكون كثيراً من المجمعات السكنية…
وتعتبر ضاحية “وزير أكبر خانًً أرقى أحياء العاصمة كابول. واستولت أحزاب “المجاهدينًً على منازل الحي أول مرة بعد دخولها كابول عام 1992، علماً ان لهذه المنازل مالكين اصليين يحتفظون بأوراق ملكيتهم القانونية. واستولى أحد قادة “المجاهدينًً على أكثر من مئة منزل في حي “وزير أكبر خانًً، إضافة إلى عدد من الفنادق والأسواق التجارية، مع أن هذا القائد لا يكف عن انتقاد الغرب والدول المجاورة لتدخلها في أفغانستان.
ويقدر البعض ثروة قائد آخر لـ “المجاهدينًً بما لا يقل عن بليون ونصف بليون دولار،علماًً بأن هذه الثروة لم تجمع كلها من أموال “الجهادًً فحسب، بل أيضاً من تجارة الأحجار الكريمة.
ينطبق ما تقدم ،أي مبدأ “تقولون ما لا تفعلونًً في التجربة الأفغانية ،على الشخصيات الدينية ايضاًً التي تتحدث عن فضائل الآخرة وهي
احرص الناس على الدنيا وما فيها. وعلى الهيئات المدنية التي ترفع شعار محاربة الفساد ،وتحوم حولها الشبهات والتهم . إن الالتباس ينشأ من التداخل الذي يحصل بين “الصح والخطأًً او بين الحق والباطل. بين ما يدعو اليه هؤلاء من حق وبين ما يمارسونه من باطل او من خطأ.ًً بين ما يقولون وبين ما يفعلونًً في الوقت نفسه…
وحتى بين ما يقوله بعضهم وما يفعله البعض الآخر في الجمعية نفسها، أوفي التنظيم الحزبي نفسه،او في الهيئة الاجتماعية نفسها . عندما تبلغ القدوة هذه الحالة تصبح “قدوة ملتبسةًً،وتفقد تدريجاًً البريق الذي كان لها،ولكن من دون ان تفقد تماماًً الاقتداء بها.وهذا جوهر الالتباس المقصود.أي التساؤل عن مدى استمرار صدقية تلك القدوة، وفي الوقت نفسه استمرار الالتزام بها وتأييدها كشخص أو كفكرة.ويشير الامام الخميني في كتاب
” الجهاد الأكبرًً الى هذه الظاهرة عندما “يفقد العلماء ثقة الأمةًً.أي عندما “لا يكون توجههم الى الله ،وعندما يهتمون ببهارج الدنيا، وعندما يكون همهم المصالح الشخصية كما يفعل الآخرون ،…ويقول الآمام لهؤلاء العلماء :ًًأن الأمة اذا رأتكم متنازعين على الدنيا ومتخاصمين من اجل اهوائكم واتخذتم الدين دكاناًً ومتجراًً ..فإن الأمة ستنحرف…وتسئ الظن بكم ،وأنتم المسؤولون حينئذ عن ذلك كله.ًً(ص 29).اي ان الأمة ستكف عن اعتبار العلماء قدوة لها.وقد تتخذ رموزاًً أخرى قدوة بديلة.
إن التجارب السابقة كلها في بلاد الشرق والغرب من دون استثناء ،تقول لنا بأن القدوة كشخص، أوكفكرة، وخصوصاًً كبيئة من السلوك ومن القيم، تفقد بريقها وًًقدسيتهاًًمتى تعرضت للتساؤل عما “يقولون وعما يفعلونًً. أو عندما تعجز تلك القدوة عن تحقيق الاهداف التي وضعتها لنفسها ،أو عندما تهتز الصورة التي تشكلت عن تلك القدوة من خلال تجربتها “الملتبسةًً، كما في نموذج بعض المجاهدين الأفغان…وفي نماذج أخرى كثيرة . هذا ما حصل عبر التاريخ وهذا ما سيحصل في المستقبل،حيث ستخلي مثل هذه القدوة ورموزها مكانها ومكانتهم لقدوة أخرى….