صفة القرآن
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة القرآن: “ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ, نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَسِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَبَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَمِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ وَشُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ وَفُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَتِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَشِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَعِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَحَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ؛ فَهُوَ مَعْدِنُ الْإِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ وَأَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ وَبُنْيَانُهُ وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ، وَبَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وَعُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ وَمَنَاهِلُ لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ وَمَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ وَأَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ وَآكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ.
جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ ومَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَحَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَمَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَهُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ وَحَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى”10.
يقول السيّد أبو القاسم الخوئي رحمه الله شارحاً لهذه الكلمات: وقد استعرَضت
________________________________________
8- سورة آل عمران، الآية: 7.
9- الكافي, الشيخ الكليني, ج 1, ص 213.
10- نهج البلاغة, ج 2, ص 177.
هذه الخطبة الشريفة كثيراً من الأمور المهمّة التي يجب الوقوف عليها، والتدبّر في معانيها. فقوله:
“لا يخبو توقّده” خبت النار: خمد لهبها، يُريد بقوله هذا وبكثير من جمل هذه الخطبة أنّ القرآن لا تنتهي معانيه، وأنّه غضٌّ جديد إلى يوم القيامة. فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم، ولكنّها لا تختصّ بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامّة المعنى.
عن أبي عبد الله عليه السلام: “إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا”11.
“ومنهاجا لا يضلّ نهجه” يُريد به: أنّ القرآن طريق لا يضلّ سالكه، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلقه ، فهو حافظ لمن اتبعه عن الضلال.
“وتبياناً لا تُهدم أركانه” المحتمل في المراد من هذه الجملة أحد وجهين:
الأوّل: أنّ أركان القرآن في معارفه وتعاليمه، وجميع ما فيه من الحقائق محكمة لا تقبل التضعضع والانهدام.
الثاني: أنّ القرآن بألفاظه لا يتسرّب إليه الخلل والنقصان، فيكون فيها إيماءً إلى حفظ القرآن عن التحريف.
“ورياض العدل وغدرانه “12 أي أنّ العدل بجميع نواحيه من الاستقامة في العقيدة والعمل والأخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز، فهو مجمع العدالة وملتقى متفرّقاتها.
________________________________________
11- بحار الأنوار، المجلسي، ج35، ص404.
12- الرياض جمع روضة، وهي الأرض الخضرة بحسن النبات. والغدران جمع غدير وهو الماء الذي تغدره السيول. والعدل الاستقامة.
“وأثافي13 الإسلام” ومعنى ذلك: أنّ استقامة الإسلام وثباته بالقرآن كما أنّ استقامة القِدر على وضعه الخاصّ تكون بسبب الأثافي.
” وأودية الحقّ وغيطانه” يُريد بذلك: أنّ القرآن منابت الحقّ، وفى الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنّة، وتشبيه الحقّ بالنبات النابت فيها. وفي ذلك دلالة على أنّ المتمسّك بغير القرآن لا يُمكن أن يُصيب الحقّ، لأنّ القرآن هو منبت الحقّ، ولا حقّ في غيره.
“وبحر لا ينزفه المنتزفون “14 وفيها أنّ المتصدّين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه، لأنّه غير متناهي المعاني، بل وفيها دلالة على أنّ معاني القرآن لا تنقص أصلاً، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها.
“وآكام15 لا يجوز عنها القاصدون…إلخ” والمراد أنّ القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها. وفي هذا القول إشارة إلى أنّ للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام أولي الأفهام.
وقد يكون المراد أنّ القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها ولم يطلبوا غيرها، لأنّهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتمّ16.
أحسن الحديث
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “وَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَأَحْسِنُوا تِلَاوَتَه, فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ. وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ
________________________________________
13- الأثافي كأماني جمع أثفية, بالضم والكسر, وهي الحجارة التي يوضع عليها القدر .
14-نزف ماء البئر : نزح كله .
15- والآكام جمع أكم ، كقصب ، وهو جمع أكمة ، كقصبة ، وهي التلّ .
16- البيان في تفسير القرآن ، السيّد الخوئي قدس سره، ص21-24، بتصرّف.
مِنْ جَهْلِهِ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ أَلْوَمُ”17 .
جمع أمير المؤمنين عليه السلام في هذه العبارات آيات عديدة من المصحف تشير إلى صفة القرآن وقيمته، فالقرآن أحسن الحديث لقوله تعالى:
﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ 18.
وفيه الشفاء والرحمة:﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ 19.
وفيه الموعظة وشفاء الصدور:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ 20.
وهو أحسن القصص: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ 21.
ويقول الإمام عليه السلام: “وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ﴿ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ 22وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ. وَذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ 23 وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَلَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ وَلَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِهِ”24.
________________________________________
17- نهج البلاغة, ج 1, ص 216.
18- سورة الزمر، الآية: 23.
19- سورة الإسراء، الآية: 82.
20- سورة يونس، الآيات: 57- 58.
21- سورة يوسف، الآية: 3.
22- سورة الأنعام، الآية: 38.
23- سورة النساء، الآية: 85.
24- نهج البلاغة, ج 1, ص 55.
فالله أحصى كلّ شيء في القرآن ففيه تبيان كلّ شيء، لكن لا يمسّه إلّا المطهّرون. فكيف ينبغي أن يكون تعاملنا مع القرآن؟
يقول أمير المؤمنين عليه السلام فيما أورده الشريف الرضي رض عنه عليه السلام في النهج: “وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ, فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ. فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ وَلَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ. إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللهَ تَعَالَى بِمِثْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ”25.
فإذا كان أحدنا مريضاً فعليه بالقرآن وإن كان به شدّة فعليه بالقرآن، وكذا يُتوجّه به إلى الله في الحوائج، وتُرجى شفاعته يوم القيامة، ومن أراد أن يعرف الصحيح من السقيم، والهدى من الضلال، فما له غير القرآن دليلاً وهادياً ومرشداً.
ويقول عليه السلام: “وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعزّ لا تهزم أعوانه”26.
وهنا الإمام يطلب منّا التمسّك بالكتاب الإلهيّ فبه يكون السؤدد والعزّ والغلبة،
________________________________________
25- نهج البلاغة, ج 2, ص 91 – 92.
26- م. ن, ج 2, ص 16.
والعكس صحيح فلو تركنا القرآن وخلّفناه وراء ظهورنا وهجرناه فلا شكّ أنّ الذلّ والفقر والحرمان سيطرق أبوابنا، وسنخسر الدنيا والآخرة.