الرئيسية / الاسلام والحياة / التقوى في القرآن الكريم – روايات النار

التقوى في القرآن الكريم – روايات النار

كذلك الروايات التي تحدّثت عن النار وآلامها. روى الصدوق بإسناده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: بينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم قاعداً، إذ أتاه جبرئيل (عليه السلام) وهو كئيب حزين متغيّر اللون، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا جبرئيل مالي أراك كئيباً حزيناً؟
فقال: يا محمّد، فكيف لا أكون كذلك، وإنّما وضعت منافيخ جهنّم اليوم.
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : وما منافيخ جهنّم يا جبرئيل؟
فقال: إنّ الله تعالى، أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتى احمّرت، ثمّ أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضّت، ثمّ أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودّت، وهي سوداء مظلمة، فلو أنّ حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على أهل الدنيا لذابت الدنيا من حرّها، ولو أنّ قطرة من الزقّوم والضريع قطرت في شراب أهل الدّنيا، مات أهل الدنيا من نتنها.
قال: فبكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبكى جبرئيل، فبعث الله إليهما ملكاً فقال: إنّ ربّكما يقرئكما السلام، ويقول: إنّي قد أمنتكما من أن تذنبا ذنباً أعذبكما عليه»( [356]).
لذا ورد عن الامام علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنّ ناركم هذه لجزء من سبعين جزءاً من نار جهنّم، ولقد أطفيت سبعين مرّة بالماء، ولولا ذلك لما استطاع آدمي أن يطفيها إذا التهبت.. وإنّه لتؤتى بها يوم القيامة حتى توضع على النار، ما يبقى من ملك مقرّب ولا نبي مرسل إلا جثا بركبتيه فزعاً من صرختها»( [357]).
لكن عند المقارنة بين الانذار والتبشير، نجد أنّ القرآن الكريم يؤكّد على الانذار، أكثر ممّا يؤكّد على التبشير، حيث ورد في آيات عديدة حصر وظيفة الانبياء في الانذار، بخلافه في التبشير، إذ لا نجد ذلك الحصر. قال تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد)( [358])، وقال: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)( [359])، وقال: (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيلٌ)( [360])، وقال: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِع مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ)( [361])، والسبب في ذلك أنّ طباع الناس مختلفة في تأثير هذين السبيلين، «فبعضهم وهو الغالب يغلب على نفسه الخوف، وكلّما فكّر فيما أوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أعدَّ لهم، زاد في نفسه خوفاً ولفرائصه ارتعاداً، ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفاً منعذابه.
وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء، وكلّما فكّر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة، زاد رجاءً وبالغ في التقوى والتزام الاعمال الصالحة طمعاً في المغفرة والجنّة»( [362]).
وهذا ما نجده واضحاً في كلمات إمام المتّقين علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:
 قال (عليه السلام) : «وأمّا أهل المعصية فأنزلهم شرّ دار، وغلّ الايدي إلى الاعناق، وقرن النواصي بالاقدام، وألبسهم سرابيل القطران، ومقطّعات النيران، في عذاب قد اشتدّ حرّه، وباب قد أُطبق على أهله، في نار لها كَلَبٌ ولَجَبٌ ولَهَبٌ ساطع، وقصيف هائل، لا يظعن مقيمها ولا يُفادى أسيرها، لا مدّة للدار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى»( [363]).
 وقال (عليه السلام) : «أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والعثرة تدميه، والرمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر وقرين شيطان، أعلمتم أنّ مالكاً إذا غضب على النار خطم بعضها بعضاً لغضبه، وإذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعاً من زجراته»( [364]).

الطريق الثاني: الحبّ الالهي : يقوم أساس هذا الطريق على حبّ الله تعالى، قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِِ)( [365]) «حيث دلّت على أنّ الحبّ يتعلّق بالله تعالى حقيقة ـ خلافاً لمن زعم أنّ الحبّ، وهو وصف شهواني، لا يتعلّق إلاّ بالامور المادّية، ولا يتعلّق به سبحانه حقيقة ـ وأنّ معنى ما ورد من أنّ الحبّ له تعالى، هو الاطاعة بالايتمار بالامر والانتهاء عن النهي تجوّزاً.
والآية حجّة ودليل عليهم، فإنّ قوله تعالى: (أَشَدُّ حُبّاً للهِِ) يدلّ على أنّ حبّه يقبل الاشتداد، وهو في المؤمنين أشدّ منه في المتّخذين لله أنداداً، ولو كان المراد بالحبّ هو الاطاعة مجازاً، كان المعنى: والذين آمنوا أطوع لله، ولم يستقم معنى التفضيل، لانّ طاعة الانداد ليست بطاعة عند الله سبحانه، فالمراد بالحبّ معناه الحقيقي.
ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ)( [366])فإنّه ظاهر في أنّ الحبّ المتعلّق بالله والحبّ المتعلّق برسوله والحبّ المتعلّق بالآباء والابناء والاموال وغيرها، جميعاً من سنخ واحد، لمكان قوله: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى واختلافهما من حيث الزيادة والنقصان»( [367]).
وينشأ هذا الحبّ من المعرفة والعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وقد سمّى نفسه بأحسن الاسماء ووصف ذاته بكلّ صفة جميلة (وَللهِِ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)( [368])، (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى)( [369])«ومن خاصّة النفس الانسانية أن تنجذب إلى الجميل، فكيف بالجميل على الاطلاق، قال تعالى: (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ)( [370])، ثمّ قال: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ)( [371])، فأفاد أنّ الخلقة تدور مدار الحسن، وأنّهما متلازمان متصادقان، ثمّ ذكر سبحانه في آيات كثيرة أنّ ما خلَقَه من شيء، آية تدلّ عليه و(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَات لاُِولِي الاَْلْبَابِ)( [372])، فليس في الوجود ما لا يدلّ عليه تعالى ولا يحكي شيئاً من جماله وجلاله.
فالاشياء من جهة أنواع خلقها وحسنها، تدلّ على جماله الذي لا يتناهى ويحمده ويثني على حسنه الذي لا يفنى، ومن جهة ما فيها من أنواع النقص والحاجة تدلّ على غناه المطلق، وتسبّح وتنزّه ساحة القدس والكبرياء، كما قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)( [373]).
فهؤلاء يسلكون في معرفة الاشياء من طريق هداهم إليه ربّهم وعرّفها لهم، وهو أنّها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله، وليس لها من النفسية والاصالة والاستقلال إلا أنّها كمرائي تجلّي بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي، وبفقرها وحاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، وبذلّتها واستكانتها ما فوقها من العزّة والكبرياء، ولا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة، دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزّة والفطرة، ويغشى قلبه من المحبّه الالهية ما ينسيه نفسه وكلّ شيء، ويمحو رسم الاهواء والاميال النفسانية عن باطنه، ويبدّل فؤاده قلباً سليماً ليس فيه إلاّ الله عزّ اسمه( [374]). (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم)( [375])، في الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ: (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم) قال: السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه»( [376]).
وعلى هذا الاساس فكلّما ازداد الانسان معرفة ازداد إيماناً، وكلّما ازداد إيماناً ازدادت نفسه انجذاباً، فيأخذ الحبّ في الاشتداد «ولا يزال يشتدّ هذا الحبّ ثمّ يشتدّ حتى ينقطع إليه من كلّ شيء، ولا يحبّ إلاّ ربه، ولا يخضع قلبه إلاّ لوجهه، فإنّ هذا العبد لا يعثر بشيء، ولا يقف على شيء وعنده شيء من الجمال والحسن إلاّ وجد أنّ ما عنده أنموذج يحكي ما عنده (تعالى) من كمال لا ينفد وجمال لا يتناهى وحسن لا يُحدّ، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، وكلّ ما كان لغيره فهو له، لانّ كلّ ما سواه آية له، ليس له إلاّ ذلك، والآية لا نفسية لها، وإنّما هي حكاية تحكي صاحبها، وهذا العبد قد استولى سلطان الحبّ على قلبه ولا يزال يستولي. ولا ينظر إلى شيء إلاّ لانّه آية من آيات ربّه، وبالجملة فينقطع حبّه عن كلّ شيء إلا ربّه، فلا يحبّ شيئاً إلاّ الله سبحانه وفي الله سبحانه.
حينئذ يتبدّل إدراكه وعلمه، فلا يرى شيئاً إلاّ ويرى الله سبحانه قبله ومعه، وتسقط الاشياء عنده من حيّز الاستقلال، فما عنده من صور العلم والادراك غير ما عند الناس، لانّهم إنّما ينظرون إلى كلّ شيء من وراء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة العلم.
كذلك الامر من جهة العمل، فإنّه إذا كان لا يحبّ إلاّ الله، فلا يريد شيئاً إلاّ لله وابتغاء وجهه الكريم، ولا يطلب ولا يقصد ولا يرجو ولا يخاف ولا يختار ولا يترك ولا ييأس ولا يستوحش ولا يرضى ولا يسخط إلاّ لله وفي الله، فيختلف أغراضه مع ما للناس من الاغراض، وتتبدّل غاية أفعاله، فإنّه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل ويقصد الكمال لانّه فضيلة إنسانية، ويحذر الفعل أو الخلق لانّه رذيلة إنسانية.
أمّا الآن فإنّما يريد وجه ربّه ولا همّ له في فضيلة ولا رذيلة، ولا شغل له بثناء جميل وذكر محمود، ولا التفات له إلى دنيا أو آخرة، أو جنّة أو نار، وإنّما همّه ربّه، وزاده ذلّ عبوديته، ودليله حبّه»( [377]).

شاهد أيضاً

اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم

11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...