ثمّ إنّه لابدّ أن يعلم أنّ هذه الطرق لتحصيل التقوى، تشترك جميعاً في أنّها تحقّق العبادة الصحيحة، حيث جاء في بعض نصوص الروايات السابقة، أنّ عبادة الاحرار هي «أفضل العبادة». ولا يخفى أنّ صيغة التفضيل هذه دالّة على أنّ كلاًّ من الوجهين السابقين لهما فضل في الجملة أيضاً، وهذا ما صرّح به بعض المتكلّمين والفقهاء على حدٍّ سواء، قال المجلسي في «مرآة العقول» في ظل هذه الرواية: «وحاصل المعنى أنّ العبادة الصحيحة المترتّبة عليها الثواب والكرامة في الجملة ثلاثة أقسام، وأمّا غيرها كعبادة المرائين ونحوها، فليست بعبادة ولا داخلة في المقسم»( [414]).
وقال السيّد اليزدي في العروة الوثقى: «ولغايات الامتثال درجات:
أحدها: وهو أعلاها، أن يقصد امتثال أمر الله، لانّه تعالى أهلٌ للعبادة والطاعة، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».
الثاني: أن يقصد شكر نعمه التي لا تحصى.
الثالث: أن يقصد به تحصيل رضاه والفرار من سخطه.
الرابع: أن يقصد به حصول القربة إليه.
الخامس: أن يقصد به الثواب ورفع العقاب، بأن يكون الداعي إلى امتثال أمره، رجاء ثوابه وتخليصه من النار»( [415]).
نعم إذا نسبت هذه الطرق بعضها إلى بعض، فإنّه ينطبق عليها القاعدة المعروفة «حسنات الابرار سيّئات المقرّبين» لانّ أهل طريق الحبّ والشكر يرون أنّ الطريقين ـ أعني: طريق العبادة خوفاً وطريق العبادة طمعاً ـ لا يخلوان من شرك (خفي) فإنّ الذي يعبده تعالى خوفاً من عذابه، يتوسّل به تعالى (أي يجعله وسيلة) إلى دفع العذاب عن نفسه، كما أنّ من يعبده طمعاً في ثوابه، يتوسّل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة، ولو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده، لم يعبده ولا حامَ حول معرفته، وقد تقدّمت الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) «هل الدين إلاّ الحبّ» وقوله (عليه السلام) في حديث: «وإني أعبده حبّاً له، وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون» وإنّما كان أهل الحبّ مطهّرين لتنزّههم عن الاهواء النفسانية والالوان المادّية، فلا يتمّ الاخلاص في العبادة إلاّ من طريق الحبّ»( [416]).
وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ)( [417])، حيث دلّت على أنّ أكثر أهل الايمان هم متلبّسون بنحو من أنحاء الشرك.
لكن قد يقال: كيف يمكن أن يتلبّس إنسان بالشرك والايمان معاً، مع كونهما صفتين متقابلتين لا تجتمعان في محلّ واحد؟
والجواب: أنّ حقيقة الايمان بالله والشرك به «هو تعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبية، وتعلّق القلب بغيره تعالى ممّا لا يملك شيئاً إلاّ بإذنه تعالى، فإنّ من الجائز أن يتعلّق الانسان مثلاً بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة، وينسى مع ذلك كلّ حقّ وحقيقة، ومن الجائز أن ينقطع عن كلّ ما يصدّ النفس ويشغلها عن الله سبحانه، ويتوجّه بكلّه إليه، ويذكره ولا يغفل عنه، فلا يركن في ذاته وصفاته إلاّ إليه، ولا يريد إلاّ ما يريده، كالمخلصين من أوليائه تعالى.
وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبُعد منه، وهي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع، والدليل على ذلك الاخلاق والصفات المتمكّنة في النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حقّ أو باطل، والاعمال الصادرة منها كذلك، ترى من يدّعي الايمان بالله يخاف وترتعد فرائصه من أي نائبة أو مصيبة تهدّده، وهو يذكر أن لا قوّة إلاّ بالله، ويلتمس العزّة والجاه من غيره وهو يتلو قوله تعالى: (إِنَّ الْعِزَّةَ للهِِ جَمِيعاً)( [418])، ويقرع كلّ باب يبتغي الرزق، وقد ضمنه الله، ويعصي الله ولا يستحي، وهو يرى أنّ ربّه عليم بما في نفسه، سميع لما يقول، بصير بما يعمل، ولا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء، وعلى هذا القياس.
فالمراد من الشرك في بعض مراتبه، الذي يجامع بعض مراتب الايمان، وهو المسمّى باصطلاح فن الاخلاق بالشرك الخفيّ»( [419]).
فإذا ضممنا إلى هذه الآية ، قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)( [420]) ينتج أنّ الشرك نحو من النجاسة، ولا شكّ أنّ القدر المتيقّن منها هي النجاسة المعنوية الباطنية، المعبّر عنها بالخبث وسوء السريرة، أمّا استفادة النجاسة الظاهرية التي هي قذارة حسّية قائمة بالجسم، فهي محلّ تأمّل عند جملة من الاعلام المحقّقين كسيّدنا الشهيد محمد باقر الصدر (قدّس سرّه)، حيث صرّح بعدم إمكان إرادة هذا المعنى من الآية في بحوثه الفقهية( [421]). وهذا ما أشار إليه الراغب في المفردات قال: «النجاسة: القذارة وذلك ضربان : ضربٌ يُدرك بالحاسّة، وضرب يدرك بالبصيرة، والثاني وصَفَ الله تعالى به المشركين، فقال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»( [422]).
فإذا كان الشرك نحواً من النجاسة المعنوية الملوّثة للباطن والقلب، إذن فهي محتاجة إلى مطهّر يسانخها، وهذا ما جاء في ظل قوله تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً) عن الصادق (عليه السلام) حيث قال: «يطهّرهم عن كلّ شيء سوى الله» كما تقدّمت الاشارة إليه.
شاهد أيضاً
اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم
11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...