الرئيسية / القرآن الكريم / 17 أسرار الآيات وأنوار البينات

17 أسرار الآيات وأنوار البينات

( 5 ) قاعدة في توحيده تعالى في حقيقة الوجود

قال اللَّه تعالى :

« كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ » وقال :

« اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ » والنور والوجود حقيقة واحدة لا فرق بينهما إلا بمجرد الاعتبار والمفهوم وكذا الظلمة والعدم فمعنى نور السماوات والأرض وجودهما وقال :

« ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ » « وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ

« وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْه ِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » .

برهان ذلك :« أن الباري جل ذكره بسيط الذات أحدي الوجود كما مر وأن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فلا يوجد فيه جهة إمكانية فلو فرض في ذاته فقد شيء من الأشياء الوجودية أو إمكان أمر من الأمور الثبوتية لم يكن واجب الوجود من جميع الوجوه فيلزم أن يكون فيه حيثيتان مختلفتان حيثية وجوب وجود شيء وحيثية إمكان وجود شيء آخر أو امتناعه فيلزم التركيب في ذاته ولو بحسب العقل وهو ممتنع فلا بد أن يكون كل وجود وكل كمال وجمال رشحا من رشحات بحر جماله ولمعة من لمعات نور كماله فجميع الوجودات ثابتة له على وجه أعلى وأشرف ولا سلب له إلا سلب الإمكان الذي هو معنى سلبي بسيط فصفاته السلبية كلها راجعة إلى سلب النقصان والسلوب المندرجة كلها تحت سلب الإمكان قال :

« لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ » ولم يقل ثالث اثنين إذ لم يصيروا بذلك كفارا بل هو ثالث الاثنين

ورابع الثلاثة وخامس الأربعة وسادس الخمسة وهكذا كما دلت عليه الآية المذكورة وهي قوله تعالى :

« ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ . . . الآية » وذلك لأن وحدته ليست عددية بل وحدة أخرى جامعة لجميع الآحاد والأعداد فلو كانت وحدته عددية لكانت داخلة في باب الأعداد فلم يكن حينئذ فرق بين أن يقال ثالث ثلاثة أو ثالث اثنين ولم يكن أحد القولين كفرا دون الآخر بخلاف ما إذا كانت وحدته خارجة عن باب الأعداد فكان القول حينئذ بكونه ثالث الثلاثة أو رابع الأربعة كفرا وباطلا إذ ثالث الثلاثة داخل في عدد الثلاثة وكذا رابع الأربعة داخل في الأربعة وهكذا .

ثم لما كانت وحدته نحوا آخر مغايرا لسائر الوحدات وليست من جنسها فهي مع كونها مغايرة لها جامعة لها مقومة إياها فلكونه تعالى كذلك صح أن يقال : إنه رابع الثلاثة فإذا انضم إلى الثلاثة واحد من جنسها صار هو سبحانه خامس الأربعة وهكذا إلى غير النهاية . وهذا مما يخفى دركه إلا على الراسخين فهُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وهو

« بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » . وفي كلام سيد الموحدين أمير المؤمنين عليه السلام « مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة » .

واعلم أن لنا بعد الكشف والشهود براهين متعددة على هذا المطلب تركنا ذكرها إذا لا تأثير في ذكرها لغير ذوي بصائر قلبية ومن كان ذا بصيرة قلبية يكفيه ما أوردناه من البرهان المذكور لأن من يتنور باطنه بنور الحق الأول فيشاهد أنه مع كونه واحدا غير قابل للتكثير والانقسام انبسط على هياكل الموجودات ووسع بجميع ما في الأرض والسماوات ولا يخلو منه شيء من الأشياء ولا ذرة من ذرات الكائنات وهو مع كونه مقوما لكل وجود مستغن مقدس عن كل موجود لا يلحقه من معيته لسائر الأشياء نقص ولا شين ولا تغير ولا تكثر وانقسام كالنور الحسي الواقع من الشمس على الروازن والثقب وعلى النجاسات والقاذورات من غير أن يتكثر ذاته ويتلوث بشيء منها أو يمتزج بها فإذا كان حال النور الحسي هكذا فما ظنك بحال نور الأنوار العقلية في انبساطه على الأشياء وعدم مخالطته بها .

تنبيه مشرقي
ومما ينبهك على أن وجوده تعالى وجود كل شيء أن وجوده عين حقيقة الوجود وصرفه من غير شوب عدم وكثرة فلو لم يكن وجودا لكل شيء لم يكن بسيط الذات ولا محض الوجود بل يكون وجودا لبعض الأشياء وعدما للبعض فلزم فيه تركيب من وجود وعدم وخلط بين إمكان ووجوب وهو محال . فإذن يجب أن يكون وجوده تعالى لكونه صرف حقيقة الوجود وجودا لجميع الموجودات « لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها » فلا يخرج من كنه ذاته شيء من الأشياء لأنه تمام كل شيء ومبدؤه وغايته وإنما يتعدد ويتكثر وينفصل لأجل نقصاناتها وإمكاناتها وقصوراتها عن درجة التمام والكمال فهو الأصل والحقيقة في الموجودية وما سواه شئونه وحيثياته وهو الذات وما عداه أسماؤه وتجلياته وهو النور وما عداه ظلاله ولمعاته وهو الحق وما خلا وجهه الكريم باطل

« كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ ، ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ » .

شاهد أيضاً

ألف سؤال وإشكال (المجلد الأول) / الصفحات: ٢٢١ – ٢٤٠

ألف سؤال وإشكال (المجلد الأول) / الصفحات: ٢٢١ – ٢٤٠ *  *  * ٢٢١ الأسئلة ...