الرئيسية / الاسلام والحياة / التقوى في القرآن الكريم – مسارات تطبيقية

التقوى في القرآن الكريم – مسارات تطبيقية

وقد أشار الشيخ الرئيس ابن سينا في الاشارات إلى بعض هذه الطرق للوصول إلى الله تعالى بقوله: «المستحل توسيط الحق مرحوم من وجه (أي جعل الحق واسطة ووسيلة للوصول إلى لذّة الجنّة ونعيمها) فإنّه لم يطعم لذّة البهجة به فيستطعمها، إنّما معارفته مع اللذات المخدجة، فهو حنون إليها غافل عمّا وراءها، وما مَثَله بالقياس إلى العارفين إلاّ مثل الصبيان بالقياس إلى المحنّكين، فإنّهم لما غفلوا عن طيّبات يحرص عليها البالغون، واقتصرت بهم المباشرة على طيّبات اللعب، صاروا يتعجّبون من أهل الجدّ إذا ازورّوا عنها، عائفين لها، عاكفين على غيرها.
كذلك من غضّ النقص بصره عن مطالعة بهجة الحقّ، أعلق كتفيه بما يليه من اللذات، لذّات الزور، فتركها في دنياه عن كُره، وما تركها إلاّ ليستأجل أضعافها، وإنّما يعبد الله ويطيعه ليخوّله في الآخرة شبعهُ منها، فيبعث إلى مطعم شهي ومشرب هني ومنكح بهي، إذا بُعثر عنه فلا مطمح لبصره في أُولاه وأُخراه إلا إلى لذّات قبقبه وذبذبه، والمستبصر بهداية القدس في شجون الايثار قد عرف اللّذة الحقّ، وولّى وجهه سمتها، مسترحماً على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضدّه، وإن كان ما يتوخّاه بكدّه مبذولاً له بحسب وعده».
قال المحقّق الطوسي في ذيل هذه العبارة:
المُخْدَج: الناقص، يقال: أخدجت الناقة: إذا جاءت بولدها ناقص الخلقة، والولد مخدج.
والحنون: المشتاق.
وحنّكته السن وأحنكته: أي أحكمته التجارب.
وازورّ عنه : أي عدل عنه.
وعاف الطعام والشراب: أي كرهه فلم يتناوله.
وعكف على الشيء: أي أقبل عليه مواظباً.
وخوّله الله الشيء: أي ملّكه إيّاه.
وبعثر عنه: أي كشف عنه.
وطمح بصره إلى الشيء: أي ارتفع.
والقبقب: البطن. والذبذب: الذكر. وقد لاحظ الشيخ فيهما أقوال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): من وقي شرّ لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي. واللقلق: اللسان.
والشجون: جمع شجن، وهو طريق الوادي.
والكد: الشدّة في العمل وطلب الكسب.
والغرض في هذا الفصل تمهيد العذر لمن يجوز أن يجعل الحق (تعالى) واسطة في تحصيل شيء آخر غيره ، وهو ممّن يتزهّد في الدنيا ويعبد الحقّ رغبةً في الثواب أو رهبةً من العقاب، ووجه العذر بيان نقصه في ذاته.
وفي عبارات الشيخ لطائف كثيرة، يتبيّن للمتأمّل فيها:
 منها: وصف اللذّات الحسّية بنقصان الخلقة، وهو نقصان لا يمكن أن يزول.
 ومنها: تشبيه مَن لم يقدر على مطالعة البهجة الحقيقية بالاعمى الذي يطلب شيئاً، فإنّه يعلّق يده بما يليه، سواء كان ما أعلق به يده مطلوباً أو لم يكن.
 ومنها: التنبيه على أنّ زهد غير العارف زهد عن كُره، مع كونه في صورة الزهّاد أحرص الخلق بالطبع على اللّذات الحسّية، فإنّ التارك شيئاً استأجل أضعافه أقرب إلى الطمع منه إلى القناعة.
 ومنها: نسبة همّته إلى الدناءة والضعة، فإن قوله : «لا مطمح لبصره» مشعر بأنّه أدنى منزلة من أن يستحقّ تلك اللّذات الخسيسة.
 ومنها: التعبير البالغ في تخصيص لذّة البطن والفرج بالذكر.
وقد ذكر في آخر الفصل أنّ هذا الناقص المرحوم، ينال ما يرجوه ويطلبه بكدّه من اللذات الحسّية، حسبما وعده الانبياء عليهم السلام»( [441]).
من هنا ذكر الشيخ في موضع آخر، أنّ غرض العارف وغير العارف من الزهد والعبادة متمايزان مختلفان، قال: «الزهد عند غير العارف معاملةٌ مّا، كأنّه يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة، وعند العارف تنزّه عمّا يشغل سرّه عن الحقّ، وتكبّر على كلّ شيء غير الحقّ.
والعبادة عند غير العارف معاملة مّا، كأنّه يعمل في الدنيا لاجرة يأخذها في الآخرة هي الاجر والثواب، وعند العارف رياضةٌ ما لهممه وقوى نفسه المتوهّمة والمتخيّلة، ليجرّها بالتعويد عن جناب الغرور إلى جناب الحقّ، فتصير مسالمة للسرّ الباطن حينما يستجلي الحقّ لا ينازعه فيخلص السرّ إلى الشروق الساطع، ويصير ذلك ملكة مستقرّة، كلّما شاء السرّ اطّلع إلى نور الحقّ، غير مزاحم من الهمم، بل مع تشييع منها له، فيكون بكليته منخرطاً في تلك القدس».
قال الطوسي في المقام: «الزهد والعبادة من غير العارف معاملتان، فإنّ الزاهد غير العارف يجري مجرى تاجر يشتري متاعاً بمتاع ، والعابد غير العارف يجري مجرى أجير يعمل عملاً لاخذ أُجرة، فالفعلان مختلفان، لكن الغرض واحد.
وأمّا العارف فزهده في الحالة التي يكون فيها متوجّهاً إلى الحقّ، معرضاً عمّا سواه، تنزّه عمّا يشغله عن الحقّ إيثاراً لما قصده، وفي الحالة التي يكون فيها ملتفتاً من الحقّ إلى سواه، تكبّر على كلّ شيء غير الحقّ استحقاراً لما دونه.
وأمّا عبادته، فارتياض لهممه التي هي مبادئ إرادته وعزماته الشهوانية والغضبية وغيرهما، ولقوى نفسه الخيالية والوهمية، ليجرّها جميعاً عن الميل إلى العالم الجسماني والاشتغال به إلى العالم العقلي، مشيّعة إيّاه عند توجّهه إلى ذلك العالم، وتصير تلك القوى معوّدة لذلك التشييع، فلا تنازع العقل ولا تزاحم السرّ حالة المشاهدة، فيخلص العقل إلى ذلك العالم، ويكون جميع ما تحته من الفروع والقوى منخرطة معه في سلك التوجّه إلى ذلك الجناب»( [442]).

شاهد أيضاً

اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم

11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...