الدرس الرابع
كيف أكون عبداً؟
“وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”1.
أ- في كنف الاية:
توضح لنا الاية أنا خلقنا لعبادة اللَّه وهي الهدف الأصلي، والسؤال الذي ينبغي الاجابة عليه، هل المراد من العبادة أداء المراسم والمناسك اليومية كالصلاة، أو الصوم وغيره من العبادات فقط، أو هي أمر آخر.
وللإجابة عن ذلك ينبغي معرفة كلمة العبد والعبودية.
فالعبد: هو الإنسان المتعلق بمولاه، وإرادته تابعة لإرادته، ولا يطلب شيئاً إلا تبعاً لطلب سيده، فهو لا يملك شيئاً، لأنه وما عنده ملك للمولى، وليس له أن يقصّر في طاعته أو يتمرد على أمره.
والعبودية: هي اظهار منتهى الخضوع للمعبود والتسليم له والطاعة بلا قيد ولا شرط والمعبود الوحيد الذي له حق العبادة على الاخرين هو الذي بذل منتهى الانعام والإكرام وليس ذلك سوى اللَّه سبحانه، فبناءً على ذلك العبودية هي قمة التكامل وأوج بلوغ الإنسان واقترابه من اللَّه والسير نحو الكمال المطلق وهو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ اللَّه الامتحان لبلوغه ومنحه العلم والمعرفة وجعل نتيجة ذلك فيض رحمته للإنسان.
1- الذاريات:56.
فمعنى أن أكون عبداً أي لا أقوم بأي فعل حتى أعلم حكم اللَّه فيه وأن لا تكون لي إرادة في مقابل إرادة الخالق وإنما لا أريد إلا ما أراده ولا أرى لنفس حولاً ولا قوة على شيء إلا بتوفيقه ومنّه، يقول مولانا الصادق عليه السلام لما سئل عن حقيقة العبودية: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد فيما خوّله اللَّه ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال اللَّه يضعونه حيث أمرهم اللَّه تعالى به، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره اللَّه تعالى به ونهاه عنه.. فهذا أول درجة المتقين2.
ب- شروط العبادة:
إن الشرط الأهم والأول هو معرفة اللَّه تعالى، لأنه كيف أعبد من لا أعرفه، وتتم هذه المعرفة عبر معرفة النفس في الحديث: من عرف نفسه فقد عرف ربّه، وأصل المعرفة توحيده سبحانه يقول الرضا عليه السلام: “أول عبادة اللَّه معرفته، وأصل معرفة اللَّه توحيده”3.
وأما سائر الشروط فقد جاء ذكرها في حديث المعراج: يا أحمد! هل تدري متى يكون لي العبد عابداً؟ قال: لا يا رب، قال: إذا اجتمع فيه سبع خصال:
1- ورع يحجزه عن المحارم.
2- وصمت يكفّه عما لا يعنيه.
3- وخوف يزداد كل يوم من بكائه.
4- وحياء يستحي مني في الخلاء.
5- وأكل ما لا بد منه.
6- ويبغض الدنيا لبغضي لها.
7- ويحب الأخيار لحبي إياهم4.
2- ميزان الحكمة، الحديث 11615.
3- م. ن، الحديث، 11614.
4- م. ن، الحديث 11613.
ج- أمور تأثر في العبادة:
الأول: الهوى
عن أمير المؤمنين عليه السلام “كيف يجد لذة العبادة من لا يصوم عن الهوى”5.
الثاني: حب الدنيا
عن المسيح بن مريم عليها السلام: “بحق أقول لكم إنه كما ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذه مع ما يجده من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب المال”6.
الثالث: الهمّ والغمّ
فيما أوحى اللَّه تعالى إلى داود عليه السلام: “ما لأوليائي والهمّ بالدنيا، إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون”7.
د- أنواع العبادة:
إن للعبادة أنواعاً حسب ما ورد على لسان أهل البيت عليهم السلام وهي ثلاثة:
1- عبادة التجار أو الأجراء.
2- عبادة العبيد.
3- عبادة الأحرار الكرام.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “إن قوماً عبدوا اللَّه رغبة فتلك عبادة التجّار، وإن قوماً عبدوا اللَّه رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا للَّه شكراً فتلك عبادة الأحرار”8.
والنوع الثالث هو أفضل العبادة التي كان عليها أئمتنا عليهم السلام يقول مولى المتقين عليه السلام: “ولكني أعبده حباً له عزّ وجلّ فتلك عبادة الكرام وهو الأمن لقوله عزّ وجلّ: “وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ”9 10، ويقول سيد الساجدين عليه السلام: “إني أكره أن أعبد اللَّه ولا غرض لي
5- غرر الحكم.
6- البحار، ج14.
7- م. ن، ج82.
8- م. ن، الحديث 11645.
9- النمل:89
10 م. ن، الحديث 11647.
إلا ثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطمع، إن طمع عمل وإلاّ لم يعمل وأكره أن لا أعبده إلا لخوف عقابه، فأكون كالعبد السوء، إن لم يخف لم يعمل، قيل: فلمَ تعبده؟ قال: لما هو أهله بأياديه عليّ وإنعامه”11 أي يعبده شكراً وطاعةً.
ه- متى لا تقبل العبادة؟
إن العبادة لا تقبل مع تضييع الحقوق وانتهاكها، كما في الحديث: “من اكتسب مالاً حراماً لم يقبل اللَّه منه صدقة ولا عتقاً ولا حجاً ولا اعتماراً، وكتب اللَّه عزّ وجلّ بعدد أجر ذلك أوزاراً، وما بقي منه بعد موته كان زاده إلى النار، ومن قدر عليها فتركها مخافة اللَّه عزّ وجلّ دخل في محبة اللَّه عزّ وجلّ ورحمته ويؤمر به إلى الجنة”12.
و- من يعبد غير اللَّه؟
عن الصادق عليه السلام: “ليس العبادة هي السجود والركوع، إنما هي طاعة الرجال، من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده”13.
لذلك من يخضع ويأتمر بأوامر أهل الدنيا من الزعماء والسلاطين يعبد غير اللَّه، وفي المقابل من يلتزم بالتكليف الصادر من الولي الفقيه ويصغي له ويطيعه فإنما يطيع اللَّه بذلك ويمتثل أمره بالرجوع إليه ولا يجوز له الردَّ عليه كما جاء في الحديث: “فإذا حكم بحكمنا، فلم يقبل منه، فإنما استخف بحكم اللَّه وعلينا ردّ، والراد علينا كالراد على اللَّه”14.
من هنا نفهم أن الذي يخالف التكليف الشرعي لا يكون عبداً حقيقياً وإنما يكذب على اللَّه ورسوله والعترة الطاهرة عليهم السلام.
11- البحار، ج70، ص210.
12- أعلام الدين، ص414.
13- البحار، ج72، ص94.
14- الوسائل ج18، ص99.
من فقه الإسلام
س: ما هو حكم المشاركة في المجالس التي ربما يبتلي الإنسان فيها بسماع كلام غير مناسب من قبيل الافتراءات على المقامات الدينية أو على المؤمنين؟
ج: مجرد الحضور ما لم يستلزم الابتلاء بفعل الحرام كاستماع الغيبة ولا ترويج وتأييد عمل المنكر لا مانع منه في نفسه ولكن النهي عن المنكر واجب في كل الأحوال.
س: هل يجوز الحضور في المحافل التي يبث فيها الغناء؟ وما الحكم في حالة الشك إنه غناء أو لا؟
ج: لا يجوز الحضور في مجلس الغناء والموسيقى المطربة اللهوية المناسبة لمجالس اللهو والعصيان إذا أدى ذلك للاستماع إليها أو إلى تأييدها، وأما مع الشك في الموضوع فلا بأس في الحضور والاستماع في نفسه15.
س: ما هو حكم تقليد الغرب في قصّ الشعر؟
ج: المناط في حرمة ما كان من هذا القبيل كونه تشبهاً بأعداء الإسلام وترويجاً لثقافتهم، وهذا يختلف باختلاف البلاد والأزمنة والأشخاص وليس للغرب خصوصية في ذلك.
س: ما هو حكم لبس ربطة العنق والقبعة؟
ج: لا يجوز لباس ربطة العنق وشبهها مما يكون من لباس وزي غير المسلمين بحيث يؤدي إلى نشر الثقافة الغربية المعادية ولا يختص الحكم بمواطني الدولة الإسلامية.
س: ما هو حكم بيع الصور والكتب والمجلات التي تحاول ايجاد جو ثقافي فاسد وغير إسلامي خصوصاً بين الشباب؟
ج: لا يجوز شراء وبيع وترويج مثل ذلك مما يهدف إلى انحراف الشباب وافسادهم ويسبب أجواء ثقافية فاسدة ويجب التحرز والاجتناب عنها16.
15- أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص119.
16- م. ن، ص104 103.
خلاصة الدرس
أ- العبودية هي منتهى الخضوع والتسليم للخالق المنعم سبحانه وليس المراد منها الصلاة والصوم فقط، بل الانقياد التام للوصول إلى الكمال، وعدم القيام بأي فعل دون معرفة حكم اللَّه فيه.
ب- الشرط الأول للعبادة هو معرفة اللَّه وتتم بمعرفة النفس وأصل المعرفة التوحيد.
ج- إن هناك أموراً تفقد العبادة أثرها منها: الهوى وحب الدنيا والهمّ والغمّ.
د- العبادة ثلاثة أنواع: عبادة التجار وعبادة العبيد وعبادة الأحرار.
ه- لا تقبل العبادة مع تضييع الحقوق وأكل المال بالباطل.
و- طاعة المخلوق الذي تحرم طاعته عبادة لغير اللَّه وطاعة من تجب طاعته كولي الأمر طاعة للَّه.
أسئلة حول الدرس
1- ما هي حقيقة العبودية؟ 4- ما هي أنواع العبادة؟
2- ما هي شرائط العبادة؟ 5- كيف تكون العبادة غير مقبولة؟
3- ماذا يؤثر في العبادة؟ 6- كيف يعبد الإنسان غير اللَّه؟
للحفظ
“يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون”17.
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:
“اعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”18.
17- البقرة:21.
18- ميزان الحكمة، الحديث 11627.
للمطالعة
لو كان عبداً لاستحى من اللَّه!
بِشْر الحافي اسم عرفته بغداد بالسكر والغناء وملاحقة الأعراض أزعج الناس وأتعبهم إلى أن شكوه إلى الإمام الكاظم عليه السلام فقرّر الوقوف على حقيقة الأمر بنفسه وقبل أن يصل الإمام عليه السلام إلى داره انفتح الباب فخرجت جارية حسناء، بيدها طبق مليء ببقية الفواكه التي توضع عادة على مائدة الخمر تريد رميها في الخارج فسألها الإمام قائلاً: “لِمن الدار”.
قالت: الدار لسيدي، قال الإمام: “سيدكِ حر أم عبد”؟ قالت: لا.. بل حر!
قال عليه السلام: “صدقتِ لو كان عبداً للَّه لاستحى من اللَّه”.
فنزلت الكلمة كالصاعقة على قلب الفتاة فعادت داخل الدار ترتجف فسألها بشر: ما بالكِ ترتعدين هكذا؟ فقالت: إن رجلاً عليه سمة الإيمان والصلاح قال لي: كذا وكذا.. ولما وصفته عرف بشر أنه الإمام الكاظم عليه السلام فخرج من داره مسرعاً في أثر الإمام حتى أدركه وسط الطريق وتعلق بأذياله قائلاً: سيدي كيف تقول أنني لست عبداً للَّه؟ أجابه الإمام في هدوء وحزم: “لو كنت عبداً للَّه لخفت اللَّه، ولكنك لم تعبد اللَّه وإنما عبدت شهواتك وأهوائك”.
إن العبودية للَّه هي أن تخشى اللَّه وتتوب إليه ولا تلطّخ نفسك بالمعاصي وفعلت هذه الكلمات فعلتها في قلب بشر فتساقط على قدمي الإمام يقبلها ويمرغ وجهه بالتراب والدموع تجري من عينيه وهو يقول: أنا تائب، أنا تائب، سيدي هل ترى لي من توبة؟!
قال عليه السلام: “أجل إن تبت تاب اللَّه عليك”. وبالفعل تحوّل بشر إلى أكبر عابد وأعمق زاهد في بغداد لا تخلو منه المساجد وصار ينادى بين الناس بالشيخ بشّار.