لكن من هو الزاهد والعابد والعارف؟ قال الشيخ في بيان ذلك: «المعرض عن متاع الدنيا وطيّباتها يخصّ باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخصّ باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديماً لشروق نور الحقّ في سرّه، يخصّ باسم العارف، وقد يتركّب بعض هذه مع بعض»( [443]).
إلاّ أنّ العارف أيضاً له درجات ومقامات، كما أنّ العابد والزاهد كذلك، لذا قال: «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني، ومن وجد العرفان كأنّه لا يجده، بل يجد المعروف به فقد خاض لجّة الوصول، وهناك درجات ليست أقلّ من درجات ما قبله، آثرنا فيها الاختصار، فإنّها لا يفهمها الحديث، ولا تشرحها العبارة، ولا يكشف المقال عنها غير الخيال. ومن أحبّ أن يتعرّفها فليتدرّج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة، ومن الواصلين إلى العين دون السامعين للاثر».
وأوضح الطوسي هذا المقطع بقوله: «العرفان حالة للعارف بالقياس إلى المعروف، فهي لا محالة غير المعروف، فمن كان غرضه من العرفان نفس العرفان، فهو ليس من الموحّدين، لانّه يريد من الحقّ شيئاً غيره، وهذه حالة المتبجّح بزينة ذاته وإن كان بالحقّ.
أمّا من عرف الحقّ وغاب عن ذاته، فهو غائب لا محالة عن العرفان الذي هو لذاته، فهو قد وجد العرفان كأنّه لا يجده، بل يجد المعروف فقط، وهو الخائض لجّة الوصول أي معظمه.
وهناك درجات هي درجات التحلية بالامور الوجودية التي هي النعوت الالهية، وهي ليست بأقلّ من درجات ما قبله، أعني درجات التزكية من الامور الخلقية التي تعود إلى الاوصاف العدمية. وذلك لانّ الالهيات محيطة غير متناهية، والخلقيات محاط بها متناهية، وإلى هذا أشير في قوله عزّ من قائل: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي…) فالارتقاء في تلك الدرجات سلوك إلى الله، وفي هذه سلوك في الله، وينتهي السلوكان بالفناء في التوحيد.
واعلم أنّ العبارة عن هذه الدرجات غير ممكنة، لانّ العبارة موضوعة للمعاني التي يتصوّرها أهل اللغات، ثمّ يحفظونها ثمّ يتذكّرونها ثمّ يتفاهمون بها تعليماً وتعلّماً. أمّا التي لا يصل إليها إلاّ غائب عن ذاته فضلاً عن قوى بدنه، فليس يمكن أن يوضع لها ألفاظ فضلاً عن أن يعبّر عنها بعبارة، وكما أنّ المعقولات لا تدرك بالاوهام، والموهومات لا تدرك بالخيالات، والمتخيّلات لا تدرك بالحواس، كذلك ما من شأنه أن يعاين بعين اليقين فلا يمكن أن يدرك بعلم اليقين، فالواجب على من يريد ذلك أنّ يجتهد في الوصول إليه بالعيان، دون أن يطلبه بالبرهان.
فهذا بيان ما ذكره الشيخ، واستثنى الخيال في قوله: (ولا يكشف عنها المقال غير الخيال) لما سيبيّن في النمط العاشر، وهو أنّ العارفين إذا اشتغلت ذواتهم بمشاهدة عالم القدس فقد يتراءى في خيالاتهم أمور تحاكي ما يشاهدونه محاكاة بعيدة جدّاً»( [444]).
وهذا هو معنى قول العرفاء: «إنّ المكاشفة طور وراء طور العقل»( [445]).
يقول صدر المتألهين: «لا يجوز في طور الولاية ما يقضي العقل باستحالته، نعم، يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقصر العقل عنه، بمعنى أنّه لا يدرك بمجرّد العقل، ومن لم يفرّق بين ما يحيله العقل وبين ما لا يناله، فهو أخس من أن يخاطب فليترك وجهله»( [446]).
وقال أيضاً: «ثمّ إنّ بعض أسرار الدين وأطوار الشرع المبين، بلغ إلى حدّ ما هو خارج عن طور العقل الفكري، وإنّما يعرف بطور الولاية والنبوّة، ونسبة طور العقل ونوره إلى طور الولاية ونورها، كنسبة نور الحس إلى نور الفكر، فليس لميزان الفكر كثير فائدة وتصرّف هناك»( [447]).
لذا قال الطباطبائي أنّ: «الذين يحاولون بيان المعاني الشهودية من خلال القوالب اللفظية والعبارات اللغوية، فهم كالذين يريدون بيان الالوان المختلفة للذي ولد من بطن اُمّه أعمى، فيحاول أن يدرك المعاني المرتبطة بالباصرة من خلال القوّة السامعة»( [448]).
شاهد أيضاً
اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم
11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...