الإيمان واللقاء
الإيمان هو من شؤون البشر وميولهم التي خلقت معهم، فأن نقول “إنسان” فهذا يعني أنّنا أمام كائن يمتلك ميلاً طبيعياً نحو الإيمان بشيء ما، فلا يخلو إنسان من هذا الميل أو الشعور. والإيمان هو نوع من الإذعان أو التّسليم لحقيقة أو لشيء نعتقد أنه حقيقة، والنّفس التي تؤمن به تعيش حالة من الخضوع أو التّسليم له. والإيمان في الإسلام يقابل الكفر وهو الذي يكون حساب البشر في يوم القيامة على أساسه، وهو الإيمان بالله الواحد الأحد الذي خلق كلّ شيء وهو ربّ العالمين. فالإيمان
الإسلامي يختلف عن أيّ إيمان آخر، وبمعرفته يمكن أن نقول إنّ كلّ إيمان آخر هو الكفر الحقيقيّ الذي سوف يظهر في يومٍ من الأيام.
لقد خلق الله الإنسان لكي يصل إلى هدفٍ واقعيّ تتحقّق عنده سعادته المطلقة وكماله النهائي، وهو لم يطالبه بالإيمان إلا لدخالته في تحقّق الهدف النهائي. ويمثّل لقاء الله ودخول جنّته هذه السعادة المطلقة التي هي هدف الإنسان ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ ، وما لم يدخل هذا الإنسان إلى الجنّة فهو من أصحاب النار والشّقاء الأبدي. وبمراجعة الآيات التي تحدّثت عن شروط الفوز بالجنّة والنّجاة من العذاب، نجد أنّ الإيمان بالله عزّ وجلّ هو العامل الأساسيّ بل الوحيد، لأن كلّ العوامل الأخرى لا تقف إلى جانبه بل تنبع منه ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ . وكذلك إذا راجعنا جميع الآيات التي تحدّثت عن سبب الدّخول إلى جهنّم والعذاب الإلهي والحرمان من لقاء الحق تعالى، نجد أنّ السّبب الوحيد هو الكفر بالله سبحانه ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ . وسرّ ذلك أنّ الإيمان والكفر هما الموجّه لمسيرة الإنسان فما يؤمن به الإنسان ويعتقد به هو الذي سيكون هدفه النهائي، وأولئك الذين آمنوا بالله حقاً، وتوجّهوا إليه وطلبوه، وسلكوا الطريق المؤدّي إليه، كانت عاقبتهم الوصول إليه ودخول جنّته التي هي مقام لقائه. فلا إمكانية للوصول إلى هذه المنزلة الرّفيعة إلا بعد الإيمان به تعالى وبإمكانية لقائه ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ﴾ ، ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ . والقرآن الكريم يحدّثنا ويؤكّد لنا على أنّ سعادة الأفراد والمجتمعات تكمن في إيمانها، وأنّ شقاءهم حاصل كفرهم، فالخير يبدأ من الإيمان وينمو معه، والشرّ مستبطن في الكفر ويستشري به. أمَا أولئك الذين آمنوا بغير الله الواحد الذي بيده كلّ خير، فسيتحرّكون نحو كمالات وهميّة، وأشياء يظنّون الخير فيها والسعادة المنشودة منها، ولكنّهم في النهاية سيدركون أنّ ما آمنوا به لم يكن الإله الحقيقيّ أصل كلّ خير ومفيض كلّ نعمة.
ولا شكّ أنّ الإيمان وحده لا يكفي للوصول إلى السعادة، فالإيمان إذا لم يصل إلى درجةٍ يحرّك معها الإنسانَ نحو مفيض الخير والكمال فإنّه لن يكون مؤثّراً. بل الإيمان الذي يولّد السّعي هو الذي سيكون مؤثّراً، وأعظم أثرٍ للإيمان الواقعي هو أنّه يجعل قلب صاحبه متوجّهاً ومقبلاً إلى الله سبحانه وتعالى، بينما يكون الكفر إعراضاً وإغلاقاً لهذا القلب
أمام كلّ خير وسعادة ينشرها الرحمن في عباده ومخلوقاته. إذاً، ما ينبغي أن يتعلّق به الإيمان ليكون إيماناً إسلاميّاً، هو الإله الذي بيده كلّ خير وكمال وسعادة يصبو إليها الإنسان.
وهذا هو التّوحيد ومعنى أن يكون المرء موحّداً. فالتوحيد ليس مجرّد اعتقاد بأنّ الله خالق كلّ شيء وأنه لم يشرك معه أحداً في خلقه، بل يعني أيضاً الاعتقاد بأن كلّ خير نريده أو نحتاج إليه فهو موجود عند الله، وعلينا أن نطلبه منه. ونفس هذا الاعتقاد يعدّ درجةً من درجات الإيمان، وهو إذا استولى على قلب الإنسان، فأخرج كلّ ما ينافي هذا الاعتقاد الحقيقيّ من قلبه، فإنّ صاحبه يصل إلى أعلى درجات الإيمان. لأنّ الإيمان الكامل هو الذي يكون القلب معه لله وحده دون سواه،
فتكون جميع تحرّكات هذا الإنسان إلهية، وعندها يصبح في أعلى درجات الاستعداد لاستقبال ألطاف الحق ومواهبه السنيّة.
وأمّا الوسيلة الفضلى لنيل هذه الدرجة من الإيمان وتعميقها وترسيخها في القلب فهي العمل الصّالح ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ . وأهمّ هذه الأعمال المقرّبة إلى الله والهادية إليه الهجرة والجهاد في سبيل الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ .