المؤمن يُوَبَّخ ويُعَاتَب
تكفّلت هذه الآية توبيخاً مغلّظاً واستنكاراً عالي اللهجة للمؤمنين: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ .
والسبب في ذلك: اشتمال بعضهم على أخلاق وصفات بطبيعتها تُبعِد المرءَ عن الله تعالى، وهي: قولهم: ما لا يفعلون.
وهذه أَخلاق لا تتلاءم مع المؤمن الَّذِي يعيش دوماً في محضر الله… فإنَّ العالَم كلَّه في محضر الله… والذي يفترض به أن لا يكون غافلاً عنه تعالى، وأنْ يكون شاعراً بمعيّته له، وأنّه تعالى معه في كلّ حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله، قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ .
– أليس من أَحبّ شخصاً كان دائم التفكير فيه؟!
– ألا يسعى دوماً لجعل أفعاله مطابقةً لما يقرّبه من محبوبه؟!
– هل يحسن أن يتكلّم بكلام يجعل المحبوبَ يُعرضُ عنه ويَحْرَدُ عليه؟!
– أبداً… هذا بعيدٌ من ساحة العشق.
إذاً، فما بالُ بعضنا يلتزم على نفسه أمامَ الله وأمامَ الناس، ثمّ لا يلبث أنْ يتراجع عمّا قال هل يبغي من عمله هذا معاداة الله؟!
أيّها العزيز!
إِنَّ من السّمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التّام بين أقواله وأفعاله، وكلّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل كان أبعدَ من حقيقة الإيمان.
عتبُ الله تعالى على المؤمن بقدر محبّته له
من الغريب حقّاً والملفت للنظر طريقة مخاطبة الله تعالى الشريحةَ الواسعةَ مِمَّن آمن به واعترف بألوهيته وأقرَّ بعبوديته. فإنّ الحقّ تعالى اسمه قد صدّر بما يربط ويجمع بين الله والمؤمنين، وبما يُمَتِّن العلاقة بينهما، فخاطبهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، مقدّماً في خطابه محاسن العباد، وحسناتِ أفعالهم، ومعترفاً بالقَدْر الَّذِي أَتَوا به اتّجاه خالقهم ومربِّيهم من الإيمانِ به عزّ اسمه.
ثُمّ عقَّب بعد هذا بذكر ما قاموا به مِمَّا كان موضعَ سخطه، ومحطّ غضبه، ومعرضَ توعّده وتهديده مستنكراً عليهم: ﴿أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، فإنَّه ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾, فهو من الأعمال الممقوتة والمبغوضة لديه تعالى بغضاً شديداً، وفاعله مستحقُّ جنهّم.
ولعلّ السرّ في تقديم المحاسن على قبائح الأفعال أمران:
الأوّل: إِنَّ القرآن الكريم لمّا كان كتابَ هداية وتربية يعمل على تغذية الروح وتربيتها كما يعمل على تغذية الفكر والعقل، هَدَفَ من خلال هذا التوبيخ المغلّظ أنْ يقول لهؤلاء المؤمنين: يا أيُّها الَّذِين يُفترض أَنَّكم آمنتم بي!
لا تتعرّضوا لسخطي وغضبي…
لا تتشبّهوا بأهل النفاق الَّذِين يقولون ما لا يفعلون, فإنّ لأهل الإيمان سلوكاً وعلامات، ولأهل النفاق سلوكاً وعلامات، وإنّما يستدلّ على الصالحين بعلاماتهم وسلوكهم، وعلى المنافقين بعلاماتهم وسلكهم، والتي منها: أنْ يقولوا ما لا يفعلون.
ناداهم بوصف الإيمان تعريضاً بأنَّ الإيمان من شأنه أنْ يردع المؤمن عن أنْ يخالفَ فعلُهُ قولَه فيما وعد به من خير وإحسان والتزام تجاه الفرد أو المجتمع.
الثاني: الإشارة إِلَى معنى خفيّ ولطيف, وذلك أَنَّ الإنسان في مسيرته في الحياة ربما يتعثّر، أو يخطئ هنا أو هناك، بل ربّما يتعمّد في بعض الأحيان.
وكلّ ذلك لا ينبغي أنْ يجعلنا نتناسى الماضي، وما قدّمه من خير وعمل صالح، بل لا بدّ من تذكيره بماضيه الإيماني، والصلاح الَّذِي كان عليه قبل مساوئ الأخلاق وذميم الصفات, أيْ على قاعدة: (إنْ كان ولا بدّ، فاسقه ماءً ثمّ اذبحه).
في التوبيخ والعتاب صلاح أولى الألباب
كما أَنَّ الخضر عليه السلام خرق السفينة وكان في ذلك صلاحُ حال أهلها، واستقامة أمورهم، كذلك الآية المباركة تهدف من خلال هذا التعنيف والتوبيخ والخرق المعنوي لسفينة النفس الأمارة بالسوء، أنْ تصلح حال العباد، فيما يرتبط بأمور دنياهم وآخرتهم.
قال العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير الميزان:
“والصالحون من هؤلاء المؤمنين إِنَّما صَلُحوا نفساً، وجَلُّوا قَدْراً بالتربية الإلهية التي تتضمّنها أمثال هذه التوبيخات والعقابات المتوجهة إليهم تدريجاً، ولم يتّصفوا بذلك من عند أنفسهم” .
فإنّ المؤمن يُصنعُ على عين الله تعالى وتحت نظره، يرعى مولاه شؤونه، ويربّيه على حدّ قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ .
إلهي، خصّني برحمةٍ من عندك جامعةٍ مانعةٍ، أبلغ بها خيرَ الدّنيا والآخرة.
من أين لي النجاة يا ربّ ولا تُستطاع إِلَّا بك…
إلهي، أصلح حالي، أفعالي وأقوالي…