مجدداً تعجز ويكيليكس عن مفاجأة الكثيرين، لم ينخدع هؤلاء للحظة واحدة بطبيعة إرتباط جملة من الإعلام والساسة العرب بالولايات المتحدة ومملكة آل سعود. هذه العلاقة بين قوة هيمنة ونخب محلية ليست أمراً مستحدثاً، علاقة تبعية وإرتزاق يجري إلباسها ثوباً عقلانياً وتقديمها من باب “تقاطع المصالح”، “المصالح المشتركة”، أو “الإنسجام الثقافي”. إلا أن غياب الدهشة لا ينفي أهمية الوثائق الأخيرة المنشورة عبر موقع ويكليكس والتي تخص وزارة الخارجية السعودية، إذ الوثيقة أقوى من القرينة. في جردة سريعة لنتائج ودلالات لما ظهر حتى اللحظة من الوثائق المنشورة يمكن الإشارة للتالي:
1- سيتصاعد إهتمام الدول والمنظمات بتحصين “الأمن المعلوماتي” نتيجة حجم المخاطر المترتبة على إختراق هذا الأمن، بما يعرض جملة من أسرار الدولة للإنكشاف ما يؤدي للمس بالأمن الإستراتيجي والمجهود الإستخباري وكذلك بالصدقية والصورة أمام الرأي العام.
2- تكرس هذه الإختراقات مقولة “من يملك المعلومات يملك كل شيء”، ولذا سيخصص اللاعبون السياسيون مزيد من الموارد للحصول على معلومات إلكترونية لقوى أخرى، بما يشير الى تسعير حروب السايبر، التي ستؤجج الصراعات والتوترات خارج المجال الإفتراضي. هي إذا حقبة ” the cool war”.
3- اغلب صراعات الشرق الأوسط حالياً، هي حروب “وكالة” تعكس صراعاً بين قوى كبرى، إٌقليمية ودولية. في ظل غياب القضية المحقة والموقف الأخلاقي لواشنطن والرياض، يجهد الكثير من أدواتهم في المنطقة لإخفاء إرتباطهم بهذا المشروع، ويستعيضون عن ذلك بتبرير مواقفهم من منطلقات أخلاقية وسياسية، فيما تظهر التسريبات أن الخلفيات تتراوح بين الحقد والإرتزاق.
4- جزء من فعالية الحملات الإعلامية المعادية للمقاومة كان في قدرتها على الظهور كلاعب محايد يعبر عن هواجس شريحة من الجمهور، أي كانت هذه الجهات الإعلامية تتمتع بقدر من المصداقية والمشروعية بلحاظ الشريحة الرمادية (الجمهور المتردد) على الأقل. اليوم تخسر هذه الجهات التي طالتها خفايا ويكيليكس، الكثير من حصانتها الأخلاقية والمهنية أمام الجمهور “الرمادي”، وتصبح رسالتها الإعلامية بالتالي خاضعة للشك والريبة.
5- تُظهر الوثائق إعلاميين ووسائل إعلام متمرسة بخطاب حقوق المرأة والحريات والديموقراطية والإستقلال وحب الحياة والثقافة الغربية، غير أنها تستجدي المال والمعونة وما ترتبه من “رد جميل” وتبعية لأكثر القوى ظلامية في التاريخ الحديث. مملكة آل سعود هي النقيض الكامل لما يدعيه بعض الليبراليين العرب من قيم، إلا أنهم لا يخجلون من “الحبو” على أعتاب عرش “المقام السامي”.
6- يتضح من الوثائق وجود ما يمكن تسميته “إقتصاد العداء لإيران” إذ يعمد كثيرون الى إختلاق أخبار ومعلومات وتحليلات حول “خطر إيران” و”تمدد النفوذ الإيراني” وذلك من باب إبتزاز السعوديين والتلاعب بهم لتحصيل دعم مالي لمشاريع إعلامية وسياسية. إعلاميون وسياسيون يتاجرون بدماء شعوب المنطقة من خلال إذكاء النار المذهبية إستجلاباً للمال والسلطة والمنفعة.
7- تظهر الوثائق حرصاً وقلقاً سعودياً بل وهلعاً بخصوص صورتها خارج المملكة. يتتبع سفراء المملكة كل حرف أو نشاط يمكن أن يكشف المملكة سواء تعلق الأمر بأشخاص الملوك والأمراء وحياتهم الشخصية، أو بتاريخها، أو سياساتها، أو مواقفها. يدرك النظام السعودي مدى إحتقار العالم له، في الغرب والشرق، ولذا يجهد لخلق تصورات بديلة، مستعيناً بشركات للعلاقات العامة وإمبراطوريات إعلامية. والحرص السعودي بخصوص صورته متجه نحو الغرب بالتحديد، الغرب الذي يُدرك آل سعود أنه الضمانة الأساسية لوجودهم، ولذا بحاجة لخوض حملات تسويق دائمة ومستمرة لنظامهم، بما يضمن تخفيض التكلفة الشعبية والسياسية لأي جهة غربية تدعم نظام المملكة.
8- يبرز أيضاً إهتمام السعوديين “المرضي” بأصغر التفاصيل الإعلامية في لبنان، هذه الدولة الإقليمية يهزها مقال او تقرير، يخشى الوحش من المرآة. يمكن القول أن السعودي هو المستثمر الأكبر في الإعلام اللبناني، بالتأكيد أن هناك دورة إقتصادية كاملة ناتجة عن الرشى المالية السعودية في قطاع الإعلام اللبناني. هذه العدوانية التي يبديها إعلاميون تجاه المقاومة وإيران، هي إنعكاس إرتباط ذلك “بلقمة العيش”، البعض يعتاشون ويترفهون من هذا الحقد والسم.
9- رغم كل الموارد المبذولة إلا أن آلية العمل السعودية معطوبة، إذ يبدو غياب رؤيا سعودية لصالح حضور ردود فعل وإنفعالات، أي لا إستراتيجية بعيدة الأمد. من جهة حلفاء المملكة، تسود بينهم الضغينة والمنافسة، يعملون بقدر الحاجة للمال، مصالحهم متعارضة، وفي ظل ضعف الإدارة السعودية في لبنان يخلق ذلك توترات مستمرة وإرباك بشأن تعريف المصالح السعودية والعمل لتحقيقها. وأيضاً رغم حصول السفارة السعودية على كم كبير من المعلومات، إلا أنها من النوع السيء، إذ يبدو أنه بفعل التعطش للمال، يفبرك مخبرو السفارة ما تيسر من أكاذيب ومبالغات عن حزب الله وسوريا وإيران، وثم تقديمها كإنجاز أمنى للسفير.
نحن في حالات كثيرة لسنا أمام إعلاميين وساسة “مزيفين” بل “مرتزقة”، والفارق بين الإثنين يوضحه باسكال بونيفاس في كتابه “المثقفون المزيفون”. فالمزيفون قد يؤمنون بقضية ولكن يدافعون عنها بطرق ملتوية وغير شريفة أي يصنعون عملة ثقافية مزورة، فيما المرتزقة لا يؤمنون بشيء سوى أنفسهم، يصطفون مع القضايا ليس لصحتها بل لإعتقادهم أنها تبدو واعدة ومربحة وتسير في إتجاه الريح السائدة.