الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / من قصص القرآن الكريم آصف بن برخيا صاحب سليمان(ع)

من قصص القرآن الكريم آصف بن برخيا صاحب سليمان(ع)

النموذج القرآني في قصّة آصف بن برخيا صاحب سليمان(ع)
قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ..}، إنّما كان سليمان حريصاً على السرعة الخاطفة في إحضار عرش بلقيس لإظهار مقام آصف وأنّه وصيّه والإمام من بعده، كذا جاء في الروايات عنهم (عليهم السلام).

1

ويعاضده سياق الآيات. والإتيان بالوصف {عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} مشعر بالعلّية، وأنّ الوصف هذا هو الذي أهّله للقيام بهذا العمل.
وآصف ليس نبيّاً بالاتّفاق، فتدلّ الآية على توفّر غير الأنبياء أيضاً على علم لدني وهو خاصّ، وصنّف هذا العلم بعلم الكتاب وهو علم مرتبط بالأديان، وبالدقّة: علم السنن الإلهية الكونية والشريعة بحسب التكوين.

5
وقد جاءت أوصاف العلوم اللدنية في الروايات متنوّعة: علم الكتاب، فصل الخطاب، علم الوصايا، علم الأصلاب، علم شهادة الأعمال، علم المنايا والبلايا، علم التأويل، علم تأويل الأحاديث، منطق الطير، وغيرها..
كما ألفت القرآن إلى علم الكتاب في مواضع متعدّدة:
أ – قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعًا..}(1)، وقد نزلت الآية في كفّار قريش الذين طالبوا الرسول (صلى الله عليه وآله) بأن يقوم بتسيير الجبال المحيطة بالبيت الحرام بعيداً، ويقطّع الهضاب في مكّة كي تصير الأرض سهلة زراعية كأرض الشام وتذهب حزونتها، ويحيي لهم موتاهم ممّن مضى، إلاّ أن القرآن ذكر أنّ المطلوبات ثلاثة لو أُنجزت بالقرآن لا بالمصحف الشريف المقدّس لما آمنوا، فهذه الآية دالّة على أنّ هذه الأُمور ممّا يمكن تحقّقها بحقيقة القرآن إلاّ أنّه تعالى لم يأذن لنبيّه (صلى الله عليه وآله) بتحقيقها وإيجادها بتوسّط ما لديه من حقيقة القرآن; لأنّ مشركي قريش لا يفون بشرطهم باستجابتهم للإيمان، ممّا يكشف عن أنّ هذه الأُمور تحصل بالقرآن، سوى أنّه لم يحصل لأنّه لا يؤدّي إلى وفائهم وإيمانهم.

4ab76609ed
ب – قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}(2)، فالخشية ههنا عظيمة، ومن ثمّ جاء: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، ومن الواضح أنّ نفس المصحف الشريف لو وضع على جبل لا يوجب تصدّعه، فمن الواضح أنّ المراد هو نزول حقيقة القرآن على الذات الحقيقية الخفية للجبل، حيث يثبت القرآن الكريم للأشياء الجامدة ذاتاً خفية وراء أجسامها، كقوله تعالى: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء}(3)، و {وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(4)، ممّا يثبت أنّ لذوات الأشياء إدراك وشعور.
جـ – وفي آيات أُخرى قال تعالى: {آتَانِيَ الْكِتَابَ}(5) وما أشبه، دالّة على مؤهّلات النبيّ الظاهرة في أنّ إيتاء الكتاب غير جعل النبوّة، وإنّما هو مقام غيبي آخر وعلم لدني قد يقترن بالنبوّة.
د – قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(6)، وقوله تعالى: {مَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(7)، الدالّ على أنّ كلّ شيء مستطرّ في الكتاب والكتاب المبين، فالذي لديه علمه يحيط بذلك أو لديه بعضه فيحيط بقدر منه.
والقرآن هو الكتاب كما ورد في الواقعة وهي قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون}(8)، وكذا في سورة الدخان وهي قوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ..}(9)، وغيرها من السور الدالّة. وقد منح شطر من العلم المزبور لآصف بن برخيا.
ونرجع دفّة الكلام إلى أصل القصّة وبدايتها من قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلاَُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}(10).
یازار در ملک سلیمانوالمفاد الأوّلي لهذه الآية: أنّ جليس سليمان لم يصفه القرآن بأنّه نبيّ ولا مرسل، بل لديه علم من الكتاب، في حين يثبت له القرآن الكريم علم غير كسبي.
ثمّ يستفاد من الآية أُمور:
أوّلاً: إنّ جليس سليمان الذي هو آصف بن برخيا – والذي عليه الفريقان – لم يكن نبيّاً ولا مرسلاً مع ذلك زوّد بعلم لدني غير كسبي، ممّا يعني أن هذا العلم لا يختصّ بنبيّ ولا رسول، بل تعلّق بغيرهما، ولكونه حجّة من الحجج الإلهية.
ثانياً: إنّ علمه لدني غير كسبي، ودليل ذلك:
1 – وصفه القرآن الكريم بأنّه علم من الكتاب توطئة لبيان القدرة على المجيء بعرش بلقيس، والوصف دخيل في العلّية، حيث وصف علمه بعلم الكتاب، فالعلّة والسبب لهذا الفعل هو العلم غير الكسبي بل اللدني كما يقال في علم البلاغة والبيان الوصف مشعر بالعلّية.
2 – إنّ آصف بن برخيا مؤهّل لهذه المهمّة الإلهية التي تُعدّ إحدى المقامات العالية التي لا ينالها إلاّ أهلها، ممّا يعني أنّ آصف بن برخيا في درجة من الطاعة والعبودية يستحقّ عندها الاصطفاء لهذه الحبوة الكريمة.

آصف بن برخیا در ملک سلیمان
على أنّ الكتاب المشار إليه في الآية لم يكن هو الكتاب الخطّي المنقوش، بل هو الكتاب الحقيقي الملكوتي الذي يهيمن على النشآت الأُخرى، لذا ورد لفظ الكتاب في القرآن الكريم في عدّة موارد مشيراً إلى هذه الحقيقة، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(11)، وقد أشارت إلى ذلك سورة الواقعة في قوله تعالى: {فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(12)، وفي سورة الرعد وصف لهذا الكتاب: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعًا..}(13)، وكما في سورة الحشر قوله تعالى:

 

images7{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}(14)، فالإنزال المشار إليه هو إنزال ملكوتي حقيقي، وليس هذا المصحف المنقوش بل بوجوده اللدني الملكوتي. ومن آثار هذا العلم اللدني إمكانية حامله بإتيان عرش بلقيس قبل أن يرتدّ الطرف، وهي قدرة خارقة عجيبة حاز عليها آصف بن برخيا بتحمّله هذا العلم الإلهي الذي هو بعض ذلك العلم، لتنكير كلمة (علم) الواردة في الآية ولفظة (من) ممّا يشير إلى أنّ آصف حُبي ببعضه فقط.
كما يجب التنويه إلى أنّ وجود علم الكتاب عند غير الأنبياء دليل تشريك في المسؤولية والحجّية بينهم وبين مَن عنده علم الكتاب وهم الحجج.
وبانتظام ومطابقة بين علم الكتاب في سورة الرعد وعلم الكتاب في سورة الواقعة يُتنبه إلى حقائق:
الأُولى: إنّ سوراً عديدة تفسّر الكتاب المبين بالقرآن، كما هو عليه سورة الدخان في قوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(15)، والتنزيل إشارة إلى أنّ المنزّل هو ذلك القرآن الذي وصفته الآية بالكتاب المبين، وكما في سورة الواقعة عند قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون}(16)، وقوله تعالى في سورة النمل: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(17)، ممّا يعني أنّ الكتاب المشار هو القرآن الكريم.
الثانية: إنّ الكتاب تارةً يُطلق على جنس الكتاب، وتارةً يُطلق على الكتاب العهدي للاّم العهدية، والمقصود من الكتاب هنا هو القرآن الكريم لورود اللام العهدية في تعريفه، وأنّ للقرآن مواقع ومنازل كونية ملكوتية، وأنّ المصحف الشريف هو أنزل تلك المواقع والمنازل، ومن ثمّ وصف في الآيات بأنّه تنزيل الكتاب، أي الدرجة والموقع النازل من الكتاب لا المواقع المكنونة الغيبية القدسية ذات المجد والكرامة.

3
الثالثة: إنّ القرآن الكريم وصفه الله تعالى بأنّه مهيمن على الكتاب، وهذه الصفة تعني الإحاطة، فما نزل على الأنبياء من الحقائق العلمية والتي أودعت في كتب مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى فهي مودعة مثلها في القرآن الكريم.
والخلاصة:
إنّ ما كان عند آصف بن برخيا هو بعض علم الكتاب أي بعض من القرآن; إذ الكتاب هو القرآن الشامل لكلّ الكتب التي أسلفنا.
وتبين عند ذلك أنّ الكتاب له وحدة واحدة وهو القرآن، أي: أنّ المعارف السماوية وحقائقها كلّها أودعت في القرآن الكريم، وإذا كان آصف بن برخيا قد علِم بعض حقائق القرآن فكيف بمَن أُحيط بعلمه كلّه ظاهراً وباطناً وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه الحجج المعصومين من أهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)؟
المصادر :