الرئيسية / القرآن الكريم / مفاهيم القرآن الكريم

مفاهيم القرآن الكريم

الفصل الرابع

العدل الاِلهي

وفاعلية الاِنسان
قد تعرفت على مظاهر عدله في التكوين والتشريع، وحان البحث في بيان باقي المباحث التي لها صلة بالعدل الاِلهي، وهي تتمحور حول فاعلية الاِنسان، ونقاطها الرئيسية هي:

1. العدل الاِلهي وحرية الاِرادة الاِنسانية.

2. العدل الاِلهي و علمهالسابق بأفعال العباد.

3. العدل الاِلهي والقضاء والقدر القطعيان.

4. العدل الاِلهي وخلود العقاب.

وقد تناول الحكماء والمتكلّمون هذه الاَبحاث من زوايا مختلفة واحتدم النقاش حولها، و بما أنّ رائدنا في هذه البحوث هو القرآن الكريم فنحن نتناولها من ذلك الجانب ونترك جوانبها الاَُخرى إلى الكتب المعدّة في هذا المجال.
——————————————————————————–

( 39 )
* العدل الاِلهي وحرية الاِرادة الاِنسانية

البحث عن حرية الاِرادة، وأنّ الاِنسان هل هو فاعل مجبور أو فاعل مختار؟ من المسائل الفلسفية الّتي تمتد جذورها في تاريخ الفكر الاِنساني، ومنذ ذلك الحين اتجهت أنظار كافة الناس صوبها لاَنّها تمسّ جانباً من حياتهم العملية، وبذلك أصبحت دراسة تلك المسألة لا تقتصر على الحكماء فحسب بل شملت أكثر الناس .

إنّ الروَية القرآنية تتلخص في أنّ الاِنسان حرّ فيما شاء وأراد، و هي تشطب بقلم عريض على مزعمة المشركين بتعلّق مشيئة اللّه سبحانه بعبادتهم الاَوثان ولذلك صاروا مجبورين على الشرك. يقول سبحانه في ردّ تلك المزعمة:(سَيَقُولُ الّذينَ أَشْرَكُوا لَو شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباوَُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إن تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظََّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ) .(1)

فهذه الآية تعكس لنا بوضوح جانباً من عقيدة المشركين في عصر الرسالة وانّهم كانوا يوَمنون بالجبر، وإنّ كلّ ما يصدر منهم فهو خاضع لاِرادته سبحانه إرادة سالبة للاختيار.

ويقول سبحانه في موضع آخر مبيّناً تلك العقيدة الفاسدة :(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءنا وَاللّهُ أمََرنا بِها قُل إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون) .(2)
____________

(1)الاَنعام: 148.

(2)الاَعراف: 28.
——————————————————————————–

( 40 )
فإنّ الفقرة الاَُولى من الآية تعكس عقيدة المشركين وأنّه لولا أمره ومشيئته لما كنّا مشركين، لكن الفقرة الثانية تردُّ عليها ببيان أنّ الشرك ظلم و قبيح، واللّه لا يأمر بهما، وبالتالي لا تتعلق مشيئته بهما.

والعجب أنّ تلك العقيدة السخيفة لم تُجْتثّ بل بقيت عالقة في أذهان عدّة من الصحابة حتى بعد بزوغ نجم الاِسلام.

روى السيوطي عن عبد اللّه بن عمر: انّه جاء رجل إلى أبي بكر، فقال: أرأيت الزنا بقدر؟

قال: نعم. قال: فإنّ اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذِّبني؟! قال: نعم يابن اللخناء، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك.(1)

وليس الخليفة الاَوّل وحده ممن كان يحتج بالقدر السالب للاختيار، بل كان غيره على هذه الفكرة . روى الواقدي عن أُم الحارث الاَنصارية، وهي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين، قالت: مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً، فقلت: ما هذا؟ فقال عمر: أمر اللّه.(2)

نرى أنّ عمر يلجأ إلى أمر اللّه وقضائه، و أنّ الهزيمة كانت أمراً قطعياً لاَنّه سبحانه شاءها وأرادها، دون أن ينظر إلى سائر الاَسباب التي حدت بهم إلى تلك الهزيمة.

لقد اتخذ الاَمويون مسألة القدر أداة تبريرية لاَعمالهم السيِّئة وكانوا ينسبون وضعهم بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر، قال أبو هلال العسكري: إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها.(3)
____________

(1)تاريخ الخلفاء: 95.

(2)مغازي الواقدي: 3|904.

(3)الاَوائل: 2|125.
——————————————————————————–

( 41 )
ولاَجل ذلك لما سألت أُمّ الموَمنين عائشة، معاويةَ عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين فأجابها: إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم.(1)

وبهذا الجواب أيضاً أجاب معاويةُ عبدَ اللّه بن عمر ،عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد، بقوله: إنّي أُحذِّرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم، وأن تسفك دماءهم وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمره.(2)

وقد تسرّبت فكرة الجبر إلى أكثر الاَوساط الاِسلامية خصوصاً بين الشعراء وأصحاب الملاحم، حيث راحوا يفسرون الوضع المزري الذي يعاني منه المسلمون بالقضاء والقدر. وسيوافيك أنّه لا صلة للقضاء والقدر بسلب الاختيار عن الاِنسان .

* حرية الاِرادة من منظارٍ قرآني

إنّ الآيات القرآنية تصرّح باختيارية الاِنسان وانّه فاعل مختار مسوَول عن عمله.

1. يقول سبحانه: (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً) .(3)

فالشاكر يسلك السبيل الذي أراده اللّه سبحانه له، فيصل إلى الهدف المنشود، بخلاف الكفور، فيسلك غير هذا السبيل.
____________

(1) الاِمامة والسياسة:1|167.

(2)الاِمامة والسياسة: 1|171.

(3)الاِنسان: 3.
——————————————————————————–

( 42 )
2. (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَديتُ فَبِما يُوحِي إِلَيّ رَبّي إنّهُ سَميعٌ قَريب) .(1)

ترى أنّ الآية تنسب الضلالة إلى نفس الاِنسان، والهداية إلى وحيه سبحانه إليه، مع أنّ الهداية والضلالة كلّها من اللّه سبحانه ، وما هذا إلاّ لاَنّه سبحانه قد هيّأ كافّة وسائل الهداية للاِنسان منذ أنْ خُلِقَ إلى أن يُدرج في أكفانه، وهي عبارة عن تزويده بـفطرة التوحيد وتعزيزها ببعث الاَنبياء والمرسلين ، والعقل السليم، إلى غير ذلك من أدوات الهداية، فمن انتفع بها فقد اهتدى، فصحّ أن يقال: إنّ الهداية من اللّه لاَنّه زوّد الاِنسان بوسائلها، و من لم ينتفع بها فقد ضلّ فصحّ أن يقال (إن ضللت فانّما أضلّ على نفسي).

وبهذا المضمون قوله سبحانه: (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) .(2)

3. (وَقُل الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُوَْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر).(3)

ولا تجد في القرآن الكريم آية أكثر نصاعة في حرية الاِنسان من هذه الآية،وقد صبّ شهيدنا الثاني (909 ـ 966هـ) مضمون هذه الآية ضمن بيتين، حيث قال:
لقد جاء في القرآن آية حكمة * تدمّر آياتِ الضلال ومن يُجبر

وتخُبر انّالاختيار بأيدينا * فمن شاء فليوَمن و من شاء فليكفر

____________

(1)سبأ:50.

(2)الاِسراء: 15.

(3)الكهف: 29.
——————————————————————————–

( 43 )
4. (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكمْ بِحَفيظ) .(1)

5. (ليهلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسميعٌ عَليم).(2)

6. (كُلُّ امرىِِ بِما كَسَبَ رَهِين).(3)

7.(إِنَّما تُجْزونَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُون).(4)

إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على أنّ الاِنسان فاعل مسوَول عن أعماله، حرّ في إرادته، مختار فيما يكتسب.

وعلى ضوء هذا فمن حاول أن ينسب الجبر إلى القرآن فقد خبط خبطَ عشواء.

إنّ بعث الاَنبياء و دعوة الناس إلى طريق الرشاد، ونهيهم عن ارتكاب القبائح أوضح دليل على أنَّ الاِنسان موجود قابل للاِصلاح والتربية ، إذ لو كان مجبوراً على فعل المعاصي، لكان بعث الاَنبياء ودعوتهم أمراً سدى.

نعم الدعوة إلى حرية الاِنسان وكونه فاعلاً مختاراً لا تعني أبداً انقطاع صلة الاِنسان باللّه سبحانه و إرادته . لاَنّ تلك الفكرة كفكرة الجبر باطلة تورد الاِنسان في مهاوي الشرك والثنويّة التي ليست بأقلَّ ضرر من القول بالجبر.

فالتفويض بمعنى استقلال الاِنسان في فعله وإرادته وكل ما يكتسب وخروجه عن سلطة اللّه سبحانه ، تفويض باطل كالقول بأنّه فاعل مجبور.

لا جبر و لا تفويض:

وقد أكّد أئمّة أهل البيت – عليهم السّلام- على وهن تلك الفكرتين.
____________

(1)الاَنعام:104.

(2)الاَنفال: 42.

(3)الطور:21.

(4)النور: 16.
——————————————————————————–

( 44 )
قال الاِمام الصادق – عليه السّلام- : «إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد».(1)

و في حديث آخر عنالاِمامالصادق – عليه السّلام- فسّر حرية الاِنسان بهذا النحو: «وجود السبيل إلى إتيان ما أُمروا وترك ما نهوا عنه».(2)

نعم التركيز على بطلان الجبر أكثر في الروايات من التصريح ببطلان التفويض.

قال الاِمام الصادق – عليه السّلام- :«اللّه أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه».(3)

وسأل الحسن بن علي الوشاء الاِمام الرضا – عليه السّلام- : هل اللّه أجبر العباد على المعاصي؟ فقال – عليه السّلام- : «اللّه أعدل وأحكم من ذلك».(4)

نعم موضوع الاختيار عبارة عن الاَفعال التي يقوم بها الاِنسان، و أمّا الاَُمور الخارجة عن حيطة الثواب والعقاب التي ربّما يبتلى بها الاِنسان من حيث لم يشأ كالبلايا والمصائب والزلازل والسيول المخرّبة والاَعاصير، إلى غير ذلك فهي خارجة عن اختيار الاِنسان، فليس هوبالنسبة إليها لا فاعلاً جبرياً ولا فاعلاً بالاختيار.

هذه هي نظرة القرآن الكريم في أفعال الاِنسان، غير انّ هناك شبهات تذرَّعت بها بعض الفرق الاِسلامية وحاولوا بذلك سلب الاختيار عنه ظناً منهم أنّهم بذلك يحسنون صنعاً.
____________

(1)البحار:5|41.

(2)البحار:5|12.

(3)التوحيد للصدوق:360، الحديث 6، باب نفي الجبر والتفويض.

(4)نفس المصدر: 363، الحديث 10.

شاهد أيضاً

مفاهيم القرآن الكريم

الفصل السادس العدل الاِلهي والمصائب والبلايا المصائب والبلايا في حياة الاِنسان من المسائل الشائكة التي ...