إذا جاز لنا أن نعطي عنوانا للإستراتيجية الروسية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، نستطيع القول بثقة، أنه وبغض النظر عن الأهداف الرئيسية والتكتيكية التي تسعى موسكو لتحقيقها في سورية والعراق كمرحلة أولى من مدخل محاربة الإرهاب، جاءت مبادرة موسكو الجريئة والمفاجأة تحديدا لوضع حد نهائي لمرحلة حروب أمريكا بالوكالة، أو ما عرف بالحروب الناعمة والفوضى الخلاقة..
وبالتالي، تفتح الإستراتيجية الروسية الجديدة الباب واسعا أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن تقبل واشنطن بالوضع الجديد الناشئ في الشرق الوسط وتعترف بموسكو كلاعب رئيس في حل نزاعات المنطقة والعالم، وما يعنيه ذلك من تنازل الولايات المتحدة الأمريكية عن عرش قيادة العالم بدون منافس أو منازع والعودة إلى اتفاقية ‘يالطـا’ التي وضعت الأسس لعالم متعدد الأقطاب، أو تختار المواجهة فيتحول الصراع من حروب بالوكالة إلى حرب مدمرة بين الكبار بالأصالة على ملعب الشرق الأوسط، تفضي إلى ‘يالطـا’ جديدة إذا تم التحكم فيها وفق سقوف محددة، أو تعيد البشرية إلى عصر ما قبل الحضارة..
صحيح أن المغامرة الروسية الخطيرة في تحدي الولايات المتحدة وحلفها الأطلسي إن صح لنا تسميتها بالمغامرة، تعتبر بكل المقاييس السياسية والعسكرية مدخلا إجباريا لحرب عالمية ثالثة يتخوف من نشوبها الجميع، لكن من وجهة نظر دروس التاريخ، تدرك موسكو أن المتغيرات الكبرى في معادلات الصراع وموازين القوى لم يسبق أن تحققت بالحلول السياسية عبر التفاوض، بل التفاوض يأتي دائما كمحصلة لنتيجة الحروب الكبرى، لأن لا مكان في هذا العالم ولا احترام إلا للأقوياء، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم..
والحقيقة أن موسكو لم تترك لواشنطن من خيار حين سدت في وجهها كل المنافذ التي يمكن عبرها أن تستمر في ممارسة الخداع والاستثمار في دماء الآخرين لتحقيق أهدافها الانتهازية، ولم يعد بعبع الإرهاب يخيف الدب الروسي الذي قرر هذه المرة بمعية حلفائه في إيران وسورية والعراق ولبنان سحقه من الجو واجتثاثه من أوكاره بسرعة قياسية تفوق تقديرات واشنطن الكاذبة..
لأنه في أربعة أيام، استطاع القصف الروسي تحقيق ما لم يستطع تحقيقه الحلف الستيني الأمريكي في 13 شهرا، ليتبين أن الهدف الحقيقي لأمريكا وحلفائها وأدواتها لم يكن محاربة الإرهاب، بقدر ما كانوا يعملون على تغطيته ودعمه ومساندته وتوجيهه لرسم خرائط التقسيم في العراق وسورية من خلال تكتيك الاستنزاف الناعم أو ما سماه أوباما بـ”الصبر الإستراتيجي”..
لكن علينا أن نلحظ من وجهة النظر الأمريكية، أن تقاعس واشنطن عن محاربة الإرهاب مرده إلى أمر غاية في الأهمية، ويتعلق بتجربة العراق المريرة، ذلك أن أوباما كان يرى بالبعد الإستراتيجي، أن دحر الإرهاب في العراق وسورية سيصب حتما في صالح إيران وروسيا بالتبعية، وبالتالي، فاستراتيجيته التي قامت أساسا على إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة من مدخل إسقاط النظام في سورية وتقسيم العراق إلى كيانات طائفة، كانت ستأتي بنتيجة معاكسة تماما لو أنه حارب الإرهاب بإخلاص وحسن نية، بحيث سيتعزز النفوذ الإيراني في سورية على غرار ما حصل في العراق بعد أسقاط النظام ومؤسسات الدولة، وهو ما لا تطيقه “السعودية” وتركيا، ناهيك عن “إسرائيل” التي ترى في إيران خطرا وجوديا أصبح على أبوابها في الجنوب السوري.
نقول هذا، لأنه تبين من المعطيات والمعلومات المتوفرة اليوم، أن روسيا أيضا، لم يكن هدفها منذ البداية الدخول إلى سورية لمحاربة الإرهاب دفاعا عن الرئيس بشار الأسد كما تقول أمريكا فحسب، بل مهدت لهذا الدخول بخطوات تصاعدية ذكية ومدروسة لمواجهة المارد الأمريكي ومنازعته الهيمنة بالضغط السياسي والعسكري معا، هذا في الهدف العام الجيوسياسي، لكنها كانت ترى في دخولها الحرب على الإرهاب في سورية حربا استباقية أملتها الضرورة بعد أن تيقنت أن الولايات المتحدة تحضر آلاف الإرهابيين الأسيويين لزعزعة الاستقرار في روسيا والقوقاز وآسيا الوسطى والصين أيضا، فرأت أن محاربة الإرهاب خارج حدودها هو أجدى من انتظاره ليضرب في عقر دارها وجوارها ويحول روسيا بالتالي إلى سورية ثانية، وهذا هو معنى مقولة “إذا سقطت دمشق سقطت موسكو”..
ما من شك، أن روسيا حضرت لاستراتيجيتها الجديدة في المنطقة خلال فترة ليست بالقصيرة، وغطت تحركاتها بسرية كبيرة كي لا تسمح للإدارة الأمريكية بالدخول على الخط لإفشالها، وفي هذا الإطار، من المهم بمكان ملاحظة كرونولوجيا الأحداث التالية:
نفى الرئيس روحاني على هامش اجتماعات الأمم المتحدة نية بلاده المشاركة مع روسيا في حلف لمواجهة الإرهاب، ما أعطى الانطباع أن موسكو تدعم الرئيس الأسد لوحدها، ليتبين أن تصريح الرئيس روحاني كان منسقا مع روسيا عملا بمقولة “الحرب خدعة”، وأن الأمر لا يعدو أن يكون لعبة كلمات متقاطعة، لأن إيران كانت تتحدث عن جبهة مشتركة لمواجهة الإرهاب لا تحالف دولي، والفرق واضح بين المفهومين.
التزم العراق الصمت قبل انطلاق العمليات العسكرية الروسية ضد الإرهاب في سورية، ثم فجأة اكتشف العالم أن هناك غرفة عمليات استخباراتية أقامتها جبهة روسيا وإيران وسورية والعراق في بغداد لتبادل المعلومات حول تواجد أوكار الإرهابيين وتنقلاتهم ووضع الخطط العسكرية لمواجهتهم وقطع طرق إمداداتهم، وتأكد أن الغرفة المذكورة أنشئت نتيجة أشهر من المشاورات والتنسيق السري، الأمر الذي أذهل الأمريكي لأنه كان كالزوج المخدوع آخر من يعلم، وفهم أن اللعبة لا تقتصر على سورية فحسبن بل ستمتد الحرب على الإرهاب إلى العراق أيضا في الفترة الوجيزة المقبلة.
الرئيس العبادي ورغم تصريحه قبل أيام أن بلاده لا ترغب في الدخول في تحالف مع روسيا ضد أمريكا وأنها تريد التعاون مع الجميع، إلا أنه أعلن السبت ترحيب بلاده بدخول روسيا الحرب على الإرهاب في العراق، وكان سبق وأن أعطى موافقة خطية رسمية للطيران السوري لمتعقب المجاميع الإرهابية الهاربة من سورية نحو التراب العراقي.
نفس إيران أن تكون قد أرسلت جنودها لمحاربة الإرهاب في سورية، فيما التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية والغربية طالعتنا بمعلومات متقاطعة تتحدث عن دخول آلاف من مقاتلي الحرس الثوري إلى سورية استعدادا لمعركة الشمال بمعية الجيش العربي السوري وحزب الله بعد القصف الجوي الروسي.
نوعية الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا المتقدمة التي أدخلتها روسيا إلى سورية أثارت تساؤلات كبيرة حول الهدف الحقيقي من هذه الترسانة الفتاكة بالإضافة إلى البوارج الحربية والغواصات النووية وخلافه مما كشفت عنه الصحف الدولية وما لا يعرف حتى الآن ويقال أن حزب الله أيضا تزود بمنظومات متطورة لكسر التوازن الجوي “الإسرائيلي”، لكن الجميع خلص إلى أن السلاح النوعي الروسي ليس كله موجه لمحاربة الإرهاب، بل استعدادا لاحتمالات أبعد من ذلك بكثير، وبالتالي، فما من شك أن الدب الروسي يتحسب للمواجهة الكبرى في حال قررت واشنطن اللعب على حافة الهاوية..
لكن الطامة العظمى، هي حين تسربت معلومات من مصادر “إسرائيلية” وروسية تتحدث عن قرار سري اتخذه التنين الصيني لدعم الروسي في حربه على الإرهاب بالمنطقة (انظر مقالتنا بعنوان: “بعد روسيا.. الصين تقول: لبيك يا سورية”)، وبمجرد شيوع الخبر، سارعت الحكومة الصينية لنفي صحته معتبرة إياه مجرد تسريبات إعلامية لا أساس لها من الصحة.. لكن وكالة الأنباء الإيطالية الرسمية “إكي”، كشفت النقاب نهار السبت، أن التنين الصيني قرر بالفعل المشاركة في الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط دعما لحليفه الروسي بناء على معاهدة الدفاع المشترك القائمة بينهما وتعتبر إيران أيضا طرفا سريا فيها، وأن الصين قررت بالفعل إرسال أسلحة متطورة ومقاتلات وبوارج حربية وغواصات وخبراء وجنود للتدخل السريع إلى ميناء طرطوس، معتبرة أن مثل هذا التطور يؤشر إلى أن العالم أصبح على أبواب حرب عالمية ثالثة، وأن هناك جو من الهلع والرعب يسود أوروبا وأمريكا.
كل هذه المعطيات التي بدأت تتكشف رويدا رويدا، تؤكد أن القرار الروسي بدخول الحرب على الإرهاب في سورية والعراق لم يكن وليد الساعة بناء على طلب الحكومة السورية، أو لأن روسيا شعرت بأن الجيش العربي السوري أصبح عاجزا عن الدفاع عن المدن والمواقع الرئيسية للدولة، وأنه في حالة انهيار كامل كما روج لذلك البعض من باب الاستنتاج الجزافي، بل كان نتيجة لخطة كاملة بإستراتيجية مكتملة بأهداف جيوسياسية وجيواستراتيجية بمديات متفاوتة وأخرى تكتيكية مرحلية.. لكن ما سرع دخول روسيا قبل أن يكتمل التحضير للتنفيذ على الأرض، هو ورود معلومات عن عزم تركيا التدخل عسكريا في الشمال السوري لفرض منطقة حظر جوي بأمر الواقع بموازاة تدخل “إسرائيل” في الجنوب، وهو الأمر الذي كشفته خطة تهجير اللاجئين إلى أوروبا.
وأثناء هذه التطورات، كانت واشنطن المتفاجئة تقول، أنها لا تعرف النوايا الحقيقية لروسيا ولا ماهية أهدافها في سورية والمنطقة، لكنها أعلنت وعلى لسان أوباما أن استراتيجية موسكو في سورية ستفشل.. أما كيف؟ فلا أحد يعرف، وهو ما دفع بالإعلام الأمريكي والغربي و”الإسرائيلي” لشن حملة انتقادات لاذعة ضد أوباما اتهمته خلالها بالعجز والفشل، وأنه لا يعرف ما يجب عمله لأنه لا يملك إستراتيجية أصلا، هذا في الوقت الذي أثار موقف الرئيس بوتين الحازم إعجاب واحترام الجميع، وأصبح نجم العالم بلا منازع، خصوصا بعد خطابه الحاسم والواضح من على منبر الأمم المتحدة..
والآن نأتي للإستراتيجية السرية التي كانت ترغب في تنفيذها الإدارة الأمريكية بمعية تركيا والحلف الأطلسي، وتؤكد المعلومات اليوم أنها وبرغم تدخل روسيا القوي في الحرب على الإرهاب في سورية، إلا أنها عازمة على المضي قدما لتجسيدها واقعا على الأرض، ما ينذر باحتمال حصول صدام بين القوى الكبرى، وربما هذا الطارئ هو الذي دفع بالصين لدخول المعترك في الشرق الوسط من باب الردع قبل تفاقم الأمور..
فبعد فتح قاعدة ‘أنجرليك’ لطائرات التحالف الأمريكي لمحاربة الإرهاب في سورية، قررت أنقرة فجأة فتح قاعدة ‘ديار بكر’ أيضا لتمكين طيران التحالف من القيام بعمليات عسكرية في الشمال السوري..
أوباما أعلن السبت من البيت الأبيض، أن تحالفه عازم على محاربة “داعش” في سورية، وأنه سيقوم بتسليح عشرات الآلاف من المقاتلين في المعارضة السورية “المعتدلة” التي اقترحتهم تركيا ليشكلوا جيشا بريا يحتل المواقع التي سيتم تحريرها من “داعش” على مساحة 90 كلم، لإبعاد خطر التنظيم عن الحدود التركية، وفي نفس الوقت منع الأكراد من إقامة حكمهم الذاتي في المنطقة وفق ما أعلنته تركيا.
وحقيقة الأمر، أن لا وجود لمعارضة سورية معتدلة ولا من يحزنون، لكن أوباما بسبب المفاجأة الروسية لم يجد بدا من الاستعانة بـ”جيش الإسلام” و”جبهة النصرة”، لكن المعضلة أن الإدارة الأمريكية تنشير إلى أن معظم هؤلاء المقاتلين هم من الأجانب، وأن غالبيتهم عرب، وأن مئات المقاتلين يدخلون يوميا من تركيا إلى المنطقة الشمالية السورية وإلى العراق أيضا وفق ما كشف عنه السيد العبادي في الأمم المتحدة.. فهل هذا هو الجيش “السعودي” الجديد الذي قال الوزير الجبير أنه سيسقط نظام الأسد بالقوة العسكرية؟.. ربما.
لكن أخطر ما في المخطط، هو أن أمريكا وتركيا اتفقتا على يقوم التحالف الدولي بتوفير الغطاء الجوي ل،”جيش سورية” الأجنبي الجديد، ويسانده الجيش التركي أيضا على الأرض في الشمال، هذا علما أن الضربات الجوية الساحقة الماحقة التي أنجزتها روسيا خلال الأيام الأربعة الماضية، دفعت بآلاف الإرهابيين من جيش الفتح وجبهة النصرة وأحرار الشام إلى الهرب من أوكارهم كجرذان مذعورين باتجاه أقصى الشمال طلبا لحماية المظلة التركية.
وتركز الإدارة الأمريكية في استراتيجيتها المرتجلة الجديدة التركيز على حرب إعلامية ضد روسيا، تتهمها بعدم التمييز في قصفها بين الإرهابيين الذين ينتمون لـ”داعش” وبين المعارضة “المعتدلة” في محاولة لتعويم بقية الفصائل التكفيرية التابعة لـ”القاعدة و”الإخوان المسلمين”، واستغلالهم كحصان طروادة لإفشال الإستراتيجية الروسية.
ما نعلمه حتى الآن، هو أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا العهر الأمريكي الجديد، وأن هدفها الأول قبل الانتقال للتصعيد ضد التركي، هو السيطرة على حلب وتحويلها إلى ستالينغراد جديدة، لإغراق الجيش التركي في حال قرر دخول الأراضي السورية كما سبق وهدد بوتين سفير أنقرة قبل فترة صراحة.
هل تنجح إستراتيجية أوباما الجديدة؟.. من الصعب التنبؤ بمآلات هذا الصراع العالمي الكبير والخطير، لكن ما نعلمه هو أن أوروبا منقسمة على نفسها ولا ترغب في التصعيد مع الروسي عموما والصيني بشكل خاص لأنها هي من ستدفع الثمن أولا من أي انفجار محتمل، لكن وفق آخر المعلومات، سمح أردوغان لعدد كبير من الإرهابيين الفارين من القصف الروسي بدخول أوروبا عبر أراضيه وبالتنسيق مع المخابرات الأطلسية..
قد يكون الهدف كما كان تماما خلال الحرب على العراق إحداث سلسلة من التفجيرات الإرهابية للتأثير على الرأي العام الغربي ودفع الحكومات الأوروبية للمشاركة في الحرب العالمية الكبرى التي تدور اليوم في سورية، وما كرناه أعلاه هو بعض من مقدماتها.
لنتابع ونراقب، فالتطورات سريعة، والمفاجآت كثيرة، والنتائج الأولية مدهشة ولصالح روسيا ومحور المقاومة حتى الآن على الأقل.. لكن امبراطورية الشر والإرهاب الدولي لن تتخلى عن عرشها بسهولة، والنسر الأمريكي لن يخفض رأسه أمام الدب الروسي على أبواب دمشق كما فعل ‘نابليـون’ من قبل على أبواب موسكو في معركة ‘واترلــو’ الشهيرة.