الرئيسية / بحوث اسلامية / حديث علي (ع) ونظرية نسبية الأخلاق – اية الله مرتضى مطهري

حديث علي (ع) ونظرية نسبية الأخلاق – اية الله مرتضى مطهري

بسم الله الرحمن الرحيم

كان بحثنا يدور حول مسألة نسبية الأخلاق، فتكون التربية نسبية تبعاً لذلك، فهل تختلف الأخلاق تبعاً لاختلاف الأزمنة والأمكنة والأفراد؟ لا يمكننا أن نعطي قاعدة خلقية لجميع أفراد البشر ولجميع العصور، وكل طرح خلقي من أي مذهب يصدر أعم من الإسلام وغيره يجب أن يكون محدوداً بمنطقة خاصة وزمن خاص وفي ظل ظروف خاصة، ويجب أن يحكم قانون آخر غيره إذا اختلفت الظروف.

توصلنا في بحثنا إلى أن هناك فرقاً بين الأخلاق والسلوك، إن الأخلاق هي عبارة عن مجموعة من الخصال والسجايا والملكات المكتسبة يرتضيها الإنسان بوصفها قواعد خلقية، وبعبارة أخرى هي قالب روحي للإنسان، تصهر روح الإنسان في ذلك القالب الذي هو أمر مطلق وعام ودائم، إلا أن سلوك الإنسان الذي هو عبارة عن تطبيق تلك الروحيات في الخارج يختلف تبعاً للظروف المختلفة، وبعبارة أخرى: ان مظاهر الأخلاق الإنسانية وتجلياتها تختلف باختلاف الظروف، ففي ظرف ينبغي أن يكون نفس الإنسان في مكان ما بشكل وفي مكان آخر يكون له شكل آخر، فهناك فرق كبير بين أن نقول: إن الإنسان نفسه يتغير بتغير العصور والأمكنة، وبين أن نقول: إنه يمكن أن تكون للإنسان قابلية عالية وسامية في المحافظة على أصالته، ولكن تختلف فيه مظاهره السلوكية باختلاف الأزمنة والظروف المختلفة.

من المحتمل أن يقال: أن هناك توجيهات في الإسلام بشأن أخلاقية المرأة والرجل، وهناك بعض الأخلاقيات التي ارتضاها للرجل ولم يرتضها للمرأة، وبالعكس فهل تختلف الأخلاق في نظر الإسلام؟ وتختلف الأطوار الإنسانية للرجل والمرأة؟ أي هل يعتبران في النظرة الإنسانية نوعين من الإنسان؟ بحيث يجعل الإسلام لهما نوعين من السلوك يتقلبان في إطارهما روحياً وان المرأة ينبغي لها أن تصنع في قالب نسميه خلقاً والرجل في قالب آخر؟ فإذا كان الأمر كذلك فإذن يتضح أن القول بأن الأخلاق حقيقة مطلقة وثابتة متزلزلة، وانه لا أساس لهذا الكلام وأول دليل يقام على ذلك هو تفريقه بين المرأة والرجل.

توجد في نهج البلاغة جملة من المحتمل أن يطرحها شخص، تقول: خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو والجبن والبخل، نعلم أن التكبر قد عرف بأنه خلق سيئ جداً وحتى في نظر علماء النفس عد نوعاً من الأمراض النفسية، وأما الجبن فواضح أمره فهو ضعف وعجز، وأما البخل فهو ليس إلا حب المال، وهذه خلق وسجايا تعدّ من أقبح ما يتصف به الرجل، وفي نهج البلاغة يقول عنها: انها احسن خصال المرأة وسجاياها، وينبغي لها أن تتحلى بها، فكيف ذلك؟ بعد ذلك يعطي (ع) توضيحاً يحل لنا هذه المشكلة: فإذا كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانة فرت من كل شيء يعرض لها[1] .

والجواب:

في البداية أعرض موضوعاً قد يؤدي إلى تصور أني أريد القول: إن هذا الحديث ليس قوياً جداً، ولكن ليس الأمر كذلك، فعلينا أولاً: أن نرى ما هو مفهوم هذه الجملة ومعناها الواقعي، وما الذي يريد أن يقوله الإمام (ع)؟ وثانياً: هل إنها تتفق مع سائر التعاليم الدينية الواقعة في صلب الإسلام ومن بينها كلماته (ع) نفسها؟

إن المقدمة التي أريد أن أذكرها هي ما يراه الأدباء من أن الألفاظ المرتبطة بحالات الإنسان النفسية قد تستخدم لا باعتبار تلك الحالة النفسية، بل باعتبار الأثر الذي عادة ما يصدر عن الإنسان في تلك الحالة النفسية، مثلاً العطف أو الرحمة، فإنه حالة نفسية واحساس لدى الإنسان، فأحياناً تستخدم هذه الكلمة في مورد نفس هذا الإحساس بعنوان أنه حالة نفسية، وأحياناً تستخدم في الموضوع الذي يظهر فيه أثر ذلك الإحساس حتى وإن لم يكن له وجود، فنقول: إن فلاناً يعطف على فلان، أي يعمل من أجله شيئاً نوع من العطف، سواء كانت فيه حقيقة العطف أو لم تكن؟ أو مثلاً في مورد الله سبحانه تستخدم هذه اللغات الإنسانية في حين أن هذه اللغات لا تصدق على الله في مفهومها الإنساني، إلا أنها صادقة في مفهوم أثرها كأن نقول: (الله يستهزئ بهم) (سورة البقرة، الآية: 15). أو أن نقول: “إن الله يستحي من هذا الشيء، والحياء لفظ وضع للإنسان، فالحياء في الإنسان حالة عفة وانفعال وخجل وتأثر، إنه حالة نفسية، ولا يصح التأثر والانفعال بالنسبة لله سبحانه، ولكن أحياناً يكون السلوك الذي يتخذه الله في قبال الإنسان نظير الحالة التي تصدر عن الحياء والخجل، فيقال: إن الله يستحي، يقول (سعدي) في بداية (الكلستان):

يدعو العبد أول مرة فلا يستجاب له، فيدعو مرة ثانية وثالثة، بعد ذلك يصل الخطاب: يا ملائكتي أجيبوه فقد استحييت من عبدي، وكذلك الاستهزاء بالنسبة للإنسان حالة روحية لها انعكاسات، ولكن قد يفعل الله فعلاً ببشر يجعله في معرض سخرية الناس، فيقول تعالى: (الله يستهزئ بهم).

ولا يختص هذا الأمر بالله، وإنما في موارد أخرى كثيرة تستخدم هذه الألفاظ في مورد البشر أيضاً، ولكن باعتبار السلوك الذي عادة ما يكون معلولاً لتلك الحالة ولكن كيف؟

الألفاظ الثلاثة التي وردت هنا وهي (التكبر والجبن والبخل)، إن من الواضح كون التكبر حالة نفسية لدى الإنسان، أذكر لكم قرائن قبل أن أشرح لكم هذا الحديث، قالوا لنا: التكبر على المتكبر عبادة، لا يريد أن يقول: إن التكبر بعنوان أنه حالة نفسية وهي العجب ممدوحة، ولو واجهت شخصاً متكبراً فكن متكبراً في الواقع، بل انه يريد أن يقول: كن متواضعاً دائماً ولابد أن تكون نفسك متواضعة دوماً إلا أن سلوكك مع الإنسان المتكبر ينبغي أن يكون استعلائياً حتى تمرغ أنفه في التراب، فلا يتكبر بعد ذلك.

إرشاد الرسول في عمرة القضاء

كان القضاء ظاهراً في السنة السابعة للهجرة حيث دخل رسول الله مكة، بعد قرار الصلح الذي عقده في الحديبية، وكان حادث الحديبية هو أن الكفار منعوا الرسول من الدخول إلى مكة، فتراجع الرسول إلى ضواحي مكة على شرط أن يعود ثانية، ودخلها وما زالت مكة كافرة وعدوة، وفقاً لعقد الصلح، ولأجل أن لا يحدث أي احتكاك بالمسلمين، ولا تقع عين غير مسلم على مسلم فيتأثر به أصدرت الأوامر العاُمة بخروج الجميع من بيوت مكة إلى خارجها، وأنهم سيبقون في مكة ثلاثة أيام ويتركونها بعد ذلك.

عندما دخل المسلمون كانت قريش بأجمعها قد خرجت من مكة، نساء ورجالاً وأطفالاً، إلا أنهم لم يجاوزوا الجبال الواقعة في أطراف مكة، واستقروا على قممها، وكان الرسول الأكرم يعلم أنهم يراقبون المسلمين من أماكنهم، فأم أن يلقى رداء الإحرام من جانب الكتف، وأن يهرولوا حالة الطواف برجولة وصلابة وشجاعة، وكان هذا هو الطواف الوحيد الذي قام به المسلمون في حياة الرسول وكأنما هم في ساحة حرب، حتى يرى الكفار المسلمين بمظهر القدرة والشوكة، في حين أن الوقت كان وقت عبادة وحالة مناجاة وتضرع وتواضع، ولكن أراد الرسول من المسلمين أن يزهوا بأنفسهم ويتكبروا مع أنه لم يرد لهم أن يكونوا كذلك حقاً.

مثال آخر: أمر (ص) أن تكون الحركات استعلائية في ساحة القتال، تماماً كما يفعل الإنسان المتكبر، وان أمير المؤمنين ظاهراً في حرب الخندق بعد أن قتل عمرو بن عبد ود، عندما رجع إلى المسلمين كان يمشي ببطء وخيلاء وتكبر، فقال رسول الله (ص): إن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع.

هذا سلوك استعلائي، ولكن الإسلام يبغض التكبر نفسه حتى في ميدان القتال، لم يقل أي أحد من علماء الفقه: ان التكبر بذاته وبما هو خلق وسجية وحالة نفسية قابل للاستثناء، وبالنسبة للمرأة ـ لم يقل: من الأحسن للمرأة ان تكون متكبرة مطلقاً حتى على النساء الأخريات، كلا، فلا ينبغي للمرأة أن تتكبر على النساء الأخريات فضلاً عن محارمها أو زوجها.

ولا يمكن للإنسان أن يكون له خلقان، فإن الإنسان إما متكبر أو غير متكبر، والحديث يقول: على المرأة أن تتكبر أمام الأجنبي، طبعاً كلمة الزهو تفترق قليلاً عن التكبر، أي ينبغي أن يكون سلوكها استعلائياً، أي أن تلك التواضعات والتعارفات التي تصدر من الرجل تجاه رجل مثله أو من المرأة تجاه امرأة أخرى أو رجل من محارمها، من قبيل: أنتم في أعيننا، انرتم قلوبنا، أو تفضلوا وأمثال هذه الأمور، لا تليق بالمرأة أن تستخدمها مع الأجنبي، وتضع من نفسها بهذا المقدار، على المرأة أن تمسك بنفسها عندما تواجه الرجل المحرم عليها، إن المرأة لو سلكت هذا السلوك فإن الأجنبي سيجد دائماً حريماً بينه وبينها، فإذن هذا التكبر صار مربوطاً بالسلوك لا بالخلق، إن الحديث نفسه يوضح أن المرأة لو كانت كذلك سوف لا تمكن الرجل الأجنبي من نفسها، فالقاعدة التي نريد تأكيدها هي أن الإسلام يحاول أن يخلق حريماً ـ عملياً كالذي قلناه في اللباس وخلقياً كما في هذه الموارد ـ بين المرأة والرجل الأجنبي يمنع من اشتعال جذور ذلك الخطر المحتمل دائماً، فإذن هذا السلوك تكبري لا أنه تكبر في نفسه.

مفهوم الجبن في الحديث

أما مسألة الجبن، فهي أيضاً هنا ناظرة إلى مسألة عفاف المرأة لا إلى مسألة الجبن والشجاعة المطلقة، إن الشجاعة بما هي خلق روحي وحسب المصطلح امتلاك قوة قلبية وعدم كون الإنسان رعديداً ممدوحة في الرجال والمرأة أيضاً، لا يقول الإسلام أبداً: يحسن بالرجل أن يكون شجاعاً قوي القلب ولكن المرأة من الأفضل لها أن تكون جبانة، والدليل على ذلك أولاً: إن ما لدينا في باب مدح الشجاعة وذم الجبن ـ وهو كثير ـ ليس فيه اختصاص بالرجل والمرأة، بل إنه شامل لهما معاً، ثانياً: إن سيرة النساء المسلمات كانت شجاعة دائماً، أي مدحت النساء المسلمات ومجدن بالشجاعة، لأن (الشجاعة) معناها هي اللامبالاة وعدم الخوف وأن يقف الإنسان أمام الخطر ولا يردعه تفكيره في حياته أو ما له ولا يتراجع، وأن يكون مضحياً ومستعداً لترك حياته وماله ليقف بوجه العدو.

قصة صفية ابنة عبد المطلب

تذكر في التاريخ الإسلامي قصة صفية ابنة عبد المطلب بوصفها قصة حماسية وقابلة للثناء وإنها الشيء الذي يتوقع من امرأة هاشمية، في حرب الخندق حيث حوصر المسلمون وقد أحاط بهم الكفار، وضع الرسول الأكرم النساء في ملجأ خاص، وكان هناك رجل يدعى حسان بن ثابت، وهو شاعر معروف ومفلق ـ قام بخدمة الإسلام بلسانه كثيراً وهو مخضرم عاش في الجاهلية والإسلام، ويعد من شعراء الطبقة الأولى عند العرب، وهو أيضاً أكثر الشعراء الآخرين والذين يمتهنون حرفة الكلام ويصرفون طاقاتهم فقط في التكلم ويضعفون في مقام العمل (كان ضعيفاً في العمل)، فعندما احتدم القتال ترك ساحة الحرب، واختفى بين النساء، واتفق أن وصل أحد أفراد العدو فعلم بأن هذا موضع النساء، وقالم بالهجوم عليه فهتفت النسوة في حسان أن انهض واحمل السيف، فقد جاء العدو ولكنه لم يتحرك، واختفى خلفهن متدثراً بعباءة، ولكن لم يكن الوقت وقتاً ينبغي فيه على المرأة أن لا تظهر شجاعتها فتقدمت صفية ابنة عبد المطلب وحملت السيف وقتلت ذلك الرجل.

وكذلك شجاعة الزهراء (ع) وشجاعة زينب (ع)، نحن نرى من ناحية القوة والقدرة القلبية وحماسة الروح وعدم الخوف من الموت أن زينب نموذج إسلامي كبير جداً، وفي تاريخ الإسلام نقلت قصتها بوصفها نموذجاً كاملاً.

إن ما قيل في المرأة من إنها ينبغي لها أن تكون جبانة، ينبغي أن يفسر بأن يتصف سلوكها الإحتراس، لا خوفاً على النفس أو المال بل خوفاً على العفة، إن الإنسان الشجاع لا يخاف، يقول أسوأ ما في الأمر أني سأقتل، وأنا افخر بالقتل، وعلى المرأة في معرض القتل إن تكون كذلك أيضاً، ولكن عندما تكون عفتها في خطر ويخشى أن لا يوجد مورد للشجاعة لأن الشجاعة معناها التضحية، وإذا تشجعت هنا فمعنى ذلك انها تقوم بدنيس عفتها، كلا، ليست العفة أمراً خاصاً، حتى يقال لك ان تتجاوزيه لتكوني قد تجاوزت عن حق شخصي، بل إن العفة أمر قد أمرت بالمحافظة عليه، إن مجاوزة العفة مثل ما لو وضع شيء ثمين وديعة بيد شخص ليوصله إلى المكان المعين وفي أثناء الطريق تتفجر فيه شجاعته وبدل أن يكون تمام همه إيصال الوديعة إلى مكانها يقوم بتعريضها إلى الخطر والتلف.

ذكر السيد همايون مثلاً جيداً وفيه عبرة: يقول: رأيت قبل أربعين سنة حمالاً على رأسه طبق فيه من الأشياء الثمينة التي تشاهد بندرة لدى العوائل الملكية والأشراف، وتعتبر من نفائس البلد، وهو يقوم بنقلها من بيت إلى بيت، عندها رأى بعض المحتالين انها فرصة جيدة لإيذائه، فجاؤوا وأهانوه، فخفت، وقلت: إن هذا الرجل سيغضب ولأجل أن يدافع عن نفسه سيلقي بالطبق فينكسر ما فيه، ولكني رأيته قد تجلد، لأنه يعلم قيمة ما يحمله، وليس الموقف موقف شجاعة ودفاع، هنا موقف ينبغي له فيه إيصال الأمانة إلى موضعها.

المرأة حاملة الأمانة إنسانية

بما أن المرأة صاحبة عفة، فهي تحمل على عاتقها أمانة إنسانية كبيرة، لا أنها تمتلك حقاً خاصاً بها إن هي تسامحت فيه فقد تسامحت في حقها الخاص، بل إنها لو تسامحت فيه فقد خانت الأمانة الإنسانية، على الرجل أيضاً أن يكون عفيفاً والمرأة كذلك، ولكن نعلم لو أننا ملأنا اسماع الدنيا بقولنا بمساواة حقوق المرأة والرجل فليس هناك من يتمكن من إيجاد التشابه بين المرأة والرجل.

لا شك في أن المرأة تشارك الرجل في بعض الأمور الإنسانية وتخالفه كيفياً في بعض الأمور الأخرى، ولذلك تكون عفة المرأة مورداً للإنتهاك من قبل الرجل، ولكن لا يمكن أبداً للمرأة ان تنتهك عفة الرجل، ونحن حتى في عصرنا الحاضر في أوربا وأمريكا أيضاً لم نسمع أنهم كتبوا ان الرجل الفلاني انتهكت عفته من قبل المرأة الفلانية، ان الرجل يختلف أساساً عن المرأة، وانتم تشاهدون دائماً شابين يقفان أمام باب اعدادية البنات ويقومان بايذاء مائة طالبة، ولكن هل رأيتم لحد الآن، أن قامت بعض البنات بالوقوف أمام الرجل، وان المرأة هي المسؤولة بالدرجة الأولى أن تحافظ على هذه الأمانة الاجتماعية والخلقية والإنسانية.

وإن هذا الحديث الذي يوصي المرأة فقط أن يكون سلوكها جباناً يريد أن يقول: إن المرأة أمام الرجل الأجنبي، وفي مسائل خاصة مرتبطة بالعفة لا تعد لها شجاعة ولا أخاف، إن الشجاع هو الذي لا يخاف في مقام التضحية، فالتنازل عن الحق تضحية، ولكن لو أخذت منك العفة فإنك لم تضح وإنما قمت بخيانة الأمانة، فوصية أمير المؤمنين (ع) أن على المرأة أن تكون على حذر وأن يكون سلوكها جباناً، وذلك ليس في مطلق الأمور، بل في مورد تكون فيه العفة مهددة.

مفهوم البخل في هذا الحديث

مسألة البخل كذلك، يقول القرآن الكريم: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، (سورة الحشر، الآية: 9). هناك حالة يسميها القرآن بشح النفس وحبها للمال، بحيث لو أخذ منه فلس واحد كأنما أخذ منه جزء من روحه، إن الإسلام الذي هو دين التوحيد والذي يريد القضاء على تعلقات الإنسان بغير الله، لا يتوقع منه أن يوصي الزهراء بأن تكون محبة للمال؟ وإلا لما انفقت الزهراء (ع) ثوب عرسها في سبيل الله، وعد عملها فضيلة كبيرة في الإسلام.

المراد من البخل في هذا الحديث ليس هو البخل في مال الفرد، ان المرأة مستأمنة على مال زوجها، خاصة وهو يقول: حفظت مالها ومال بعلها، بنظري أن المراد هو المال المشترك بينهما فلا ينبغي للمرأة أن تكون لا أبالية في بيتها، وأن تكون سخية في حساب الأسرة، وأن تتبرع بما في جيب غيرها، وخاصة في النظام الإسلامي يقوم الرجل باكتساب المال، وعلى المرأة أن تدير البيت من الداخل، إن من لم يذق طعم تحصيل المال لا يعرف قيمته بشكل كامل إن المرأة تعد مديرة مستأمنة على المال المشترك الموجود في البيت، ولو أعطت قيمة حتى للقرش الواحد فلم تنفقه في غير محله فإن فعلها هذا يعد ممدوحاً.

فإذن البخل هنا أيضاً ليس البخل بمعنى تلك الصفة النفسية، وهي الخلق، بل بمعنى السلوك الممسك لا في مالها، بل في مال زوجها، وهذا لا يختص بالمرأة، بل هو موجود حتى في غير المرأة، فإن أمير المؤمنين كان أول جواد وأول ممسك، وهذا ما يوضحه التاريخ، فكان أول جواد في ماله، وأول ممسك في بيت المال الذي كان مؤتمناً عليه، فلم يكن على استعداد لأن يبذل فلساً واحداً منه لأخيه عقيل، هل كان علي (ع) يمتلك صفتين متضادتين؟ كلا، إن هاتين الصفتين ليستا متضادتين من الناحية الخلقية فإن تحمل المشقة للحصول على الغنيمة الحربية أو حفر القناة وتحصيل النقود حتى عن طريق العمل، وبعد ذلك اعطاؤها للمحتاجين، يعد جوداً، وحراسة بيت المال، واطفاء حتى تلك الشمعة المتعلقة ببيت المال عند الجلوس لأمر خاص يعد أمانة لا بخلاً، فإذن قولوا أي إنسان ممسك ومحب للمال هذا؟ إنه يتألم لاحتراق شمعة؟ كلا، ليس الأمر كذلك، فلو كان كذلك فعلينا أن نعتبر عثمان سخياً جداً، إذ كان فاتحاً باب بيت المال على مصراعيه، يدفع منه لهذه الجهة أو تلك، كل إنسان يكون أميناً على مال يجب عليه أن يكون ممسكاً فيه، بمعنى أن يكون سلوكه ممسكاً لأن يكون خلقه كذلك.

فإذن هذا الحديث الذي عد ثلاثة أشياء من أخلاق المرأة: الزهو والجبن والبخل، وشرحها بالنسبة إلى المرأة والرجل على شكلين، لا ينافي قاعدة عدم نسبية الأخلاق.

قلنا إن النقطة المقابلة للجبن وهي الشجاعة والقوة والصلابة، وهي مطلوبة للرجل والمرأة، فالجبن بمعنى الخلق سيئ للرجل والمرأة معاً والشجاعة جيدة فيهما معاً.

الشجاعة والدفاع عن الحقيقة

في الإسلام نوعان من الدفاع، الأول: دفاع عن الحق بمعنى الحقيقة، والثاني: دفاع عن الحق بمعنى حقوق المجتمع، وفي الفرض الذي تتعرض فيه حقوق المجتمع للضياع، يكون التدخل عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومكافحة المنكرات وترويج واشاعة ما يراه الإسلام حسناً، وأحد الأدلة على أن الشجاعة بمعنى الخلق لا تختص بالرجل، إن الدفاع عن الحق بمعنى الدفاع عن الحقيقة، أو بعبارة أخرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس من مختصات الرجل، بل هو من الأمور المشتركة بين الرجل والمرأة إن من شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشجاعة والصلابة، إن الشخص الجبان لا يمكنه أن يؤدي هذه الوظيفة في المجتمع، القرآن الكريم يقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فيه اختصاص بالرجل أو المرأة: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، (سورة التوبة، الآية: 71). وهو التعبير نفسه الذي جاء في الحديث، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته[2] ، وقد قلنا مراراً: إن الولي ليس معناه الصديق، بل هو بمعنى الحامي والوصي، المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وحتى ما جاء في القرآن (بعض وبعض) فمعناه لا يوجد أي فرق بينهما، ولدينا من هذا القبيل الكثير في مورد الرجل والمرأة، من بينهما قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض). (سورة النساء، الآية: 34).

قرأت في مقالة للسيد الموسوي الزنجاني ذكر فيها أمراً جميلاً جداً، قال: إن القرآن يقول: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) إنه لم يقل: بما فضل الرجال على النساء، بل إنه يريد بموجب مجموع الفضائل التي توجد لبعضهم بالنسبة للبعض الآخر الفضل الموجود لدى الرجل على المرأة من ناحية، وبموجب الفضل الموجودة في المرأة على الرجل من ناحية، تكون القيمة المالية وظيفة الرجل، وهو كلام صحيح جداً.

فإذن في الدفاع عن الحقيقة لا يوجد أي فرق بين الرجل والمرأة، وشرط كل دفاع الشجاعة.

الشجاعة والدفاع عن الحقوق الاجتماعية

في الدفاع عن الحق، بمعنى الدفاع عن الحقوق الاجتماعية وهو أصل إسلامي مسلم، ليس هناك اختصاص بالرجل أو المرأة (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)(سورة النساء، الآية: 148). إن كلمة (مَنْ) لا اختصاص لها بالرجل أو المرأة، وقوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وانهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا). (سورة الشعراء، الآيات: 224 ـ 227).

إن القرآن لا يشجع على الشعر بمعنى تلك التخيلات التي لا يراد منها إلا تحذير البشر والهاؤهم وافساد الإنسان ولكن الرسول قال: (إن من الشعر لحكمة) [3] ، الإسلام لا يخالف الكلام المنظوم فمن الممكن أن تكون في الشعر حكمة فلا يكون بذلك المعنى الذي يذمه القرآن، أولئك الشعراء الذين كانوا في ذلك العصر وفي أغلب الأزمنة يكون الشعراء كذلك، وان أمكن الحصول من بينهم على أفراد قلائل من مثل إقبال اللاهوري الشاعر صاحب المنهج الذي وظف شعره لخدمة هدفه ولم يعتبره فناً رخيصاً يستخدمه متى حلا له، يقول القرآن: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) يوماً يمدحون هذا ويمدحون غيره في يوم آخر، يمدحون في يوم شيئاً وفي اليوم الآخر يقولون بذمه، وهذا مظهر واضح لعدم الالتزام ولكن (إلا الذين آمنوا) وعلى حد تعبيرنا المنهجيون وأصحاب الهدف الذين يوقفون شعرهم على خدمة إيمانهم، إن الواقعيين يقولون: الأدب المتزن والشعر المتزن، وتقريباً كلام القرآن هو هذا الأمر، فإنه يخالف الشعر إلا الشعر المتزن (إلا الذين آمنوا وانتصروا من بعد ما ظلموا) أي الشعر الذي يكون للمظلوم في إثارة الناس ضد الظالم.

هذا أيضاً تعبير القرآن مطلق وعام وليس فيه اختصاص بالرجل أو المرأة، كذلك قول أمير المؤمنين في نهج البلاغة، “لا يمنع الضيم الذليل ولا يدرك الحق إلا بالجد”[4] .

فهذه عمومات (على قول الاُصوليين) لا تقبل التخصيص، لدى الاُصوليين كلام جميل جداً وهو أنهم يقولون: كثير من العمومات (أي الكليات) قابلة للتخصيص، نذكر قاعدة ثم نذكر لها مستثنيات، ولكن بعض العمومات تأبى الإستثناء أي أن لحنها ومنطقها يقول: لا يوجد في استثناء، ولا معنى أساساً للاستثناء فيها.

شجاعة الزهراء

هذه العمومات التي جاءت هنا لا تقبل التخصيص، وأحسن دليل عليها قضية الزهراء سلام الله عليها التاريخية، وقضية زينب الكبرى، إن قضية الزهراء تثير العجب حقاً، فمن جهة أن علياً والزهراء زوجان أظهرا عدم اعتنائهما بالمادة وجمع الثروة والدنيا وما فيها وقال الإمام: وما أصنع بفدك وغير فدك؟ والنفس مظانها إلى جدث.

ماذا يصنع بفدك؟ إنه رجل متحرر من الدنيا بجميع أبعادها المادية، وقد أظهر عدم اعتنائهما بفدك، ولكن من جهة أخرى من المسلم به تاريخياً، أن الزهراء بكت كثيراً في مرض الرسول الأكرم (ص) الذي مات فيه، فأسرّ لها رسول الله بشيء زاد من بكاها، وبعد ذلك أسر لها بشيء آخر تبسمت له وحينما سألوها عما أسر لها؟ قالت: أول مرة أخبرني أنه راحل عن هذه الدنيا لا محالة، فبكيت لفراقه، ولكن أخبرني فيما أسر لي ثانية (أني أول من سيلتحق به) وكان فرحي لهذا السبب.

وعلاوة على ذلك نعلم أنها كانت مريضة وملازمة للفراش، فكان من الواضح لديها أنه لم يبق من عمرها شيء، عندها يغتصبون منها فدك، إن فدك بما هي ثروة تفقد قيمتها عند الزهراء، إلا أن فدك بما هي حق مغتصب (ولابد من إحقاق الحق) ترتفع قيمته لدى الزهراء، بحيث تأتي بنفسها إلى مسجد المدينة (في حشد من نسائها) بحضور الخليفة، وتلقي خطبتها الغراء، تصفعُ بها خصمها، وتدافع عن حقها، لماذا لم تخف؟ هل كان موقفها على خلاف التربية الإسلامية؟ هل كان يقبح بالمرأة أن تأتي إلى مسجد المدينة وتطالب بحقها أمام عدة آلاف من الناس وتتكلم على مال الدنيا؟ كلا، ليس فيه قبح أصلاً، بل كان دفاعاً عن الحق، تلك الزهراء التي لا تبالي بالدنيا وما فيها بما هي مادة وثروة شخصية وسبب للترف والنزهة الفردية، وتلك الزهراء المطمئنة التي ستفارق الدنيا بعد عدة أيام، والإنسان عندما يعلم أنه سيموت بعد أيام قلائل تتلاشى أطماعه بأعراض الدنيا كلياً بما هي مدافعة عن الحق ولا ينبغي لها أن تترك الحق مضيعاً وأن تحيي سنة إضاعة الحقوق، تأتي بشجاعة تاُمة تدافع عن حقها، وتذهب بشخصها إلى بيت الخليفة وتأخذ الأمر منه، وبعد ذلك تأخذه منه بالعنف، وبعدها تحضر مع أمير المؤمنين في مسجد المدينة بشكل آخر وتحدث تطورات عجيبة أجبرت في نهايتها على مخاصمتهم بشكل رسمي.

شجاعة زينب الكبرى (ع)

أو قضية زينب (ع) لو كان الجبن جيداً للمرأة، بمعنى أنه خلق وسجية، لكان على زينب الكبرى أن تكون من أجبن النساء، افهل هناك من أجبر زينب لتأتي إلى بوابة الكوفة وتجهر بخطبها؟ أفهل يجبر شخص على الخطابة؟ إلا في مجلس ابن زياد، أفهل كان هناك من أجبرها على أن تقف بذلك الشكل تقرعه ـ الأمر الذي كان يحتمل أن يؤدي إلى قتلها وقتل من معها؟ والأفظع من هذا في مجلس يزيد مع كل تلك الغطرسة والذي يختلف كل الإختلاف عن مجلس ابن زياد، لأنه أولاً: كان ابن زياد حاكماً وأما يزيد فهو الخليفة، وثانياً: كان ابن زياد في الكوفة ويزيد في الشام، والشام باعتبار أنها كانت مجاورة للقسطنطينية فقد عمد معاوية بحجة اظهار هيبة المسلمين الظاهرية إلى أن يجعل من جهاز الشام جهازاً قيصرياً وكسروياً وسلطوياً، كان قصره عظيماً جداً، وقد وضعوا فيه الكراسي الذهبية وجلس السفراء والأمراء هناك، كان مجلساً ذا ابهة فريدة من نوعها، إلا أن هذه المرأة لم تعر هذه الظواهر أي اهتمام، وهي تقول ليزيد: إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك.

هل تتمكن المرأة الجبانة من أن تقدم على ذلك؟ كلا: فعلى أكثر التقادير كانت حياة زينب هناك في خطر فلتكن في خطر، فإنها في حالة لا تخاف الموت، هل كانت عزتها وشرفها في خطر، على العكس فقد زادت هذه الشجاعة من عزتها وشرفها.

فإذن هذا التفاوت مرتبط بوضع خاص لدى المرأة، وهذا التفاوت في السلوك لا في الخلق والشخصية، فمن نظر الشخصية الخلقية لا يوجد أي فرق بين الرجل والمرأة، وتعلم ان الرجل أيضاً لو صار في ظل ظروف معينة أميناً على المجتمع، فإن أراد حفظ الأمانات فلا وقت سخاء وشجاعة، بل ينبغي له أن يتصرف بتكبر وبشكل محتاط وممسك.
——————————————————————————–

[1] نهج البلاغة، الحكمة: 226.

[2] الجامع الصغير.

[3] ذكرت لهذا الحديث في كتاب الغدير مصادر عديدة.

[4] الخطبة رقم: 29.

شاهد أيضاً

عوامل التربية (2) الإحسان – اية الله مرتضى مطهري

عوامل التربية (2) الإحسان ـ تقوية شعور البحث عن الحقيقة ـ المراقبة والمحاسبة من المسائل ...