وإذا تولّى الله عبده، يخرجه من الظلمات إلى النور (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)( [107]). عند ذلك لا يستوي حال هذا العبد مع حال غيره من الناس الذين لم يرزقوا ذلك النور ، قال تعالى : (أَوْ كَظُلُمَات فِي بَحْر لُجِّىّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور)( [108]). أمّا هذا العبد المؤمن الذي شملته الولاية الالهية، فإنّ له نوراً يمشي به في الناس، قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا)( [109]).
فإذا وصل العبد إلى هذا المقام، يكون نظره بنور الله «فيرى ما لا يراه الناس، ويسمع ما لايسمعونه، ويعقل ما لا يعقلونه، ويريد ما لا يريدونه، وإن كانت ظواهر أعماله وصور حركاته وسكناته تحاكي أعمال غيره وحركاتهم وسكناتهم وتشابهها، فله شعور وإرادة فوق ما لغيره من الشعور والارادة، فعنده من الحياة التي هي منشأ الشعور والارادة، ما ليس عند غيره من الناس، فللمؤمن (المتّقي حقيقة) مرتبة من الحياة ليست عند غيره.
فكما أنّ عموم الناس يشاركون سائر الحيوان في الشعور بواجبات الحياة والحركة الارادية، ويشاركها الحيوان، لكنّ مع ذلك لا نشكّ أنّ الانسان نوع أرقى من سائر الانواع الحيوانية، وله حياة فوق الحياة التي فيها، لما نرى في الانسان آثاره العجيبة المترشّحة من أفكاره الكلّية وتعقّلاته المختصّة به، ولذلك نحكم في الحيوان إذا قسناه إلى النبات، وفي النبات إذا قسناه إلى ما قبله من مراتب الوجود، أنّ لكلّ منها درجة أعلى وحياة هي أرقى من حياة ما قبله.
كذلك الانسان الذي أُوتي العلم والايمان واستقرّ في دار الايقان، واشتغل بربّه، وفرغ واستراح من غيره، وهو يشعر بما ليس في وسع غيره، ويريد ما لا يناله سواه، إنّ له حياة فوق حياة غيره، ونوراً يستمدّ به في شعوره، وإرادة لا توجد إلاّ معه وفي ظرف حياته»( [110]).
لذا نجد أنّ القرآن عندما يأتي إلى أولئك الذين تولاّهم الشيطان، فأخرجهم من النور إلى الظلمات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)( [111])، يقول عنهم: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولـئِكَ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)( [112]). فيثبت لهم أمثال القلوب والاعين والآذان التي في المؤمنين، لكنّه ينفي كمال آثارها التي في المؤمنين.
ولعلّ هذا هو مراد الحديث الوارد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من طرق الفريقين حيث قال: «وإنّه (أي العبد) ليتقرّب إليَّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته»( [113]) وقيل في معناه «إنّه لا يسمع إلاّ بحقّ وإلى حقّ، ولا ينظر إلاّ بحقّ وإلى حقّ، ولا يبطش إلا بإذن الحقّ، ولا يمشي إلاّ إلى ما يرضى به الحقّ، وهو المؤمن حقّاً، الذي راح عنه كلّ باطل، وصار واقفاً مع الحقّ»( [114]).
فتحصّل إلى هنا أنّ الانسان يصل بالتقوى إلى مقام يكون محبوباً لله تعالى، وإذا أحبّ الله عبداً تولاّه، وإذا تولاّه كان آمناً من الخوف والحزن والفزع، و أنّ مثل هذا العبد ـ كما تقول الروايات ـ يكون في حصن الله. عن الامام الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله عزّوجلّ يقول: لا إله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي»( [115]).
من الواضح أنّ ذلك لا يتحقّق إلاّ بشروطها، وهي كما ورد في جملة من الروايات: الايمان بالامامة الخاصّة لائمّة أهل البيت (عليهم السلام) والطاعة والتسليم لهم، لذا ورد في ظل الرواية «فلما مرّت الراحلة، نادانا بشروطها، وأنا من شروطها».
وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «من قال: لا إله إلاّ الله مخلصاً دخل الجنّة، وإخلاصها أن تحجزه لا إله إلاّ الله عمّا حرّم الله عزّوجلّ»( [116]).
وكيفما كان فإذا صار العبد في حصن الله تعالى، فسيكون في مأمن من سهام إبليس وإغوائه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)( [117]) والطائف من الشيطان هو الذي يطوف حول القلب ليلقي إليه الوسوسة.
والآية بمنزلة التعليل للامر بالاستعاذة الواردة في الآية السابقة: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)( [118]).
والنزغ كما قال الراغب في المفردات: «دخول في أمر لاجل إفساده، قال تعالى: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)، وقيل: هو من الشيطان أدنى الوسوسة.
وعلى هذا يكون معنى الآية «استعذ بالله عند نزغة الشيطان، فإنّ هذا هو طريق المتّقين، فهم إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا أنّ الله هو ربّهم الذي يملكهم ويربيهم ويرجع إليه أمرهم، فأرجعوا إليه الامر، فكفاهم مؤنته، ودفع عنهم كيده، ورفع عنهم حجاب الغفلة، فإذا هم مبصرون غير مضروب على أبصارهم بحجاب الغفلة»( [119]).
فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)( [120]).
بهذا يتّضح معنى الرحمة الخاصّة التي وعدها الله المتّقين من عباده (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ)( [121])، فإنّ هناك «رحمة إلهية عامّة يتنعّم بها المؤمن والكافر والبرّ والفاجر وذو الشعور وغير ذي الشعور، فيوجدون بها ويرزقون بها في أوّل وجودهم، ثمّ في مسيرة الوجود ما داموا سالكين سبيل البقاء. ورحمة إلهية خاصّة وهي العطية الهنيئة التي يجود بها الله سبحانه في مقابل الايمان والعبودية، وتختصّ لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده، من حياة طيّبة نورانيّة في الدنيا، وجنّة ورضوان في الآخرة، ولا نصيب فيها للكافرين والمجرمين.
ويقابل الرحمة الخاصّة عذاب، وهو الذي يصيب الكافرين والمجرمين من جهة كفرهم وجرمهم في الدنيا، كعذاب الاستئصال والمعيشة الضنك، وفي الآخرة من النار وآلامها، ولا يقابل الرحمة العامّة شيء من العذاب، إذ كلّ ما يصدق عليه اسم شيء، فهو من مصاديق الرحمة العامّة لنفسه أو لغيره، وكونه رحمة هي المقصودة في الخلقة، وليس وراء الشيء شيء»( [122]).
بهذا يتّضح لماذا كان الانبياء جميعاً يحثّون أممهم على التقوى. (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ)( [123])، (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ)( [124])، (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ)( [125])، (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ)( [126])، (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ)( [127])، (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ)( [128]).