د. احمد راسم النفيس – مصر – شافعي
1 نوفمبر,2017
صوتي ومرئي متنوع, قصص وعبر
1,459 زيارة
د. احمد راسم النفيس – مصر – شافعي
فهرس المطالب:
ولد عام 1372هـ في مدينة “المنصورة” بجمهورية مصر العربية، كان أبوه من رجال التعليم، وأما جده فكان عالماً من علماء الأزهر الشريف يقوم بالخطابة في مسجد القرية، وكان له “منتدى” يجتمع فيه المثقفون من أبناء هذه القرية، يتعلمون على يديه العلوم الدينية والفقهية والأدبية.
الأجواء التي نشأ فيها:
يقول الدكتور أحمد: تفتحت عيناي على أسماء الكتب والمؤلفات الحديثة…، وكم دارت مساجلات في بيتنا حول الشعر والأدب بين أبي (رحمة الله عليه) وبين اصدقائه من الشعراء والأدباء الذين حفلت بهم أنئذ مدينة المنصورة…، فتعلمت من أبي وجدي (رحمة الله عليهما) حبّ القراءة والاطلاع، وقرأت كل ما وقع تحت يدي من كتب اثناء طفولتي إلا كتاب واحد عجزت عن مواصلة القراءة فيه، ووهو “أبناء الرسول في كربلاء” للكاتب المصري خالد محمد خالد، حيث كنت أجهش بالبكاء في اللحظة التي أمسك فيها الكتاب وأعجز عن مواصلة قراءته….
الأجواء الجامعية التي عاشها:
توجّه الدكتور أحمد بعد ذلك إلى الدراسة الاكاديمية حتى حصل عام 1970هـ على الثانوية العامة بمجموع أهله للدخول في كلية الطب بمدينة المنصورة، وفي الكلية بادر الدكتور أحمد إلى الالتحاق باتحاد الطلبة، لأنّه وجده افضل مكان يتيح له العمل في المجال الثقافي، ومن هذا المنطلق تفتحت ذهنيته على الصراعات الفكرية والسياسية التي امتلأت بها الساحة المصرية في اوائل السبعينات.
فيصف الدكتور أحمد اوضاع تلك الحقبة الزمنية قائلا: كان التيار الشيوعي لا يزال نشطاً من خلال الموقع التى احتلها في الحقبة الناصرية. والواقع أن الحجم الإعلامي لهذا التيار تجاوز بكثير حجمه الحقيقي، وكان التيار الديني يتحرّك بصورة خجولة محاولا اكتساب بعض المواقع، وكان من الطبيعي أن يحدث الصدام بين التيارين المتناقضين، وخاصة أنّ التيار اليساري كان يتحرَّك بصورة مستفِزّة للجميع.
ويضيف الدكتور أحمد: في عام 1975م وبعد سلسلة من الاستفزازات اليسارية، خضنا الانتخابات الطلابية تحت راية التيّار الإسلامي في مواجهة التيار اليساري، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة لليسار وانتصار باهر للتيار الإسلامي، وتسلمت رئاسة الطلاب بكلية طب المنصورة لعامين متتالين.
أوّل التفاتته الجادّة للتشيع:
انتصرت الثورة الاسلامية في ايران 1979م، فكان لهذا الحدث اكبر تأثير في اعجاب الدكتور أحمد بهذا الشعب المسلم الذى تلقى الرصاص بصدره واستعذب الشهادة والتف حول قائدة بحماس حتى حقق لنفسه النجاح والانتصار.
يقول الدكتور أحمد: “ضايقني أن يكون ذلك الشعب “منحرف العقيدة” كما وصفه بعضهم من غير المنصفين،… وعندما حاولنا طباعة كتيّب لمناصرة الثورة الاسلامية في ايران، رفض ذلك بعض رفاقنا في العمل الثقافي، ولم يكن بوسعي يومها إلا السكوت، فليست هناك مصادر للمعرفة حول هذا الأمر”.
التشنيع العام ضد التشيّع:
بقي الدكتور أحمد متأنياً في اتخاذه الموقف ازاء الثورة الاسلامية في ايران، وبقي على هذه الحالة حتى وقعت الحرب العراقية الايرانية.
فيقول الدكتور أحمد في هذا المجال: “في الآونة (1982 ـ 1985) كانت هذه الحرب على أشدها، وفجأة تحوّل جزء من النفط عن مساره المعهود في تمويل آلة الحرب العراقية،… وفي هذه الآونة أمطرت الساحة المصرية بوابل من الكتب الصفراء التي تتهجّم على المسلمين الشيعة، وانطلق التيار السلفي ليقوم بالدور المرسوم له في مهاجمة المسلمين الشيعة وبيان بطلان عقائدهم. ومن الواضح تماماً أنّ هؤلاء كانوا ينفذون خطاً مرسوماً ومدعوماً، بل ويحاولون الايحاء بأنّ وراء التشيع في الجمهورية الاسلامية خطاً عنصرياً فارسياً في مواجهة الاسلام العربي! وهذه مقولة تكشف بوضوح الرؤية البعثية العراقية التي امتطت ظهر السلفية”.
دواعي اختياره لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) :
يقول الدكتور أحمد حول أسباب تركه لانتمائه السابق وتمسكه بمذهب التشيع: كنت في سفرة عائلية في أحد أيام صيف عام 1984 م، فعثرت في احدى المكتبات على كتاب عنوانه: “لماذا اخترت مذهب أهل البيت؟”، فاستأذنتُ في أخذه، ولم يكن أحد يعبأ به أو يعرف محتواه فأخذت الكتاب، وقرأته، فتعجبت، ثم تعجبت كيف يمكن لعالم أزهري هو الشيخ محمد مرعي الأمين الأنطاكي مؤلف الكتاب أن يتحول إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، فأرقتني هذه الفكرة آونة، وقلت في نفسي: هذا الرجل له وجهة نظر ينبغي احترامها، فلم أقرر شيئاً أنئذ واحتفظت بالكتاب.
وبعد عام وفى التوقيت نفسه، وفي المكان نفسه، عثرت على الكتاب الثاني: “خلفاء الرسول الاثنا عشر” فقرأته وفهمته ولم أقرر شيئاً، ولكنني شعرت بأنني اقترب بصورة تدريجية إلى فكر أهل البيت (عليهم السلام) .
ويضيف الدكتور أحمد: مضت أيام، وكان هناك معرض للكتاب في كلية الطب بالمنصورة، فمررت به فوجدت كتاباً بعنوان “الإمام جعفر الصادق” تأليف المستشار عبد الحليم الجندي، طبعة مجمع البحوث الاسلامية 1997م.
فقلت في نفسي: هذا كتاب عن الإمام جعفر الصادق من تأليف كاتب مصري سُنّي، وصادر من قبل مؤسسة رسمية قبل قيام الثورة الاسلامية في ايران، فأخذته وقرأته وتزلزل كياني لما فيه من معلومات عن أهل البيت (عليهم السلام) طمستها الأنظمة الجائرة وكتمها علماء السوء، فان القوم لا يطيقون أن يذكر آل محمد بخير.
فعدتُ إلى الكتابين السابقين، وأخرجت ما فيهما من المعلومات، ووجدتها جميعها من مصادر سُنية، فقلت في نفسي: لعلّ المسلمين الشيعة كذَّبوا فاوردوا على الناس ما لم يقولوه! فلنعد إلى هذه المصادر بنفسها، فقمتُ بعملية جرد دقيق لجميع هذه الكتب، سواء منها ما كان في مكتبتي الخاصة، أم كان كان في مكتبة جمعية الشبان المسلمين، وتحققت فعلاً من صحة هذه المعلومات.
مرحلة الانتماء إلى مذهب التشيع:
يقول الدكتور أحمد: لم تمض إلا أسابيع بعد البحث الجاد والمقارنة بين المذهب السني والمذهب الشيعي إلا وكانت المسألة محسوسة تماماً من الناحية العقائدية، ثم التقيت بواحد من الأصدقاء القدامى الذي وجدته على هذا الأمر، وبدأنا في دراسة بعض الاحكام الفقهية اللازمة لتصحيح العبادات.
وكنت مشغولاً في هذا الوقت في إنهاء رسالة الدكتوراه، حتى أنني اقفلت عيادتي للتفرغ للعمل بهذه الرسالة، وقبلت في نيسان عام 1986 وبدأت اتأهب لدخول امتحانات الدكتوراه في تخصص “الباطنية العامة”. فاقبلت على القراءة العلمية وكانت راحتي ومتعتي الوحيدة إذا اصابني الملل من القراءة في الطب، هي اللجوء إلى كتب أهل البيت (عليهم السلام) .
ردود الفعل الاجتماعية:
لم تمض فترة قصيرة من شيوع خبر استبصار الدكتور أحمد إلاّ وبادر أصحاب العقليات المنغلقة بالصاق تهمة الانحراف الفكري والخلل والعقلي بشخصية الدكتور، ثم تصدى البعض لتسقيط شخصيته والاطاحة بسمعته، بحيث أدى هذا الأمر إلى مقاطعة من قبل جمع غفير من الناس.
فيقول الدكتور أحمد: كنت أتساءل بيني وبين نفسى عن سر هذا العداء والشراسة في مواجهة كل من ينتمى إلى خط آل بيت النبوة، وما هي الجريمة التي ارتكبها أولئك المنتمون؟
ويضيف أيضاً: ثم اخذ التآمر شكلاً آخر، وخطّط البعض لإخراجي من عملي بالجامعة، فبذلوا اقصى جهدهم لذلك وحاولوا استخدام كل ما لديهم من وسائل، ومن هنا تم تأخير حصولي على الدكتوراه من عام 1987م حتى 1992 م ست سنوات كاملة من الضغوط الوظيفية والمعاشية كي يجبروني على تغيير عقيدتي لكنهم لم يستطعيوا أن يزعزعوا أنملة من التزامي بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) .
مؤلفاته:
(1) “الطريق إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) “:
صدر عن مركز الغدير / بيروت سنة 1418 هـ ـ 1997 م.
جاء في مقدمة الناشر: “يروى لنا في مؤلفه هذا قصه سعيه إلى هذه المعرفة وتوصله إليها في رحلة طويلة بدأت منذ نشأته في اسرة علمية واتصلت في المدرسة والمحيط والجامعة وفي دروب الحياة الملأى بالاحداث…
وتبين للمسافر في سبيل المعرفة في نهاية الرحلة، ان سفينة النجاة للامة الاسلامية تتمثل في أهل بيت النبوة، فطوبى لمن اهتدى الى هذه السفينة وانضوى تحت شراعها”.
يمكن تقسيم الكتاب إلى قسمين: القسم الأول يتعرض فيه إلى تعرفه على التشيع ومراحل ذلك، والقسم الثاني يتعرض لبحث الإمامة ويدعم إمامة أهل البيت من القرآن والسنة، كما يتعرض لصلح الإمام الحسن (عليه السلام) وقيام الإمام الحسين (عليه السلام) .
(2) “على خطى الحسين”:
صدر عن مركز الغدير سنة 1418 هـ ـ 1997م.
جاء في تقديم الناشر: “يمهد المؤلف بالحديث عن رؤيا للنبي(صلى الله عليه وآله) تكشف ان ملوك السوء سيرتقون منبره من بعده، فيحذر منهم ويدعو إلى نصرة سبطه الامام الحسين (عليه السلام) ، ويعين جماعة المنافقين ثم يبحث بشي من التفصيل في تحقق هذه الرؤيا، فيتحدث في فصل أول، عن ابناء الشجرة الملعونة وهم روّاد الفتنة في الاسلام، وتبين أسس بوصفهم الخارجين على قيادة الامة الشرعية، ويقارن هذا الخطاب الشرعية، ويحدد مفهوم الفتنة وملابسات خديعة التحكيم واسباب وقوع فئة من المسلمين فيها، وفي فصل ثان عن قيام “ارباب السوء” ويتبين أسس شريعته، ويتبع المحاولات التي قاومت هذا النهج المزيف، وعملت على احياء قيم الاسلام. وفي فصل ثالث عن الثورة الحسينية بوصفها نهوضاً بمهمة حفظ الدين فتبين نهجها، ويتتبع مراحلها:
التمهيد، والتصميم والتخطيط، اكتمال عناصر التحرك، الهجرة الثانية: من مكة إلى الكوفة، في الطريق إلى كربلاء، ويناقش هذا السياق آراء بن كثير الذي حاول اخفاء الحقيقة وناقض نفسه، وفي فصل رابع “كربلاء: النهوض بالأمة المنكوية” ويكشف ان الموقف الحسيني معيار وقدوة، ويتجلى هذا الموقف في مواجهة إمام الحق لإمام الباطل، حيث تتبين الحقيقة وتقام الحجة، وتستنهض الأمة”.
المقالات:
(1) “فقه التغيير بين سيِّد قطب والسيد محمد باقر الصدر”:
نشرته مجلة المنهاج التي تصدر في بيروت ـ العدد السابع عشر 1421هـ ـ ربيع 2000م.
مما جاء في هذه المقالة: “التاريخ لقضية التغيير في مدرسة أهل البيت يبدأ في موعد مبكر عن التاريخ للمسألة نفسها في فكر سيد قطب، ولأسباب تختلف تماماً عن الأسباب المودعة في ملف تلك القضية عند مدرسة “الاخوان المسلمين” التي نبت فيها سيد قطب.
مدرستان:
إذن فنحن أمام مدرستين: مدرسة ترى أنّ العلة التي ضربت الأمة الإسلامية، بعد كمالها وتمامها، إنما تنبع من تبنيها لمفاهيم خاطئة لشهادة أن لا إله إلاّ الله وتنحية الشريعة الاسلامية جانباً، ومن ثمّ انقطع وجود الأمة الإسلامية، وأصبحنا نعيش في جاهلية معاصرة، ولا خروج من هذا الظلام إلاّ بظهور طليعة تعيد اعتناق الاسلام وتجعل إعلان الشهادتين معلّقاً بتأكيد مفهوم الحاكمية واعتباره ركناً اساسياً من اركان الشهادتين. وان هذه الطليعة عليها ان تواجه البشرية كما واجهتها الطليعة الاولى من المسلمين التي التفت حول رسول الله(صلى الله عليه وآله)واستعلاء على الجاهلية المعاصرة ومواجهة لها بالقوة والجهاد والهجومي لا زالة جميع العوائق.
وبالنسبة للأمور الفقهية ومسائل الاجتهاد، فهي مسائل سهلة وميسرة، ويمكن الاستعانة بأي كتاب فقهي في مكتبة المجاهدين لتحقيق الغرض، وبخاصة أنّه لا اجتهاد مع النص، إنها وصفة سهلة ومبسطة!
أما في مدرسة الشهيد الصدر، فالأمة الإسلامية تمضي في مسيرة تكاملية تتحرك نحو غاية مطلقة هي الله عزّوجلّ، وهي في مسيرها الطويل المستمر نحو المثل الاعلى، ستواجهها المثل المنخفضة من حكام ذلك الزمان وحكام هذا الزمان، ومن “وعاظ السلاطين” فضلا عن مواجهتها لـ “مثل عليا” اخرى من صنع البشر من الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.
فالمسألة إذن ليست مجرَّد قرار باعلان الثورة، أو اعادة اعتناق “لا إله إلا الله” من جديد، أو مواجهة المجتمع المسلم بتكفيره، بل هي مسألة مسير متواصل نحو الله لا تحدَّه حدود ولا تقيده قيود نحو المطلق في إطار أصول الدين الخمسة:
التوحيد والنبوة والامامة والعدل والمعاد. تلك الاصول التي لم يتطرق سيّد قطب إلى الحديث عنها، باعتبار ان العامل الأساس في فكره هو مسألة تطبيق الشريعة الاسلامية، ومع ذلك لاحظنا مدى البساطة التي تعامل من خلالها مع تلك القضية الجوهرية…
لم يكن سيد قطب صاحب مشروع ثوري بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، إنها ثورية ناقصة تخاصم الهة المرحلة الراهنة. وتثني على الهة المراحل السابقة خير الثناء، وتكيل لهم جميع اصناف المديح.
وعلى كل حال، فقد ظهرت ثمار ذلك الزرع واخفقت تلك الحركات في الوصول إلى أي نتيجة نافعة لها، أو للمجتمعات التي تحركت فيها. ونحن نقول هذا من موقف الاعتبار والتأمل الحقيقي، لان المراجعة الجذرية تثبت ان الخلل الرئيسي كان بسبب موقف هؤلاء السلبي من قضية الامامة بوصفها حجر الزاوية، والركن الاساس في بناء الامة ومحاولة اعادة وجودها الفاعل إلى ساحة التاريخ”.
وقفة مع كتابه: “على خطى الحسين”
هذا الكتاب يمثل إحدى محاولات استلهام ملحمة كربلاء التي اسست نهجاً في مقاومة الطغيان، وشقت درباً يسير على هدية الساعون إلى الحق، ومثلت الخطى التي سارها الإمام الحسين (عليه السلام) هجرة ثانية تعيد سيرة هجرة جدّه المصطفى(صلى الله عليه وآله) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
ونبدأ مع الكتاب في عرضه للصراع الاسلامي ـ الأموي في معركة صفين:
شهدت “صفّين”، وهي مكان يقع بالقرب من شاطىء الفرات بين الشام والعراق. “واقعة صفّين”، التي دارت بين جيش الإمام علي الذي يمثل القيادة الشرعية للأمة الإسلامية وبين جيش القاسطين الظالمين، بقيادة معاوية بن آكلة الأكباد ووزيره الأول عمرو بن العاص.
توشك النبوءة أن تتحقَّق، يوشك من حذَّر رسول الله(صلى الله عليه وآله)، منهم أن يتسنموا منبره. الصراع محتدم بين قيم الإسلام لمحمدي الأصيل، كما يمثله إمام الحق علي بن أبي طالب (عليه السلام) والفئة الباغية بقيادة ابن آكلة الأكباد ووزيره الأول ابن النابغة. وسنعرض نماذج متقابلة لخطاب كل فريق من الفريقين ولسلوكه، ثم نرى النهاية الفاجعة لهذا الصراع، أو نهاية البداية لفجر الإسلام المضيء، على يد هذه العصابة، وهو عين ما حاولوه يوم عقبة تبوك، فلم يحالفهم التوفيق.
خطاب رواد الفتنة، الخارجين على القيادة الشرعيّة:
رفع معاوية بن أبي سفيان شعار الثأر لعثمان بن عفان، فهل كان ابن آكلة الأكباد ووزيره الأول صادقّيْن في دعواهما؟ فلنقرأ سوياً في صفحات التاريخ.
روى ابن جرير الطبري، في تاريخه: “لما قتل عثمان قدم النعمان بن بشير على أهل الشام بقميص عثمان ووضع معاوية القميص على المنبر، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه (أصابع نائلة زوجة عثمان) وآلى الرجال من أهل الشام ألاّ يأتوا النساء ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم، فمكثوا حول القميص سنة، والقميص يوضع كل يوم على المنبر ويجلله أحياناً فيلبسه، وعلق في أرادنه أصابع نائلة”.
“ثم مضى معاوية ينشر في الناس أن عليّاً (عليه السلام) قتل عثمان”(1). كان هذا هو الشعار المعلن، فهل كان هذا الشعار يمثل الحقيقة؟، فلنقرأ أولاً في تاريخ عمرو بن العاص.
الشعار المعلن وحقيقته، الاستحواذ على السلطان:
وروى الطبري، أيضاً: “لما بلغ عمراً قتل عثمان…، قال: أنا أ بو عبد الله قتلته [يعني عثمان] وأنا بوادي السباع، من يلي هذا الأمر من بعده؟ إن يَلِه طلحة فهو فتى العرب سيْبا، وإن يَلِه ابن أبي طالب فلا أراه إلاّ سيستنطق الحق وهو أكره من يليه إليّ. قال: فبلغه أن عليّاً قد بويع له، فاشتد عليه وتربّص أياماً ينظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة، وقال أستأني وأنظر ما يصنعون، فأتاه الخبر أن طلحة والزبير قد قتلا، فارتج عليه أمره فقال له قائل: إن معاوية بالشام لا يريد أن يبايع لعلي، فلو قاربت معاوية، فكان معاوية أحب إليه من علي بن أبي طالب. وقيل له: إن معاوية يعظم شأن قتل عثمان بن عفان ويحرض على الطلب بدمه، فقال عمرو: ادعوا لي محمداً وعبد الله فدُعيا له، فقال: قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان… وبيعة الناس لعلي وما يرصد معاوية من مخالفة علي، وقال: ما تريان؟ أما علي فلا خير عنده وهو رجل يدل بسابقته، وهو غير مشركي في شيء من أمره، فقال عبد الله بن عمرو:
… أرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه، وقال محمد بن عمرو، أنت ناب من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت ولا ذكر، قال عمرو: أما أنت، يا عبد الله، فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي واسلم في ديني، وأما أنت، يا محمد، فأمرتني بالذي هو أنبه لي في دنياي وشرّ لي في آخرتي. ثم خرج عمرو بن العاص، ومعه ابناه، حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان.
فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو. فقال ابنا عمرو لعمرو: ألاترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك، انصرف إلى غيره، فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة، إن في النفس من ذلك ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية وعطف عليه”(2).
هذا هو حال الوزير الأول، فهو نفسه ممن ألبّوا على عثمان وهو القائل: “أنا أبو عبد الله، قتلته وأنا بوادي السباع”، وهو المقرّ بأن انضمامه لابن آكلة الأكباد إنما هو من أجل الدنيا”.
أمّا معاوية، صاحب القميص الذي صار مضرباً للمثل على الادعاءات الكاذبة، فنورد فقرة من خطبته التي استهل بها عهده المشؤوم. روى أبو الفرج الأصفهاني فى مقاتل الطالبيين: “لما انتهى الأمر لمعاوية، وسار حتى نزل النُخَيْلة وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة”. وأورد بعض مقاطعها ومنها:
“ما اختلفت أمة بعد نبيها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها… فندم فقال: إلاّ هذه الأمة فإنها وإنها…”.
“ألا إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمّي هاتين لا أفي به”.
“إني والله ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجوا، ولا لتزكّوا، إنكم لَتَفْعَلُون ذلك. وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون”(3).
هل كان ابن آكلة الأكباد ووزيره الأول عمرو بن العاص يطالبان بدم عثمان أو أن السلطة كانت هدفاً لهما؟ وهل يبقى شك; بعد قراءتنا خطاب كل منهما في طبيعة الادعاءات المرفوعة من قبل الفئة الباغية والصورة الحقيقية لحركة الردّة التي ما كان لها ان تحقق هدفها لو لا تخاذل بعض المسلمين ووهن بعضهم الآخر.
كانت هذه هي الأهداف الحقيقية: “الاستحواذ على السلطة” و “إذلال المؤمنين”، وهي تختلف عن الأهداف الدعائية: “الثأر من قتلة عثمان”.
وسائل التأمّر على الناس:
أما عن الوسائل التي اتبعها ابن آكلة الأكباد من أجل تحقيق غاياته الشيطانية (وهي إقامة حكومة من بدوا في رؤيا رسول الله(صلى الله عليه وآله) “قردة”، في مواجهة حكومة العدل الإلهية) فهي في المستوى نفسه، ومن نماذجها نذكر:
أولاً: الرشوة والإغراء بالمناصب وإليك النموذج الآتي، حاول معاوية رشوة قيس بن سعد بن عبادة، والي الإمام علي على مصر، فكتب له: “… فإن استطعت، يا قيس، أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل. تابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقَيْن، إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطاني. وسلني غير هذا مما تحب فإنك لا تسألني شيئاً إلاّ أوتيته”(4).
أما رد قيس بن سعد بن عبادة، رضوان الله عليه، على ابن آكلة الأكباد فكان ردّاً مخرساً فقد كتب إليه: “بسم الله الرحمن الرحيم، من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد، فإن العجب من اغترارك بي وطمعك في، واستسقاطك رأيي، أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة وأقولهم للحق وأهداهم سبيلاً وأقربهم من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وتأمرني بالدّخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزّور وأضلّهم سبيلاً، وأبعدهم من الله عزّوجلّ ورسوله(صلى الله عليه وآله)، وسيلة، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس. وأما قولك إني مالىء عليك مصر خيلاً ورجلاً، فو الله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهم إليك، إنك لذوجد، والسلام”(5).
ثانياً: الاغتيال السياسي جاء في تاريخ الطبري: “فبعث عليُّ الأشتَر أميراً إلى مصر حتى إذا صار بالقلزم، شرب شربة عسل كان فيها حتفه، فبلغ حديثهم معاوية وعمراً، فقال عمرو: إن لله جنوداً من عسل”(6).
ثالثاً: الاختلاق والخداع جاء في تاريخ الطبري: “ولما أيس معاوية من قيس أن يتابعه على أمره، شق عليه ذلك لما يعرف من حزمه وبأسه، وأظهر للناس قبله أن قيس بن سعد قد تابعهم فادعوا الله وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه. قال: واختلق معاوية كتاباً من قيس، فقرأه على أهل الشام”(7).
رابعاً: الإغارة على المدنيين وقتل النساء والأطفال ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه:
1 ـ “وجّه معاوية، في هذا العام، سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل وأمره أن يأتي “هيت”، فيقطعها، وأن يغير عليها ثم يمضي حتى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها”(8).
2 ـ “وجّه معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء، وأمره أن يصدق (يأخذ صدقة المال) من مرَّ به من أهل البوادي، وأن يقتل من امتنع من إعطائه صدقة ماله. ثم يأتي مكة والمدينة والحجاز ويفعل ذلك”(9).
3 ـ وجّه معاوية الضحّاك بن قيس، وأمره أن يمر بأسفل واقصة، وأن يغير على كل من مر به ممن هو في طاعة علي من الأعراب، ووجّه معه ثلاثة آلاف رجل فسار، فأخذ أموال الناس وقتل من لقي من الأعراب، ومر بالثعلبية فأغار على مسالح علي، وأخذ أمتعتهم ومضى حتى أنتهى إلى القطقطانة فأتى عمرو بن عميس بن مسعود، وكان في خيل لعلي وأمامه أهله وهو يريد الحج، فأغار على من كان معه وحبسه عن المسير، فلما بلغ ذلك علياً سرّح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف وأعطاهم خمسين خمسين، فلحق الضحّاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، وقتل من أصحابه رجلان وحال بينهم الليل فهرب الضحّاك وأصحابه ورجع حجر ومن معه(10).
4 ـ في عام 40هـ، أرسل معاوية بن أبي سفيان بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز حتى قدموا المدينة، وعامل علي على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري، ففر منهم أبو أيوب، وأتى بسر المدينة فصعد المنبر وقال: يا أهل المدينة، والله لو لا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها محتلماً إلاّ قتلته. ثم مضى بسر إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملاً لعلي، فلا بلغه مسيره فرَّ إلى الكوفة حتى أتى علياً، واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي على اليمن، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه، ولقي بسر ثقل عبيد الله بن عباس وفيه ابنان له صغيران فذبحهما، وقد قال بعض الناس أنه وجد ابني عبيد الله بن عباس عند رجل من بني كنانة من أهل البادية، فلما أراد قتلهما قال الكناني: علام تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني، قال: أفعل، فبدأ بالكناني فقتله ثم قتلهما، وقتل في مسيره ذلك جماعة كثيرة من شيعة علي باليمن. ولمَّا أرسل علي جارية بن قدامة في طلبه هرب”(11).
تلك هي لمحات من أهداف الدولة الأموية وملامحها وأساليبها في الوصول إلى هذه الأهداف. لا فارق بين معاوية وصدّام حسين وهتلر. الغاية، عند كل هؤلاء، تبرر الوسيلة، بل ونزعهم أن ابن آكلة الأكباد، على قرب عهد بالنبوة، أشد وزراً من صدّام حسين الذي قتل النساء والأطفال واستخدم السلاح الكيمياوي في قتل الأبرياء، فصدّام حسين لم يرَ رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولا سمع منه ولا ادعى له بعض المؤرخين أنه كان كاتباً للوحي، إلى آخر هذه الادعاءات التي يمزج فيها الحق بالباطل.
خطاب قيادة الأمة الشرعيّة، (وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ):
على الجانب الآخر كان معسكر الحق، معسكر القيادة الشرعية للأمة الإسلامية، قيادة أهل البيت، ورمزها يومئذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، يجاهد للحفاظ على الإسلام نقياً صافياً.
وكان هذا هو الهدف الحقيقي الذي تهون من أجله كل التضحيات.
كان الإمام علي (عليه السلام) ومن حوله كوكبة المؤمنين الخلص من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله).
روى ابن أبي الحديد، في شرح نهج البلاغة، نقلاً عن “كتاب صفّين” لنصر بن مزاحم: “خطب علي (عليه السلام) ، في صفيّن، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإن الخيلاء من التجبُّر، وإن النَّخوة من التكبر، وإن الشيطان عدوٌّ حاضر، يعدُكم الباطل. ألا إنّ المسلم أخو المسلم فلا تنابذُوا ولا تجادلوا، ألا إنّ شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة، من أخذ بها لَحِق، ومن فارقها مُحِق، ومن تركها مَرَق، ليس المسلم بالخائن إذا ائتمِن، ولا بالمخلِف إذا وعد، ولا بالكذاب إذا نطق. نحن أهل بيت الرحمة، وقولنا الصدق، وفعلنا الفضل، ومنا خاتم النبيين، وفينا قادة الإسلام، وفينا حملة الكتاب.
ألا إنا ندعوكم إلى الله ورسوله، وإلى جهاد عدوِّه والشدَّة في أمره، وابتغاء مرضاته، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجِّ البيت، وصيام شهر رمضان، وتوفير الفيء على أهله. ألا وإنّ من أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي سفيان الأموي وعمرو بن العاص السهميَّ، يحرِّضان الناس على طلب الدِّين بزعمهما، ولقد علمتم أني لم أخالف رسول الله(صلى الله عليه وآله) قط، ولم اعصمه في أمر، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال، وترعد فيها الفرائص، بنجدة أكرمني الله سبحانه بها، وله الحمد. ولقد قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإنّ رأسه لفي حِجْري، ولقد وَليتُ غسله بيدي وحدي، تقلِّبه الملائكة المقربون معي. وأيّم الله ما اختلفت أمةٌ قط، بعد نبيها، إلاّ ظهر أهلُ باطلها على أهلِ حقها إلاّ ما شاء الله”(12).
لنسمع الكلمات المضيئة لأبي الهيثم بن التّيهان وكان من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بدريًّا نقيباً عقبيّاً يسوِّي صفوف أهل العراق، ويقول: “يا معشر أهل العراق، إنه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل، والجنة في الآجل، إلاذ ساعة من النهار، فأرْسُوا أقدامَكم وسوُّوا صفوفكم، وأعيروا ربّكم جماجمكم، واستعينوا بالله إلهكم، وجاهدوا عدوَّ الله وعدوكم، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم، واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين”(13).
أما عن مواقف عمّار بن ياسر، رضوان الله عليه، في صف الإمام، فهي في المكانة العليا، ويمكن أن نتبيَّنها من خلال هذه الرواية: “عن أسماء بن حكيم الفزاري، قال: كنا بصفّين مع علي، تحت راية عمّار بن ياسر، ارتفاع الضحى، وقد استظللنا برداء أحمر، إذ أقبل رجل يستقري الصفّ حتى انتهى إلينا، فقال: أيّكم عمّار بن ياسر؟ فقال عمّار: أنا عمّار، قال: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قال: إنّ لي إليك حاجةً أفأنطقُ بها سراً أو علانية؟، قال: اختر لنفسك أيهما شئت، قال: لا بل علانية، قال: فانطق، قال: إنّي خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن عليه، لا أشكُّ في ضلالة هؤلاء القوم، وأنّهم على الباطل، فلم أزلْ على ذلك مستبصراً، حتى ليلتي هذه، فإني رأيتُ في منامي منادياً تقدّم، فأذّن وَشِهِدَ أنْ لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ونادى بالصلاةن ونادى مناديهم مثل ذلك، ثم أقيمت الصلاة، فصلَّينا صلاة واحدة، وتلونا كتاباً واحداً، ودعونا دعوة واحدة، فأدركني الشكّ في ليلتي هذه، فبت بليلة لا يعلمُها إلاّ الله، حتى أصبحت، فأتيتُ أميرَ المؤمنين، فذكرت ذلك له فقال: هل لقيت عمار بن ياسر؟، قلت: لا، قال: فالقه، فانظر ما يقول لك عمّار فاتَّبِعه، فجئتك لذلك. فقال عمّار: تعرف صاحبَ الراية السوداء المقابلة لي، فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ثلاث مرات وهذه الرابعة فما هي بخيرهنّ ولا أبرِّهن، بل هي شرُّهن وأفجرهُنّ، أشهِدْت بدراً وأحداً ويوم حُنين، أو شهدها أب لك فيخبرك عنها؟، قال: لا، قال: فإن مراكِزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله(صلى الله عليه وآله)، يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وإنّ مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب، فهل ترى هذا العسكر ومَن فيه؟ والله لوددتُ أن جميع مَن فيه ممن أقبلَ مع معاوية يريد قتالنان مفارقاً للذي نحن عليه كانوا خَلْقاً واحداً، فقطّعته وذبحته، والله لدماؤهم جميعاً أحلُّ من دم عصفور، أفترى دم عصفور حراماً؟، قال: لا بل حلال، قال: فإنهم حلال كذلك، أتراني بيّنت لك؟، قال: قد بيّنتَ لي، قال: فاختر أيّ ذلك أحببت.
فانصرف الرجل، فدعاه عمّار ثم قال: أما إنّهم سيضربونكم بأسيافكم حتى يرتابَ المبطلون منكم فيقولوا: لو لم يكونوا على حقّ ما ظهروا علينا، والله ما هم من الحق ما يقذى عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيفاهم حتى يبلغونا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على حق وأنّهم على باطل”(14).
وعمّار، إذ يقف هذا الموقف، إنّما يصغي إلى صوت الله تعالى يدعوه: (وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: 193).
مسؤولية من أرادها أموية وكرهها إسلاميّة:
قام ملك “بني فلان” الذين رأى النبي(صلى الله عليه وآله) أنهم ينزون على منبره نزو القردة، ولا نعفي أحداً من المسؤولية، لا الذين أضعفوا سلطان آل محمد على قلوب الناس وجعلوا منهم مستشارين عند الضرورة، ولا الذين جعلوا الإمام علياً سادساً في ما أسموه بالشورى، وقد قال (عليه السلام) في ذلك: “متى اعترض الريب فيَّ مع الأوّل منهم، حتى صرت أُقْرَنُ إلى هذه النظائر”، ولا الذين مهّدوا لمعاوية سلطانه في الشام، ولما رأوا ما هو فيه من الأبهة والسلطان قالوا: “لا نأمرك ولا ننهاك”، كأن ابن آكلة الأكباد استثناء، ولا الذين حرصوا على سلب أهل البيت أموالهم التي أعطيت لهم من قبل السماء، فأخذوا فدكاً من الزّهراء وحرموا آل محمد حقهم في الخمس، ولا الذين حرصوا على إعطاء بني أمية ما يتقوون به لإقامة دولتهم، فأعطوا مروان بن الحكم وابن أبي سرح خمس غنائم أفريقيا، ولا الذين أشعلوا نار الفتنة في موقعة الجمل،… الخ الخ، كلهم مسؤولون وشركاء في هذه الكارثة (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْـُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (الصافات: 24 ـ 26)، كلهم أرادوها أموية وكرهوها إسلاميّة خالصة لله.
شريعة ملوك السّوء:
لا بأس بأن نورد نماذج من تطبيق الشريعة الإسلامية، على الطريقة الأموية، وهو ما يتمناه بعض المخدوعين في هذا الزمان:
أولاً: النهج الأموي يبيح شرب الخمور
روى أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن بريدة قال: “دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم أتينا بالطعام، فأكلنا. ثم أتينا بالشراب، فشرب معاوية، ثم ناول أبي، ثم قال: ما شربته منذ حرمه رسول الله”(15).
ثانياً: النهج الأموي يبيح الربا
أخرج مالك والنسائي وغيرهما، من طريق عطاء بن يسار أنَّ معاويةَ باعَ سِقايَة من ذهب، أو ورق، بأكثر من وزنِها، فقال له أبو الدرداء(رضي الله عنه): سمعتُ رسول الله(صلى الله عليه وآله)، يَنْهى عن مِثْلِ هذا إلاّ بِمِثْل، فقال له معاوية: ما أرى بمثلِ هذا بأساً(16).
ثالثاً: استلحاق زياد
“وصّى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر”. متفق عليه.
“وقال (صلى الله عليه وآله) من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام”. رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
أمّا ابن آكلة الأكباد فجاء بزياد، وكان يدعي زياد ابن أبيه، وتارة زياد ابن أمّه، وتارة زياد بن سميّة، وأقام الشهادة أن أباه أبا سفيان قد وضعه في رحم سميّة، وكانت بغيّا، وسماه زياد بن أبي سفيان ليستخدمه في قمع المسلمين الشيعة وقتلهم.
رابعاً: قتل الأحرار من أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله)
قال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَ لِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَ ائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِى الاَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32).
روى الطبري في تاريخه: “استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة وأوصاه: لا تحجم عن شتم علي وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم، وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان… والإدناء لهم والاستماع منهم. وأقام المغيرة على الكوفة عاملاً لمعاوية سبع سنين وأشهراً، وهو من أحسن شيء سيرة، وأشدّه حبّاً للعافية غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فيه والعيب لقَتلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه، فكان حجر بن عدي، إذا سمع ذلك قال: بل إياكم فذمّم الله ولعن. ثم قال فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: (كُونُواْ قَوَّ مِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ) (النساء: 135) وأنا أشهد أن من تذمّون وتعيرون لأحق بالفضل وإن من تزكّون وتطرون أولى بالذم”(17).
واستمرت هذه الحال حتى ولي زياد الكوفة فقال مثلما كان يقول المغيرة، وردّ عليه حجر رضوان الله عليه بمثل ما كان يرد على المغيرة، فأرسل زياد إلى أميره معاوية فأمر باعتقاله (وفقاً لقانون طوارىء بني أمية) وأرسل إلى ابن آكلة الأكباد مشدوداً في الحديد فأمر بقتله، فقال حجر للذين يلون أمره: دعونى حتى أصلي ركعتين، فقالوا: صلّ، فصلى ركعتين خفّف فيهما ثم قال: لو لا أن تظنوا بي غير الذي أنا عليه، لأحببت أن تكونا أطول مما كانتا، ثم قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عني حديداً ولا تغسلوا عني دماً فإني ألاقي معاوية غداً على الجادة، ثم قدم فضربت عنقه.
لم يكن حجر بن عدي النموذج الوحيد الدال على ظلم هذه الدولة الجائرة التي يزعم جاهلو أمرها، وحدهم، أنها كانت تُحكم أو تَحكم بشريعة الإسلام. لقد كان بنو أميّة يدأبون ليل نهار لإطفاء نور الله، وفي الوقت نفسه كان خط الأئمة (عليهم السلام) قد تحول إلى مشروع تأسيس لإقامة دولة المهدي المنتظر وإن تأخر ذلك قروناً وقروناً. أما بنو أمية فيجهدون لإحداث أكبر قدر من الدمار بالأمة الإسلامية وبرجالاتها وبقيمها. وفي الوقت نفسه كان خط آل بيت محمد حريصاً على إبقاء قيم الإسلام الرسالي الأصيل حية ومتوهجة، والتأكيد على أن مرحلة التمهيد وتأسيس دولة الإمام المهدي ليست مرحلة هدنة سلبية، وليست إيثاراً للإبقاء على حياة مجموعة من البشر وإنما إبقاءً للقيم وإمدادها بكل ما يبقيها متألقة وحية حتى زمن الظهور.
محاولة تحويل “النهج الأموي” إلى قدر أبدي:
نفذ معاوية سياسة واضحة المعالم، من أبرز معالمها:
أ ـ لعن آل البيت (عليهم السلام) ، وخاصة إمام الأئمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) على منابر الأمة، صباح مساء.
ب ـ العمل على رفع مكانة مناوئي أهل البيت ومنافسيهم باختلاق الروايات المنسوبة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله).
ج ـ القضاء على خطوط الدفاع بقتل رجال الشيعة واغتيالهم، مثل حجر وعمرو ابن الحمق، كما أسلفنا بل وحتى قتل أي معارض آخر له وزن وإن لم يكن من شيعة أهل البيت، ومثال ذلك سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
د ـ إستعمال سياسة الرشوة وإفساد الذمم لاستمالة من تبقى.
وهذه السياسات نفسها هي التي بدأ بها تمدّده السرطاني في جسد الأمة.
امتداد الملك، يزيد ولي عهد:
أراد ابن آكلة الأكباد أن يمهِّد الأمر ليزيد ابنه ليمتد الملك في عقبه حتى قيام الساعة. ومن يتتبع أخبار الرواة، في هذا الصدد، يجد تبايناً، فمن قائل يقول:
إن هذا الأمر كان بمبادرة من المغيرة بن شعبة ليمد له معاوية في ولايته على الكوفة، ومن قائل يقول: إن هذا كان بأمر من معاوية، واتفاق مع الضحّاك بن قيس، وما اعتقده أن هذه أمور واحدة… كل المنافقين يعلمون رغبة سيدهم والكل يتبارى في اختيار الأسلوب الملائم للتنفيذ، ولا باس بإيراد بعض النماذج التي توضح طبيعة الملك الأموي وسياسته:
“أوفد المغيرة بن شعبة عشرة من شيعة بني أمية إلى معاوية، ليطالبوا ببيعة يزيد، وعليهم موسى بن المغيرة، فقال معاوية: لا تعجلوا بإظهار هذا، وكونوا على رأيكم، ثم قال لموسى: بكم اشترى أبوك هؤلاء من دينهم، قال: بثلاثين ألفاً، قال: لقد هان عليهم دينهم”.
لما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق، بإحضار منه، دعا الضحاك بن قيس، فقال له: إذا جلست على المنبر، وفرغتُ من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذ أذنت لك، فاحمد الله تعالى، واذكر يزيد، وقل فيه الذي يحق له عليك، من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من بعدي، فإني قد رأيتُ وأجمعتُ على توليته، فاسأل الله في ذلك، وفي غيره الخيرة وحسن القضاء. ثم دعا عدة رجال فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك، وأن يصدقوا قوله، ويدعو إلى يزيد. ثم خطب معاوية فتكلم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد فقال معاوية: أين الأحنف؟ فأجابه، قال: ألا تتكلم؟ فقال الأحنف، فحمد الله وأثنى عليه وقال بعد مقدمة: إن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حياً.
فغضب الضحّاك ورد غاضباً: ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات ولا تورث الخلافة عن كلالة ولا يحجب غير الذكر العصبة، فوطّنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم، وكاتب نبيكم وصهره، يسلم لكم العاجل، وتربحوا من الآجل. ثم قام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه فقال: قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليها قصعا، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الأمر بعدك(18).
أما عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان من خواص أصحاب معاوية فقد لقي حتفه مسموماً حيث حدثته نفسه بالسلطة والإمارة بدلاً من يزيد.
جاء في تاريخ الطبري: “أن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام، أو مال إليه أهلها كما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه حتى خافه معاوية، وخشي على نفسه منه لميل الناس إليه فأمر ابن آثال أن يحتال في قتله وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه جباية خراج حمص. فلما قدم عبد الرحمن بن خالد لحمص منصرفاً من بلاد الروم دس إ ابن آثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها، فمات بحمص”(19).
ويحكي لنا التاريخ صورة أخرى من مشاورات معاوية في خلافة يزيد، ومن بينها كلمات ذلك الأحمق الذي قام فقال: “هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية ـ فإن هلك فهذا ـ واشار إلى يزيد ـ ومن أبى فهذا ـ وأشار إلى سيفه ـ قال معاوية: إجلس فأنت سيد الخطباء”(20).
لم يكن عبد الرحمن بن خالد وحده هو الذي طمع في الخلافة بعد معاوية، فهناك سعيد بن عثمان بن عفان الذي وجد له أنصاراً من أهل المدينة يقولون: والله لا ينالها يزيد حتى يعض هامه الحديد، إن الأمير بعده سعيد، ولكن كان أمره هيناً; حيث خرج من حلبة المنافسة راضياً بولاية خراسان(21).
من الواضح أن الصراع السياسي كان دائراً على أشدّه حول قضية خلافة معاوية، وقد هددت هذه القضية الصف الأموي بالتفكك والانهيار، وأن الخلافة اليزيدية لم تكن أمراً مستقراً حتى في داخل البيت الأموي نفسه، حتى أن معاوية اضطر لتأجيل إعلان هذا الأمر إلى ما بعد هلاك زياد، وأن مروان بن الحكم، والي معاوية على المدينة، عارض هذا الأمر بشدة ما اضطر معاوية إلى إعفائه من منصبه، ويمكننا أن نُرجع هذه المعارضة الداخلية لعدة أسباب منها:
أ ـ إن انتقال السلطة إلى يزيد، من طريق ولاية العهد، كان اقتباساً من النظام السياسي البيزنطي الذى لم يعرفه العرب في سابق تاريخهم، ولعل قرب موقع معاوية من دولة الروم كان مصدر معرفته بهذا النظام الملكي الإمبراطوري الذي صار هو النظام السياسي في الأمة الإسلامية في ما بعد.
ب ـ إن هذا الأسلوب كان إهداراً لنظام الشورى الذي توهم المسلمون أنه القانون الأساسي للمسلمين. والواقع أن الشورى لم تكن قد مورست بصورة جيدة في الحِقَب السابقة مما يسمح باستقرار معالمها وأساليب ممارستها. فأن يأتي معاوية لينقل المداراة إلى ديكتاتورية صريحة كان هذا أمراً ثقيلاً على كثيرين، وخاصة على أولئك الذين توهموا أنهم أهل الحل والعقد، ولم يكن معاوية ليبقي على نفوذهم ولا على وجودهم نفسه، إذا تعارض ذلك مع رغباته السلطوية الجامحة.
ج ـ صفات يزيد الشخصية وافتقاده الحد الأدنى من المقومات جعلت زياداً، وهو من هو في بغيه وعدوانه ونسبه، كارهاً لبيعته وإمارته قائلاً: “ويزيد صاحب رَسْلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد”(22) وكتب إلى معاوية يأمره بالتؤدة وألا يعجل”.
لم تستعصِ الأغلبية على معاوية ولا على أساليبه، فهناك المتطوعون السابقون إلى مرضاة الطواغيت، مثل الضحّاك بن قيس والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب، ولا بأس هنا بأن نورد بعضاً من منجزات سمرة، هذا “الصحابي” الذي استخلفه زياد على الكوفة ثم عاد إليه فوجده قد قتل ثمانية آلاف من الناس فقال له: “هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً برئياً؟، قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت. أو كما قال، وعن أبي سوار العدوي قال: قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً كلهم قد جمع القرآن”(23) “ثم عزله ـ معاوية ـ فقال سمرة: لعن الله معاوية والله لو أطعتُ الله كما أطعتُ معاوية ما عذّبني أبدا”(24).
لقد أجاد معاوية سياسة “فرّق تسد”، فلما أحس أن رجالات المدينة يمتنعون من بيعة يزيد، راسلهم أولاً ثم ذهب إليهم نفسه، في عام خمسين للهجرة، مستخدماً سياسة المخادعة عازفاً على أوتار النفوس ومكامن الأهواء، عالماً أن الامة التي أسلمت علياً والحسن لن تجتمع كلمتها خلف الحسين (عليه السلام) ، ومن ثمّ فإن المطلوب هو كسب الوقت وتفتيت المعارضة وضرب الناس بعضهم ببعض حتى يصل الملك إلى يزيد غنيمة باردة.
نهج الثورة الحسينية:
ما أحوج الأمة، وسط هذا الظلام الأموي وهذه الفتنة العمياء إلى موقف حسيني يبدد الظلمات، موقف حسيني لا يتحدث عن الحق وإنما يفعله، ولا يفعله فعلاً يراه بعض الناس ويغفل عنه بعضهم الآخر، وإنما يفعله فعلاً يبقى مسطوراً ومحفوراً في عمق الأرض وفي عمق الوجدان البشري. ما أحوج الأمة الإسلامية والبشرية كلها إلى هذا النور المتوهج لتبقى شمس الحسين تهدي الحائرين وتدل السائلين على الحدود الفاصلة بين الحق والباطل، بين مرضاة الله وسخطه.
هكذا كانت ثورة الحسين. لم تكن حالة انفعالية نشأت عن حالة الحصار التي تعرض لها أبو عبد الله الحسين ولا كانت حركة إلى المجهول أملتها أجواء رسائل البيعة المشكوك في صدقها، منذ البدء كانت فعلاً مدروساً وخططاً منذ لحظة ولادته وبدأت خطوات تنفيذها في اللحظة التي تخيل فيها ابن آكلة الأكباد أنه لا إسلام حقيقيّاً بعد اليوم، وليبق الدين لعقٌ على ألسنة بعض القادة يصعدون به على أعناق الناس يطلبون الدنيا بادعاء النسك والزهادة على أن يدعوا ما لقيصر لقيصر، وما تبقى إن تبقى شيء فهو لله.
اكتمال عناصر التحرّك:
كتب أهل الكوفة إلى الحسين (عليه السلام) يقولون: ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق. وتوالت الكتب تحمل التوقيعات تدعوه إلى المجيء لاستلام البيعة وقيادة الأمة في حركتها في مواجهة طواغيب بني أمية، وهكذا اكتملت العناصر الأساسية للحركة الحسينية، وهي:
أ ـ وجود قيادة شرعية تمثل التصور الحقيقي للإسلام، وهي قيادة أبي عبد الله الحسين.
ب ـ وجود الظروف الداعية إلى حمل لواء التغيير، وتتمثل في تمادي الفساد الأموي ورغبته في مصادرة إرادة الأمة مرة واحدة وإلى الأبد في شكل مبايعة يزيد “القرود”.
ج ـ وجود إرادة جماهيرية تطلب التغيير وتستحث الإمام الحسين للمبادرة إلى قيادة الحركة وكان موقع هذه الإرادة في الكوفة، تمثلت في رسائل البيعة القادمة من أهلها.
وهكذا لم يكن بوسع أبي عبد الله الحسين أن يقف من هذه الأمور كلها موقف المتفرج الهارب بنفسه من ساحة الوغى أو “الفار بدينه” إلى ساحات الاعتزال والانعزال، وهي جميعها أشكال مختلفة من الهروب والتهرب من تحمل المسؤولية، وهو مسلكٌ فضلاً عن ضرره البليغ على الواقع الراهن في تلك اللحظة يعطي المبرر لكل من تعرض لهذه الظروف أو ما شابهها أن يهرب بنفسه وينجو بشحمه ولحمه حتى يستوفي الأجل المحتوم، ويبقى في وجدان الأمة رمزاً من رموز الكهنوت الهارب من مواجهة الشيطان في أرض الواقع واللائذ بالنصوص والتبريرات.
كان بوسع الحسين (عليه السلام) ، أن يفعل مثلما فعل ابن عمر فيبايع بيعة المضطر ليزيد، ونضيف إلى لائحة الروايات التبريرية التي رواها الرجل على لسانه أو على لسان النبي الأكرم عدة نصوص أخرى ربما كانت تحتل مكاناً أبرز من نصوص أبن عمرو كان البخاري ومسلم سيحتفلان بها، فها هو ابن الرسول وعلي وفاطمة يوجب السمع والطاعة ليزيد القرود ويدعو إلى توحيد الجماعة صفاً واحداً خلف حفيد آكلة الأكباد وحفيد أبي سفيان عدو الله ورسوله حتى آخر نفس.
ولو كان فعل هذا ـ وحاشاه ـ لاستشهد به الأفاقون والمنافقون والمخادعون في كل موقف يرون فيه ضرورة إسناد حزب الشيطان ومنعه من الانهيار، ولما قال أحد: ثار الحسين رافضاً الظلم واستشهد في سبيل الله، ولماتت هذه الأمة إلى نهاية الدهر.
إقامة الحجّة وبيان الحقيقة:
ثمّ جاء صباح عاشوراء، ووقف الحسين (عليه السلام) يدعو ربه: “أللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته وكشفته فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة”(25).
ثم إن الحسين أضرم ناراً وراء البيوت لئلا يأتيه أعداء الله من الخلف، فجاءه شمر بن ذي الجوشن وقال: “يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة؟،فقال الحسين: من هذا؟، كأنّه شَمر بن ذي الجوشن؟ فقالوا: نعم أصلحك الله، هو… هو. فقال: يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صُليَّاً. فقال مسلم بن عَوْسَجَة: يا ابن رسول الله جُعلتُ فداك ألا أرميه بسهم. فإنه قد أمكنني وليس يسقط سهم، فالفاسق من أعظم الجبارين. فقال له الحسين: لا ترمِه فإني أكره أن أبدأهم”(26).
سلام الله عليك يا أبا عبد الله،ها أنت، وأنت في قمة المواجهة مع أعداء الله من بني أمية محافظاً على موقف فقهي، وأخلاقي، وعقائدي راسخ.
سلام الله عليك يا من أنت من نور أبيك وأمك، ومن نور رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فالإمام علي (عليه السلام) لم يبدأ أعداءه، أعداء الله يوماً بقتال لا أصحاب الجمل، ولا الخوارج، ولا بني أمية يوم صفين، فالقوم أدعياء إسلام دخلوا هذا الدين من بوابة النبوة، ولسنا بصدد تكفيرهم ولا استباحة دمائهم (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، (فَلاَ عُدْوَ نَ إِلاَّ عَلَى الظَّــلِمِينَ) (البقرة: 193).
هذا هو المبدأ الراسخ في العلاقة بين أبناء الأمة المنتمين إليها حتى ولو كان ذلك بمجرد الإسم والادعاء. وإن فتح باب التكفير وقتل المسلمين، حتى الأدعياء منهم، فإن ذلك يعني فتح باب فتنة لا يُغلَق.
معاني خروج حرائر آل البيت:
بقي أن نسجل ما كشفته الأحداث عن معانى خروج حرائر أهل البيت (عليهم السلام) مع الحسين. لقد قتل الحسين (عليه السلام) ولم يشهد أحد من المؤمنين هذه الجريمة إلا حرائر أهل بيت النبوة، من ينعاك إذاً يا ابا عبد الله إلا بنات علي وفاطمة؟،ها هي زينب(عليها السلام)حتى تمرُّ بالحسين (عليه السلام) صريعاً فتبكيه، وتقول: “يا محمداه يا محمداه صلّى عليك ملائكة السماء هذا الحسين بالعرا مرمَّل بالدما مقطع الأعضا، يا محمداه وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا. فأبكت والله كل عدو وصديق”(27).
ثم ها هي أسيرة في مجلس ابن زياد، فيسأل: “من هذه الجالسة؟. فلم تكلّمه، فقال ذلك ثلاثاً كل ذلك لا تكلّمه، فقال بعضُ إمائها: هذه زينب ابنة فاطمة. فقال لها عبيد الله: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد(صلى الله عليه وآله) وطهرنا تطهيراً لا كما تقول أنت، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟. قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتخاصمون عنده. قال: فغضب ابن زياد واستشاط. قال له عمر بن حريث: أصلح الله الأمير إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها (…)(28) فقال لها ابن زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة والمردة من أهل بيتك. فبكت ثم قالت: لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت”(29).
محاولات إخفاء الحقيقة، ابن كثير يناقض نفسه:
كلمات واضحة يفهمها من يقرأها، تستعصي على التزوير، لكن يد الغش والخيانة أخفت كل شيء وزورت كل شيء، ونشأت أجيال وأجيال لا تعرف من ذكرى الحسين إلا أنه ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأنه خرج يطلب الملك والإمارة فخذله المسلمون الشيعة، وقتله بنو أمية وهم أصحاب الدولة الشرعية، وأما الشيعة فهم يضربون أنفسهم ويسيلون دماءهم لأنهم قتلوه، قليل أولئك الذين يعرفون الحقيقة بتفصيلاتها حتى ابن كثير يكتب فصلاً، في البداية والنهاية، بعنوان “صفة مقتل الحسين بن علي(رضي الله عنه) مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب الصريح والبهتان”.
ولا يلام ابن كثير الدمشقي على حب قومه من بني أمية، ولا على سبابه للمسلمين الشيعة واتهامه لهم بالكذب الصريح والبهتان.
ولكن العجب كل العجب انه لم يخالف حرفاً واحداً مما رواه أئمة التشيع في كتبهم عن مقتل الحسين (عليه السلام) ، ويكذب عدة روايات وردت في هذا الشأن ليست محورية ولا أساسية في القضية وهو يتناقض مع نفسه فيقول: “ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً وفحشاً من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم…”(30).
ثم يقول ناقضاً ما ذهب إليه: “وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح!!! فإنه قلّ من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة أو عاهة في الدنيا فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض وأكثرهم أصابهم الجنون”(31).
ثم يناقض نفسه، ويتخبط ويواصل الشتم والسب، ويقول: “للشيعة والروافض في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة وفي ما ذكرناه كفاية، وفي بعض ما أوردناه نظر، ولو لا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ ذكرو ما سقته وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى، وقد كان مسلماً شيعياً وهو ضعيف الحديث عن الأئمة، ولكنه إخباري حافظ عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره. ثم يقول: “وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه فكانت الدبادب تضرب بغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء” إلخ…
“وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام فكانوا يوم عاشوراء يطبخون ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيداً يصنعون فيه أنواع الأطعمة ويظهرون فيه السرور والفرح يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم”(32).
إذاً الشيخ ابن كثير يقر ويعترف أن أجهزة الدعاية الأموية قلبت الحقائق وحولت يوم الكارثة إلى عيد وسرور، وهو الذي ما زال متداولاً إلى يومنا هذا. ويمضي الرجل يكشف على استحياء دخيلة نفسه فيقول: “وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه فقدورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك والتحذير منه والتوعيد عليه”.
عفواً، أيها الشيخ، يبدو أن “خطأ” الإمام الحسين (عليه السلام) أنه ولد واستشهد قبل مجيء “مسلم” وكتابه، فلم يدر بالحديث المزعوم على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولم يعلم أن الأمة بعد قرنين ستعرف “صحيح مسلم” وتجعل “صحيح الحسين”. عفواً، أيها الشيخ، فقد جهلت الأمة (حديث الثقلين): “إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به بعدي لن تضلوا أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض”، وهو حديث رواه “مسلم” في صحيحه بعد الحسين بقرنين، لقد جهلت الأمة هذا الحديث يوم كان عليها أن تذكره ثم روته بعد ذلك ولم تفهمه هذه الأمة التي نسيت وتناست ما صحّ نصاً وما جسَّده الإمام الحسين، مارست الدين على الطريقة الأموية ومن حاول المقاومة كان مصيره القتل كما أسلفنا من قبل.
ثم يمضي الشيخ في منطقه ويقول بعدما عدّد القتلى ممن عدّهم أفضل من الحسين وأبيه: “ولم يتخذ أحدٌ يومَ موتهم مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم صرع الحسين”(33). ثم يناقض نفسه كعادته: “وأحسن ما يقال، عند ذكر هذه المصائب وأمثالها، ما رواه علي بن الحسين، عن جده رسول الله(صلى الله عليه وآله)أنه قال: ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب فيها”.
إننا نستعرض كلمات ابن كثير لأنها نموذج لحالة التناقض والارتباك التي وقع فيه الكثيرون ممن أذهلهم الحدث وعجزوا عن متابعته وقول كلمة الحق فيه، ومن أولئك الذين أرادوا استتباب الأمر لبني أمية وظنوا أن قضية آل البيت قد طويت وانتهت فلما أعلن الحسين ثورته وخط كلمة الحق بدمائه على الأرض، وفي السماء بل وفي الكون كله، لجأوا مرة أخرى إلى الكتمان والتزييف لعل الناس ينسون، ولكن هيهات هيهات.
من يُقيل عثرة الأمة المنكوبة؟:
وهكذا انقضت هذه الجولة ونال كل طرف ما يستحقه، نال الحسين وآل بيته الشهادة التي أرادوها واستحقوها، فيما نال بنو أمية ومن والاهم اللعنة الدائمة، والخسران المبين.
أما هذه الأمة المنكوبة فلا نجد من يصف حالها ومآلها إلا هذه الرواية التي يذكرها الطبري في “تاريخ الأمم والملوك” فيقول ما نصّه: “لما وضع رأس الحسين (عليه السلام) بين يدي ابن زياد أخذ ينكت بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجِمُ عن نكته بالقضيب قال له:
أعلُ بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فهو الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله(صلى الله عليه وآله) على هاتين الشفتين يقبلهما. ثم انفضخ الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، فو الله لو لا أنك شيخ قد خرفتَ وذهب عقلك لضربت عنقك. قال: فنهض فخرج. فلما خرج سمعت الناس يقولون: والله لقد قال زيد بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله، فقلت: ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول: ملك عبد عبداً، فاتخذهم تُلدا. أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمَّرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبعداً لمن رضي بالذل”(34).
أي والله، أيها الشيخ، إنها لشهادة حق ولكن بعد فوات الأوان، ولكنها تحكي الواقع الذي احتار الناس في تفسيره، لماذا وكيف صرنا لما نحن عليه الآن عبيد في ديارنا لا نملك من الظالمين دفعاً ولا نفعاً، هذا يحكي لنا عن الحرية في أوروبا! وذاك يحكي لنا عن طبيعة هذا الشعب أو ذاك الذي يحب العبودية ولم يحاول أحد أن يصل إلى الحقيقة.
إن ما جرى علينا هو استجابة لدعوة دعاها أبو عبد الله على من قتله أو رضي بذلك أو سمع فلم ينكر. فها هو أبو عبد الله الحسين يدعو عليهم وقد أثخنته الجراح: “اللهم امسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً واجعلهم طرائقَ قِددا ولا تُرْض عنهم الولاة أبداً فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا”(35).
ثم هو قبل قتله مباشرة: “سمعته يقول قبل أن يقتل وهو يقاتل على رجليه قتالَ الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترض العورة ويشد على الخيل وهو يقول: أعلى قتلي تحاثون؟، أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله، الله أسخط عليكم لقتله مني وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله أن لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى لكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم”.
وهكذا ضاعت الفرصة تلو الفرصة من هذه الأمة دون أن تستفيد منها وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
والفرص لا تمنح للأمم مائة مرة، ولا عشرين مرة، ولا عشر مرات، إن الفرص التاريخية لإصلاح الأحوال والسير على نهج مستقيم لا تأتي إلاّ قليلا. وهكذا ضاعت من هذه الأمة فرصة السير على نهج نبيها ثلاث مرات، فرصة الإمام علي، ثم فرصة الإمام الحسن، ثم كانت فرصة الإمام الحسين هي القاصمة التي ما بعدها قاصمة، وكان لابد من انتظار طويل. وأسدل ستار الليل في سماء هذه الأمة وهو ليل لن يجلوه إلا ظهور قائم أهل البيت (عليهم السلام) ، الإمام الثاني عشر محمد المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وهكذا قُدِّر لنا أن ننتظر ذلك الانتظار الطويل وأن نعيش ذلك الصراع المرير بين قوى الحق والباطل داخل هذه الأمة، وأن نرى كل هذه المصاعب والويلات من سفك دماء وطاقات تهدر في صراعات داخلية ورؤوس تطير وسجون تملأ وغزوات خارجية تترية وصليبية وأخيراً صهيونية وقبلها أوروبية وحكومات من كافة الأنواع والأشكال مملوكية وعباسية وأموية وعثمانية، وهل هناك أسوأ من أن يحكم المماليك العبيدُ أمة وهم لا يملكون حق التصرف في ذواتهم، كل هذه الحكومات أكثرت من الظلم، وقلّلت من العدل وادعى الجميع أنهم يطبقون الإسلام، والكل يقتل بالظنة، والكل يستبيح الخمور، وانتهاك الأعراض وأخيراً جاءت إلينا الحكومات العلمانية والقومية والاشتراكية والملكية والشيوعية، جربوا فينا كل شيء إلا العدل، ذلك الممنوع علينا من يوم أن جاء بنو أمية.
وهكذا قدر لنا أن نعيش الصراع والانتظار.
(1) تاريخ الأمم والملوك للطبري: 3 / 561، مؤسسة الأعلمي، بيروت، لا. ت.
(2) الطبري، م. س: 3 / 559 ـ 560.
(3) مقاتل الطالبيين: 76 ـ 77، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1408هـ ـ 1987م.
(4) تاريخ الطبري: 3 / 552، مؤسسة الأعلمي، بيروت، د. ت.
(5) تاريخ الطبري: 3 / 552 ـ 553.
(6) المصدر نفسه: 3 / 554.
(7) المصدر نفسه: 3 / 554.
(8) تاريخ الطبري: 4 / 103.
(9) المصدر نفسه.
(10) تاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري: 4 / 104.
(11) المصدر نفسه: 4 / 107.
(12) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم: 5 / 181، الطبعة الأولى، دار الجيل ـ بيروت 1407 هـ ـ 1987م.
(13) المصدر نفسه: 5 / 190.
(14) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم: 5 / 256 ـ 257 ـ 258، ط1، دار الجيل ـ بيروت 1407 هـ ـ 1987م.
(15) مسند أحمد بن حنبل: 5 / 407، ح 23005، ط دار الكتب العلمية بيروت 1413هـ ـ 1993م.
(16) سنن النسائي بشرح السيوطي: 7 / 279. دار الكتب العلمية ـ بيروت، الموطأ لمالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: 2 / 634 ح 33 توزيع دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(17) تاريخ الطبري: 4 / 188 ـ 190، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت.
(18) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري، تحقيق علي شيري: 1 / 188، 191 ـ 192.
(19) الإستيعاب في معرفة الأصحاب للقرطبي: 2 / 372 ـ 373، رقم 1410.
(20) تاريخ الأمم والملوك للطبري: 4 / 171.
(21) الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 214 ـ 216.
(22) الإمامة والسياسة، تحقيق علي شيري: 1 / 213 ـ 214.
(23) تاريخ الأمم والملوك للطبري: 4 / 224 ـ 225.
(24) المصدر نفسه: 4 / 176.
(25) تاريخ الأمم والملوك للطبري: 4 / 321 ط. الأعلمي ـ بيروت (غير مؤرّخ).
(26) المصدر نفسه: 4 / 322.
(27) المصدر السابق: 4 / 348.
(28) عبارة محذوفة.
(29) الطبري: م. س: 4 / 349 ـ 350.
(30) البداية والنهاية لابن كثير: 4 / 731.
(31) المصدر نفسه: 4 / 731.
(32) المصدر نفسه: 4 / 732.
(33) المصدر نفسه: 4 / 732.
(34) تاريخ الأمم والملوك للطبري: 4 / 349 أحداث سنة (61 هـ).
(35) المصدر نفسه: 4 / 344 ـ 345.
د. احمد راسم النفيس 2017-11-01