هذه أسطر موجزة كتبناها بمناسبة ولادة الإمام الخامس من أئمة أهل البيت عليهم السلام أعني أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام المعروف بالباقر، وقد نقل هذا اللقب على لسان جابر بن عبدالله الأنصاري الصحابي الجليل حين كبر سنه ودقّ عظمه وذهب بصره وأشرقت بصيرته فكان يعتجر بعمامته في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم• وينادي باقرا باقرا فقال الناس: لقد جُن جابر فقال: ما جُننت ولكني سمعت حبيبي رسول الله يقول: ستدرك واحداً من أولادي اسمه الباقر فإذا لقيته فأقرئه عني السلام وأنا أنادي شوقاً إليه.
وتمر الأيام وتمضي السنين ويتحقق إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ويبلغ جابر أمنيته فيدرك ذلك الوليد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوصف ليس هو الوحيد من أوصافه، فأوصاف كل الأئمة عليهم السلام موجودة فيه ووصفه موجود فيهم، فهو صادق وكاظم ورضا وتقي ونقي ومهدي وهادي وجواد، وإنما ذكر ذلك الوصف لحاجة ذلك الزمان إليه ولما يقوم به من مهمة آنذاك ويظهر للناس من أمر يكون أصل لذلك اللقب، والأمر الذي ظهر لا يخفى على أحد كما هو ظاهر في حياة الإمام عليه السلام حيث بقر العلم بقراً وأظهر من مكنون علوم الأنبياء عليه السلام ما وضح عند القريب والبعيد.
ولد الإمام عليه السلام سنة (57) من الهجرة النبوية الشريفة في غرة رجب وقد أدرك جده الحسين عليه السلام وعاش معه أربعة سنين، وعاصر واقعة الطف بجميع تفاصيلها، وكان مع السبايا التي حُملت إلى الشام بتلك الصورة المفجعة التي قال عنها والده الإمام السجاد عليه السلام مخاطباً ليزيد: (ما ظنك برسول الله لو رآنا بهذه الحالة) عندئذ أمر يزيد بالحبال أن تقطع وقد كان الحبل ممتداً من عنق الإمام السجاد عليه السلام إلى عنق الحوراء زينب عليها السلام.
ولم تنتهِ المأساة التي رآها إمامنا الباقر عليه السلام فقد عاش مع والده (39) سنة، وكانت سنين في غاية الصعوبة من حيث الحكام الظلمة من بني أمية والولاة الذين كانوا على المدينة من قبلهم كالحجاج وأمثاله ومن حيث خوف الناس وابتعادهم عن أهل البيت عليه السلام حتى جاء في بعض الروايات: (لقد ارتد الناس بعد مقتل الحسين عليه السلام إلاّ ثلاثة)، ومن جهة ثالثة ينظر إلى أحزان أبيه ودموعه التي تسيل على خديه وهو أحد البكائين الخمسة في بني آدم، ولم تقف عند هذه السنين معاناته فقد جاء بعدها دور إمامته والتي بدأت بشهادة الإمام السجاد عليه السلام على أيدي بني أمية والتي كانت غصة مع تلك الغصص التي في صدره والتي لم تذهب مرارتها من بين لهاته.
ومعاناة الإمامة أكثر من غيرها وهي الأمانة الكبرى التي لم تتحملها السموات والأرض وهي الثقل الكبير وقد استمرت في عنقه ثمانية عشر سنة إلى سنة (114) ليؤديها إلى ولده الصادق عليه السلام بعد أن صانها كما أراد الله عزّ وجّل ولم يغمض عينه أو يغفل لحظة عندها إلاّ لحظة فارقت روحه بدنه بعد أن سقاه الظلمة السم في شهر ذي الحجة من تلك السنة، فأودعها عند بضعته وولده .
إن دراسة حياة أهل البيت عليه السلام في غاية الأهمية لاسيما للإنسان المسلم والموالي التابع والأهمية تأتي من خلال ما يحصل للإنسان من همة وشجاعة في مواصلة درب الحق، فحين نرجع إلى حياتهم نجد أن الغربة والوحدة وقلة الناصر وكثرة الواتر وإمعان الظلمة في إيذائهم وصدهم، ونجد أن حياتهم مليئة بالأحزان والأشجان والهموم بمختلف أشكالها وتعدد مصادرها وأصولها، ولكن مع هذه الغربة ومع تلك الأحزان نجد أن ذلك لم يثنيهم ولم يقعدهم ولم يسكتهم فقد ملئوا الدنيا مفاخر ومحاسن، بل كانوا مع وحدتهم والأعداء مع كثرتهم وكل شيء بأيديهم نجد أن الخوف قد ملأ قلوب الأعداء منهم فلا يهنئون بطعام أو منام ويقولون كيف يقر لنا قرار وفي حكومتنا أمثال هؤلاء، بل كانوا يخافون من تلامذتهم وأتباعهم فضلاً عن الخوف منهم، وتلك الأحزان والأشجان لم تغير من أخلاقهم شيئا فتجد الحلم على أكمله، والكرم على تمامه، والصدق على هيئته وهكذا باقي صفاتهم.
وتلك المضايقات والمكاره والبلايا والقتل لم تغير من علاقتهم بالله شيئاً فالصلاة التي كانوا يواظبون عليها في بيوتهم لم يتركوها ليلة الحادي عشر من المحرم، وتقول نساءهم فضلاً عن رجالهم: (ما رأينا إلاّ جميلاً)، فإن الإنسان ليقف متحيراً أمام هؤلاء ويعلم أن العزة عند اتباع هؤلاء والمسير تحت لوائهم فلا يخاف ولا ينثني ولا ينكسر.
ولا يمكن التعرض إلى جميع جوانب حياة الإمام الباقر عليه السلام تحت هذه الأسطر وإنما سوف أسلط الضوء على نقطة مهمة يبحث عنها الإنسان الباحث عما يسعده في آخرته، وهذه النقطة هي ما تمتع به زمن الإمام عليه السلام من أصحاب أوفياء كانوا موضع رضاه ومحط مديح الإمام الصادق عليه السلام حتى قال عنهم:
(لقد كان أصحاب أبي ورقاً لا شوك فيه وأنتم شوك لا ورق فيه)
وهؤلاء كانوا موضع تسلية الإمام عما يصيبه من هموم وأحزان، وإذا نظر إليهم انجلت همومه، لأن أهل البيت عليه السلام يفرحون حين يجدون في الأرض من يعبد الله ويطيعه ويعظّمه وبالعكس يألمون حين يروون الناس قد ابتعدوا عن الحق،
ولذا يقول عزّ وجّل مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(الكهف/6).
وقال:
(..فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ..) (فاطر/8).
ودراسة حياة هؤلاء وما كانوا عليه مع إمام زمانهم لينقله الإنسان في حياته مع إمام زمانه عجل الله فرجه الشريف والذي همومه لا توصف ولا تقدر بقدر، فلقد زادت على أحزان آبائه عليهم السلام، ولا نريد أن نبحث كيف تعامل معهم الإمام عليه السلام حتى أوصلهم إلى هذه الحالات وإنما نريد أن نشير إلى الحالات التي عاشوها والصفات التي اتصفوا بها والتي جعلتهم (ورقاً لا شوك فيه) أي أنهم زين كلهم والنظر إليهم يجلوا البصر، ولا يوجد فيهم إيذاء، ولا يصدر منهم ما يوجب الهم والغم، وقد ورد في حقهم من المديح على لسان الإمام الصادق عليه السلام الكثير، وصدر لهم منهم عليه السلام ضمان بالشفاعة والجنة يوم القيامة، ولو كان في صفوف الشيعة الكثير من هذه الثلة والصفوة لما ضاع الحق ولما تمكن الظالمون من إشاعة الجور والفساد، ولما بقيت تلك العلوم التي في صدور المعصومين عليه السلام أسرارا وحُرمت منها الإنسانية التي لا تدري عن الحقيقة إلا الشيء القليل .
أصحاب الإمام الباقر عليه السلام كثيرون ولكن نشير إلى البارزين منهم أمثال:
محمد بن مسلم الطائفي
أبو بصير ليث المرادي
بريد بن معاوية العجلي
معـروف بن خـربوذ
الكمـيـت الأســدي
جابر بن يزيد الجـعفي
زرارة بـن أعـيـن
حـمران بـن أعـيـن
أبو الصـباح الكنـاني
الفضـيل بـن يـسـار
وسوف نشير الى الصفات ونأخذ شواهد عليها من بعضهم إذ لا يمكن حصر الشواهد وذكرها بأجمعها فإن هذا ينافي اختصار هذه الأسطر.
الأولـى: من أمهات الصفات للسالك إلى أهل البيت عليهم السلام والتي عليها يتوقف باقي الأمور هي المحبة لهم والتي ما سأل الله عزّ وجّل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أجرا على تبليغ الرسالة غيرها:
(.. قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (الشورى/23).
وعلى قدر حب الإنسان لهم تكون محبتهم وعنايتهم به، ولو نرجع إلى هؤلاء فقد اتصفوا بحب شديد، بحيث اُتهم جابر بن عبدالله الأنصاري من قبل الناس بالجنون حين كان ينادي باقراً.
ويأتي الكميت الأسدي ليفصح عن بعض ذلك الحبّ الذي في قلبه حين أنشد قصيدته أمام الإمام عليه السلام:
طـربت وما شـوقاً إلى البـيض أطـرب
ولا لعبـاً مـني وذو الشـيـب يـلعـب
ولكـن إلـى أهـل الفـضـائل والنـهى
وخـير بـني حـواء والخـير يطـلـب
إلـى النـفر البـيـض الذين بحـبـهم
إلـى الله فـيـما نـالـنـي أتـقـرب
بـني هـاشـم رهـط النـبي فـإنـني
بهـم ولهـم أرضـى مراراً وأغضـب
خفضـت لهـم منـي جـناحي مـودة
إلـى كتـف عطـفاه أهـل ومـرحـب
وقال في قصيدة أخرى:
مـن لـقـلـب مـتـيـم مسـتهـام
غـيـر مـا صــبـوة ولا أحــلام
طــارقــات ولا أوكــار غــوان
واضــمــات الخــدود كــالأرام
بـل هـواي الـذي أجــن وأبــدي
لـبـنـي هــاشـم فـروع الأنــام
القـريبـين مـن نـدي والبعـيـديـن
مـن الجــور فـي عـرى الأحـكام
والغـيـوث الـذيـن إذا مـا أمـجـل
النـاس فمـأوى حـواضـن الأيتـام
لا أبـالـي ولـن أبـالـي فـيــهم
أبـدا رغـم سـاخـطـين رغــام
ولـهـت نفـسـي الطـروب إليـهم
ولـهـاً حـال دون طـعـم الطـعـام
ويأتي العالم الفقيه محمد بن مسلم الطائفي من الكوفة إلى المدينة شوقاً إلى رؤية الإمام عليه السلام ولما وصل أثقله الوجع فأخُبر الإمام بذلك فبعث إليه بشراب مع غلام له وأمره أن يذهب معه إلى الإمام عليه السلام، فلما دخل عليه دخل باكيا قال: ما يبكيك يا محمد؟ قال: جعلت فداك أبكي على اغترابي، وبعد الشقة وقلة المقدرة على المقام عندك والنظر إليك… فقال عليه السلام: وأما ما ذكرت من حبك قربنا والنظر إلينا وأنك لا تقدر على ذلك فالله يعلم ما في قلبك وجزاؤك عليه (اختيار معرفة الرجال ص176، البحار ج46 ص257).
فهذا هو الذي أبكاه وهو الشوق الشديد لمجاورة الإمام عليه السلام والنظر إلى وجهه الشريف، فقد عاش هؤلاء حالات من الحب استحقوا بها ذلك الحب والعناية منهم.
ولكن لا بد أن نعرف أن الحب بيد الله عّز وجّل:
(..وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي..)(طه/39).
(..وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ..)(الحجرات/7).
(..فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ..)(إبراهيم/37).
فالحب بيده عزّ وجلّ.
ولكن لماذا جعل حبّ موسى عليه السلام في قلب آسية ولم يجعله في قلب فرعون؟
ولماذا اشتعل قلب جابر والكميت ومحمد بن مسلم بهذه الدرجة من الحب ولم يحصل مثل هذا لغيرهم؟
الجـواب
هو أن الله حين ألقى المحبة ليس المراد منه أنه جبر تلك القلوب بل إنها تحب ضمن قانون الله جَبَل القلوب على حب من اتصف بالجمال فإذا أبصرت الجمال أصبت وإلا فلا، وهنا يأتي دور الإنسان في هذه المعادلة فقد يجعل قلبه منكوساً بسبب المعاصي حتى يرى الجمال قبيحاً والقبيح جمالاً فيحب من يستحق البغض ويبغض من يستحق الحب أو يعمي القلب بالمعاصي والتبصر في الدنيا ومن أصبر منها أعمته فلا يرى الجمال فلا يحب، فحين حصل لهؤلاء هذه الدرجة من الحب فان هذا كاشف عن صفاء تلك القلوب وطهارتها وبعدها عن الحجب والمعاصي.
وهذا ما صرّح به الإمام عليه السلام في خبر صحيح السند رواه الكليني (قده) في الكافي:
(أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن أبي عبيده الحذاء عن أبى جعفر عليه السلام قال سمعته يقول أما والله إن أحب أصحابي إلى أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا) (البحار ج2 ص186 روايه12 باب26).
فحين أحبّ هذه الثلة بهذه الدرجة كشف حّبه عن الورع الذي كانوا عليه، وعدم وجود حجاب غرور أو كبر أو رضا عن النفس فهم مع ما كانوا عليه في مقام الذم لأنفسهم وعدم الرضا عنها.
(فحين دخل محمد بن مسلم الطائفي مع أبي كريبة لأداء الشهادة عند شريك القاضي فقال: جعفريان فاطميان… فبكيا، فقال شريك: ما يبكيكما؟ قالا: نسبتنا إلى أقوام لا يرضون بأمثالنا أن يكونوا من إخوانهم لما يروون من سخف ورعنا، ونسبتنا إلى رجل لا يرضى بأمثالنا أن يكونوا من شيعته فان تفضّل وقبلنا فله المّن علينا والفضل، فتبسم شريك ثم قال: إذا كانت الرجال فلتكن أمثالكم)(اختيار معرفة الرجال ص162).
وهاهو حمران بن أعين ذلك الرجل الفقيه يبين لنا عدم رضاه عن نفسه ولم يقطع رغم إخلاصه بأنه من شيعتهم فيقول لإمامه الباقر عليه السلام:
(( إني أعطيت الله عهداً لا أخرج من المدينة حتى تخبرني عما أسألك فقال عليه السلام: سل.
فقال: أمن شيعتكم أنا؟
فقال عليه السلام: نعم في الدنيا والآخرة))(اختيار معرفة الرجال ص176).
وهو من أصحاب الحب الشديد حيث يسأل الإمام عليه السلام أحد الحجاج ما فعل حمران؟ فقال:
(لم يحج العام على شوق شديد منه إليك)(اختيار معرفة الرجال ص180).
وهكذا لا تجد في قلوبهم حجاب حسد أو لؤم أو شح أو استطالة يمنعهم من المحبة الشديدة أو يحجب تلك القلوب من النظر إلى جمال الإمام عليه السلام وهاهو زرارة يفصح عن طيب نفسه ولا يستأثر بشيء من العلم لتكون له السيادة على غيره بل يريد أن يكون هو مع أصغر إنسان في الشيعة سواء، ولا يريد أن يحتكر ذلك له فقط…
فيقول:
(لوددت أن كل شيء في قلبي في قلب أصغر إنسان من شيعة آل محمد صلوات الله عليهم)(اختيار معرفة الرجال ص179).
وغير ذلك من الشواهد الدالة على الحبّ الشديد وطهارة تلك القلوب التي حملت ذلك الحبّ .
الثانية: من الصفات التي اتصفوا بها وهي ثمرة من ثمرات ذلك الحبّ الاعراض عن الدنيا بجميع صورها من جاه ومال ومنصب وسلطان ونساء وغير ذلك،
(..فلما ذاقت قلوبهم طعم حبهم لم تأنس بحب غيره ولم تستذق غيره، فلم يطلبوا الرئاسات مع المؤهلات العلمية التي كانت فيهم، فلما أنشد الكميت قصيدة عند الإمام عليه السلام أعطاه الإمام مالاً فأبى أن يأخذ منه درهماً واحداً وقال: جعلت فداك ما أحبكم لغرض دنيا، وما أردت بذلك إلاّ صلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أوجب الله عليّ من الحق..)(البحار ج46 ص240).
وفي رواية أخرى
(قال عليه السلام له : يا كميت هذه مائة ألف قد جمعتها لك من أهل بيتي فقال الكميت: لا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عزّ وجّل الذي يكافيني ولكن تكرمني بقميص من قمصك)(اختيار معرفة الرجال ج46 ص333).
وعاشوا الفقر وقد كانوا قادرين على تحصيل الدنيا.
الثالثة : الصفة الثالثة من صفاتهم والتي هي من ثمرات الحب الشديد مسألة التسليم المطلق للإمام عليه السلام والطاعة التامة له مهما كلف أمر الإمام.
فلم يطيعوا في شيء ليس فيه مشقة على النفوس ويخالفوا فيما سواه بل عندهم الأمر سواء، وهذا من مفاتيح الخيرات كما قال عليه السلام:
(عن على عن أبيه وعبد الله بن الصلت جميعا عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زراره عن أبي جعفر عليه السلام … ثم قال ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرحمان الطاعة للإمام بعد معرفته ..)(البحار ج68 ص332 روايه10 باب27)
وكانوا يعبرون عن الكثير منهم (بالمخبتين)، وأذكر لك بعض الشواهد على هذا التسليم :
(1) حادثة جنون جابر بن يزيد الجعفي وهو من حملة الأسرار والعلوم العالية وأمره الإمام عليه السلام أن يتظاهر بالجنون من دون أن يوضح له السبب وامتثل الأمر بكامل الانصياع ومن دون تلكؤ أو تردد، وخرج في الكوفة يعلب مع الصبيان وهو راكب على قصبة على أنها جواد وبيده قصبة أخرى على أنها سيف والأطفال يسقطون صرعى من بين يديه، وإنما أراد الإمام عليه السلام بذلك حفظ دمه لان الدولة كانت تبحث عنه آنذاك فلما وصل الطلب إلى الكوفة وسأل عنه الوالي اخبروه بأنه قد جُّن فقال الحمد لله الذي كفاني دمه، والحادثة مروية في كتاب البحار.(البحار: ج46 ص282).
وقد يكون سماع هذه الحادثة سهل ولكن عند التدبر فيها بحيث تتصور أن إنسان عالم فقيه وبتلك المنزلة كما نتصور مرجع من المراجع ينزل إلى هذا الحال بحيث يعلب مع الصبيان على أنه مجنون، وكم يحافظ الإنسان على سمعته ووجاهته ووقاره بين الناس، وهو ينزل إلى هذا المستوى امتثالا لأمر الإمام عليه السلام.
وحينما أو دعه الإمام عليه السلام بعض الأسرار وطلب منه كتمانها، كتمها وإن كانت تجيش في صدره وتؤلمه لكن لم يبيح بها وإنما كان يذهب خارج المدينة فيحفر حفيرة ويدلي رأسه فيها فيتكلم بأمر الإمام عليه السلام كما نقل ذلك العلامة المجلسي في البحار (البحار: ج46 ص340).
(2) والشاهد الثاني على الطاعة والتسليم هو ما فعله محمد بن مسلم الطائفي حين قال له الإمام عليه السلام: (تواضع يا محمد) وقد كان رجلاً شريفاً موسراً، وهو عالم من العلماء فقد حفظ ثلاثين ألف حديث عن الإمام الباقر عليه السلام فقط، فماذا صنع بعد قوله عليه السلام؟ ذهب وأخذ قوصرة من تمر وميزان وجلس بباب المسجد ليبيع التمر ليذلل هذه النفس ويروّضها عليه، حتى أن قومه لما رأوه قالوا فضحتنا، فقال: إن مولاي أمرني بأمر فلن أخالفه ولن أبرح حتى افرغ من بيع باقي هذه القوصرة.(اختيار معرفة الرجال ص165).
وهذه الحادثة لا تقل عن الحادثة السابقة فمن يطيق أن يتحمل هذا المشهد رجل بتلك المنزلة العلمية والشرافة في قومه والجلالة التي له في أعين الناس ومع ذلك يجلس بباب المسجد أمام الأعداء والأصدقاء ليبيع التمر مع عدم حاجته إلى المال، والإمام لم يقل له افعل هذا وإنما قال له تواضع فأخذ يبحث عن أتم مصاديق التواضع وأكملها فاختاره وعمله بجد وبكل رحابة صدر، وهذه الحالة التي عاشوها من الطاعة هي جعلتهم موضع أسرار الإمام عليه السلام.
ولذا قال إمامنا الصادق عليه السلام:
(فلو سمعوا وأطاعوا لأودعتهم ما أودع أبي أصحابه أن أصحاب أبي كانوا زيناً أحياءً وأمواتا)(اختيار معرفة الرجال ص170).
الرابعة: من صفاتهم والتي أوضحها الإمام الباقر عليه السلام: (أنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم…) صفة العلم والتفقه في الدين الذي يجعل الإنسان يعرف قدره ويعرف إمامه وماذا يجب عليه وماذا يحرم عليه وأين يصح له أن يضع قدمه أولا يصح…وهكذا.
وهؤلاء كانوا متفانين في طلب العلم والتفقه في الدين ليعرفوا مسؤولياتهم ويعلموا إخوانهم ويقووا حجتهم ويحاججوا العدو الناصب فيوقفوه عند حده، ولا يمكن التحدث عن هذه الصفة التي عندهم بعد أنّ قال عنهم الإمام الصادق عليه السلام:
(لولا هؤلاء لظننت أن أحاديث أبي ستذهب)
ويصفهم في خبر آخر:
( بأنّهم أمناء الله على الحلال والحرام) .
فيقول محمد بن مسلم: ما شجر في رأيّ شيء قط إلا سألتُ عنه أبا جعفر عليه السلام حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، ولم يكتف بذلك فبعد رحيل الإمام الباقر عليه السلام رافق ولده الصادق عليه السلام ويقول: وسألت أبا عبدالله عن ستة عشر ألف حديث.(البحار ج46 ص292).
فلم يشبعوا من العلم لأنهم لم يتصوروا يوماً أنهم قد حصلوا على تمام العلم، بل يرون أن ما عندهم من العلم إنما هو نزر يسير، ويقول جابر بن يزيد – وليس في مقام التفاخر بقدر ما هو في مقام بيان جهل الناس وبيان علوم أهل البيت عليهم السلام حيث أن واحد من شيعتهم أودعوه هذه الأحاديث فما هي العلوم التي في صدورهم (حدثني سبعين ألف حديث لم أحدّث بها أحدأ ابدأ ) (البحار ج46 ص340).
فما هي الهمة التي كانت عنده في طلب العلم وحفظ المذهب ومعرفة الحقيقة، والعجيب أنهم لم يتعلموا العلوم ليتظاهروا بها بل بعضها كان مكتوم، وهذا يوضح لنا سر من أسرار قول الإمام الباقر عليه السلام:
(أنّ احبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا…)
فكتمان الحديث فيه تأديب للنفس التي تريد أن تتظاهر بالكمال أمام الناس وهذا من موارد تأديبها وتذليلها.
الخامسة: أحياءهم ذكر أهل البيت عليه السلام
وقد ورد في الخبر:
(وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا)
وفي ذكر أهل البيت عليه السلام وإحياءه مطالب كثيرة وكيف أنه فرع الحب الشديد، لا سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنهم يدعون إلى أمر أهل البيت عليه السلام في حكومة الأمويين، ومع كثرة الناصبين والمبغضين، فأي جهاد كانوا يجاهدون ويقول عنهم الإمام الصادق عليه السلام:
(ما أحد أحيا ذكرنا وأحاديث أبي إلا زرارة وأبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم ويريد بن معاوية العجلي ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي عليه السلام).
والمروي عن حمران بن أعين كما جاء في كتاب اختيار معرفة الرجال (اختيار معرفة الرجال ص179).
(كان يجلس مع أصحابه فلا يزال معهم في الرواية عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإذا خلطوا في ذلك بغيره ردّهم إليه فاّن صنعوا ذلك عدل ثلاث مرات قام عنهم وتركهم).
فأصبح أنسه بالحديث عنهم فمن أعرض عن الحديث عنهم أعرض عنه ولم يجالسه ويرى أن المجالس بغير ذكرهم ضياع لعمر الإنسان وتكون حسرة وندامة عليه.
واتبعوا أساليب كثيرة في أحياء أمرهم سواء بأقوالهم أو أفعالهم وما بكاء محمد بن مسلم عند شريك القاضي كما جاء في القصة المتقدمة الذكر إلا أسلوب من أساليب الدعوة لأهل البيت عليه السلام وإحياء ذكرهم.
السادسة: التعظيم للإمام عليه السلام والتوفير والإجلال له وهذا نابع من المعرفة بمقامه.
وإن شدة الحبّ التي عندهم لم تجعلهم يتساهلون في علاقتهم معه، وما منحهم هو من محب وما تعامل به معهم من أخلاق وتواضع لم يرخص لهم في التهاون عند التعامل معه، فكان جابر بن يزيد الجعفي إذا تحدث عن الإمام عليه السلام يقول: حدثني وصّي الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين، بل وصل الحال بالفضيل بن يسار أن لا يدخل على الإمام عليه السلام إجلالا له ولا يدري ما هي حدود التأدب معه، وبأي كيفية يتعامل معه فقال للإمام عليه السلام:
(ما يمنعني من لقاءك إلا أني ما أدري ما يوافقك من ذلك؟ فقال عليه السلام: ذلك خير لك)(اختيار معرفة الرجال ص213).
فكانت حياتهم كلها جهاد ومشقة وتوجد هناك صفات أخرى كالبراءة من أعداء أهل البيت عليه السلام ولكن لا يسع هذا المختصر لذكرها وخلاصة البحث الذي نصل إليه يتمثل فيما يلي:
(1) إن منهج أهل البيت عليه السلام هو منهج ذات الشوكة وليس طريق الراحة والمطايبة، بل هو عناء وكدح وأذى.
(2) إن الذي يريد أن يحظى بالقرب منهم ويتمتع برضاهم وعنايتهم فلا بد أن يسعى للاتصاف بما اتصف به هؤلاء الخُلص.
(3) إن الولاء لأهل البيت عليه السلام منازل ودرجات ولا تنتهي عند حد ولا يتصور الإنسان أنه قد وصل إلى نهاية المسار فان هذا من تسويل الشيطان، والمطلوب من الإنسان أن لا يتساوى يوماه ولا يرجع اليوم إلى ما كان عليه قبل أمس فانه إن فعل لُعن.
(4) إن المسؤولية على الإنسان خطيرة فان سبب تعطل الحق هو لعدم وجود الأنصار الذين هم بهذه الصفات، فكم يجب على الإنسان أن يسعى ليبرئ ذمته أمام الله عزّ وجّل.
(5) ما هي المعاناة التي عاناها أهل البيت عليه السلام من أجل إعداد هؤلاء الرجال وحفظ الدين وصيانة المذهب، الذي تلقيناه بهذا الوضوح الذي لا خفاء فيه.
وفقنا الله للسير على نهجهم وجعلنا كما يحبون ويريدون إنه سميع مجيب.
خادم خدامهم
المجاور لفاطمة بنت موسى بن جعفر عليهم السلام