كان ماسكا حقيبته الصغيرة وهو فرح مسرور، ليس كعادته عندما كان يريد الذهاب مجازا، فسأله أبوسعود البصري( ) قائلًا: «أراك فرحان اليوم، ولابس أحسن ملابسك، هل من جديد؟»، فأجاب أبوسمية مبتسمًا: «هذه سفرة زواج ياأباسعود.
كنت شاهدا لذلك الموقف، ففرحت لفرحه وما ظننت أنه يقصد السفر الأخير إلى الحور العين.
ولد في بغداد، مدينة الكاظمية في أسرة مؤمنة، غذته حب أهل البيت عليهمالسلام وأشربته حب الإمامين الجوادين عليهماالسلام.
انتقلت أسرته للسكن في حي البلديات وهناك أكمل الدراسة المتوسطة.
يقول والده الحاج مهدي: «منذ تفتحه على الحياة، اتخذ أسلوبه الخاص في تنظيم أموره وترتيب حياته وأدواته وتكوين شخصيته، وكان متطلعًا لمعرفة معالم الرسالة الإسلامية وخصوصياتها، وكان يثير السؤال حول المسائل الإسلامية والشعائر الحسينية وغيرها من الأمور؛ وأذكر حينما جاء خاله لزيارة العراق من إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية وكيف كان ولدي صاحب يوجه الأسئلة الدقيقة التي تتعلق بكيفية انتفاضة المسلمين ووقوفهم بوجه السلطات الشاهنشاهية وكنت ألاحظ عليه الإنصات والانتباه الدقيق، كان شديد الفرح حينما يسمع بالمواقف البطولية لأبناء الشعب الايراني المسلم وتظاهراتهم الحماسية. .
شمل أسرته قرار التهجير القسري الذي أصدره النظام البعثي المجرم ضد عشرات الآلاف من الأسر العراقية بحجة التبعية الإيرانية، بعد أن أسقطت وثائقهم العراقية وصودرت جميع ممتلكاتهم المنقولة منها وغير المنقولة… وبدون أي مسوغ قانوني ألقي بهم على الحدود الإيرانية بتاريخ 05/06/1980م، في وضع مأساوي بين الجبال الوعرة والأودية السحيقة، فساروا حتى وصلوا مدينة قصرشيرين التي استقبلتهم، ثم نقلوا منها إلى مدينة گرمسار ثم سكنوا مدينة طهران.
تلك الرحلة المأساوية لم تؤثر على صاحب بل أصبحت إيران الإسلام عاملًا مساعدًا في ترشيده وتركيز معالم شخصيته الإسلامية حيث اختار له أصدقاء من المؤمنين كان يشاركهم في نشاطاتهم الإسلامية المختلفة، فشكلوا فريق كرة قدم باسم الشهيد الصدر قدسسره، وكانوا يحضرون مجالس تلاوة القرآن الكريم ودعاء كميل بن زياد رضواناللهعليه، وكانوا يقومون بزيارة الجرحى والمعاقين في المستشفيات…
أمضى فترة تزيد على السنتين على هذا الحال، ارتسمت خلالها معالم شخصيته الإسلامية وتوضحت أبعادها في سلوكه وقوله وعلاقاته مع الناس.
يقول والده الحاج مهدي: «في أحد الأيام لاحظت عليه علامات تعب وإرهاق فاستفسرت عن حاله فصارحني “أنا ومجموعة من الشباب دخلنا دورة تدريبية عسكرية”، فلم أفاجئ في الموضوع ولم يظهر عليّ ما يدل على الانزعاج، بل العكس عبرت عن قبولي وسروري وقلت له: إنك تسير في طريق صحيح ومستقيم ولا يوجد داعي لإخفاء هذا الأمر.
التحق أبوسمية الإسلامي بالدورة الرابعة لمجاهدي بدر — دورة الشهيد أبيرحيم دلو— بتاريخ 15/10/1983م، تلك الدورة التي مدت القوات بكادر أخذ على عاتقه مسؤولية العديد من السرايا والأفواج فيما بعد. بعد انتهاء الدورة بشقيها العسكري والعقائدي، أصبح أبوسمية على أتم الاستعداد لتأدية أي واجب يكلف به.
كلف مع بقية أفراد الدورة بواجب جهادي على مشارف مدينة البصرة، فعرفه المجاهدون شجاعًا لايهاب المخاطر، فقد كان سباقا للاشتراك في الكمائن والدوريات القتالية، يسهر الليالي من أجل أن ينام إخوته، وعندما كانوا يعاتبونه كان يذكر لهم الحديث الشريف: ﴿كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاث؛ عين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين بكت من خشية الله﴾.
تعرفت عليه في هور الحويزة حيث كان واجبه الثاني الذي كلف به، وقد نسب إلى فوج الشهيد الصدر، فعايشته عن قرب عندما كان مخابرًا في المقر التكتيكي لقوات بدر بالقرب من باب الهوى( ) وكان شابًا مملوءًا بالإيمان والأخلاق يلاقيك بابتسامته، ويسبقك بتحيته، كله حيوية ونشاط، وكان السباق للاشتراك في عمليات الاستطلاع كمخابر للمجموعات التي تقوم باستطلاع أماكن تواجد العدو، وتلك مهمات صعبة بسبب طبيعة الأهوار وكثرة الكمائن المعادية.
لم أره قط قد انزعج أو بان عليه الأذى يومًا، رغم الظروف القاسية، فالحرارة في أشهر الصيف قد تزيد على الخمسين درجة والرطوبة مرتفعة جدًا؛ وأذكر أني سألته يومًا كنا نتنفس بصعوبة فيه لأن الهواء كان شرقيًّا «عزيزي أبا سمية، من جاء بك من مدينة طهران إلى هنا؟!» فأجاب ببساطة مبتسمًا «الذي جاء بك جاء بي، ألم تأت للدفاع عن دينك ووطنك؟!.
منح أبوسمية إجازة لزيارة أهله واستعد للسفر. وبينما كان ينتظر زورقًا يقله من المقر التكتيكي في باب الهوى إلى حافة هور الحويزة في الجانب الإيراني، اتصلت به النقطة الثالثة من نقاط المجاهدين المتقدمة لتخبره بوجود قطع في أسلاك الاتصال مع النقطة الرابعة، فأراد أحد المخابرين( ) أن يذهب لمعالجته، لكن أبا سمية رفض وقال «أنا أذهب مكانك»، وأصر على الذهاب كعادته رغم أنه كان مستعدًا للسفر، فانطلق ليستكشف موقع قطع الأسلاك، وفي تلك الأثناء، فتحت عليه نيران من قبل ما يسمون بفرسان الهور( )، فأصيب برصاصة في رجله نقل على أثرها إلى المستشفى لكن شاء الله أن يختاره شهيدًا بعد أيام فرحل من هناك وعرجت روحه إلى ربها راضية مرضية بتاريخ 01/07/1984م لتكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
شيع جثمانه الطاهر تشييعًا مهيبًا ودفن في مقبرة جنة الزهراء في مدينة طهران.( )
كتبت جريدة الشهادة في عددها 67 تحت عنوان “سلامًا أبا سمية”:
… لقد كنت ياأباسمية من الذين وقفت قليلًا لتحاسب نفسك، واستطعت أن تصرعها وتجتاز كل العقبات التي وضعت في طريقك السالك إلى الله، وصغرت الدنيا وما فيها في عينك، وكنت تخاطب الذين حاولوا عبثًا الحيلولة دون بلوغ أمنيتك بأنكم لو استطعتم أن تعطوني عشر ما وعده الله لغيرت مسلكي، ولاخترت حياة الراحة دون حياة الألم والأذى والمشقة في سبيل الله، وقلت لهم إن الله يعد المجاهدين بجنة عرضها السماوات والأرض، وفيها ما لذ وطاب وفيها الحور المقصورات في الخيام، فهل عندكم مثل ذلك؟!
كلا بالطبع فهنيئًا لك ما نلته من مرضاة الله…
ومن وصيته رحمهالله:
… رضيت بالله ربًا وبالنبي والأئمة سادة وقادة بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرأ.
لجميع المجاهدين العراقيين في جميع أنحاء العالم : كونوا يدًا واحدة ضاربة قوى الاستكبار والمحتلين الصهاينة واستمروا بالمسير على خط الإمام…
وإلى المجاهدين المعتقلين في سجون البعث الكافر: اصمدوا وقفوا وقفة إمامكم الحسين عليهالسلام في وجه طاغوت زمانه، فأنتم بصمودكم هذا ضد صدام وزمرته العملاء الخونة ستحرر أرض كربلاء أرض الحسين على أياديكم بعون الله تعالى.
إلى أمي الغالية: إذا سمعت بأجلي يا أماه فلا تحزني ولا تبكي لأن ابنك قد رحل من هذه الدنيا وهو مؤمن بالله ورسوله وأئمته وإمام عصره وكان عمله كله في سبيل مرضاة الله تعالى، وعليك في هذا الوقت أن تكوني مرفوعة الرأس بأن أعطيتي قربانًا عسى أن يتقبله الله، وأن يكون دورك مثل دور زينب عليها السلام عندما وقفت على جسد أخيها الحسين وقالت: اللهم تقبل منا هذا القربان، سلام الله عليك يا بنت رسول الله.
إلى والدي العزيز: عليك يا والدي إن تصبر وتستمر بطريقك الذي أنت فيه، أقصد الطريق وهو إن تمكنت أن تربي ولدك تربية إسلامية، وشوقته إلى الذهاب للجهاد ضد الباطل، الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام، وعليك بالصبر فإن الصبر كنز من كنوز الجنة كما قال إمامنا الصادق عليهالسلام. ﴿واصبر إن الله مع الصابرين.﴾
وأريد أن يكون محل دفني في جنة الزهراء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلام عليك أبا سمية يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيًّا