الرئيسية / الاسلام والحياة / سلسلة الحياة الطيّبة – المهتدون 02

سلسلة الحياة الطيّبة – المهتدون 02

الزهد وقصر الأمل

 نصّ الوصية: قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقر عليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: “وَاسْتَجْلِبْ حَلاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقصر الأَمَل[1].

 

حقيقة الزهد ومنزلته

الزهدُ في الدنيا، مقامٌ شريفٌ من مقامات عباد الله السالكين مسالك الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “ما عُبد الله بشيء أفضل من الزهد في الدنيا[2]. وحقيقة الزهد هي الانصراف عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه، ولا بدّ أن يكون الانصراف والرغبةُ عن الشيء المحبَّبِ حتى تُسمَّى الرغبة عن الشيء زهداً، فالزاهد الصادق دائم الأُنس بالله تعالى، وتغلب عليه الطاعة، بالإضافة إلى أنّ العبد الزاهد يستوي عنده ذامُّه ومادِحهُ.

 

والزاهد الحقّ لا يفرح بموجود، ولا يحزَن على مفقود، قال مولانا أميرُ المؤمنين عليه السلام: “الزُّهْدُ كُلُّه بين كلمتين من القرآن: قال الله سبحانه، لكَيْلا تأْسَوْا على ما فاتكُم، ولا تَفْرحوا بما آتاكم، ومَنْ لم يأْسَ على الماضي، ولم يَفْرحْ بالآتي، فَقَدْ أخذ الزُهْدَ بطرفَيْه”[3].

 

وقال عليه السلام: “طوبى للراغبين في الآخرة الزاهدين في الدنيا، أولئك قوم اتخذوا مساجد الله بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طهوراً، والقرآن شعاراً، والدعاء دثاراً، ثم قرضوا من الدنيا تقريضا على منهاج عيسى بن مريم عليه السلام[4].

 

قدوة الزاهدين

نحن نعلم أنّ الذي يتصدّر قائمة زُهّاد العالم الإسلاميّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. فلو طالعنا قصّة زهد عليّ بن أبي طالب عليه السلام ألف مرّة لوجدنا فيها في كلّ مرّة ما هو جديد، فعن عبد الله بن عبّاس قال: دخلتُ على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وقد كان يقود جيشاً في حرب وهو يخصف نعله، فقال لي: “ما قيمة هذه النعل؟ فقلتُ: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً[5]. لكنّ نفس هذا

 

الرجل الذي كان يُعدّ رمزاً للزهد في العالم قد حفر بيديه عدّة قنوات ماء، فقد كان يحمل المعول ويحفر الأرض حتّى إذا بلغ الماء أوقف البئر للفقراء، ولا زالت هناك في أطراف المدينة آبار تُسمّى “آبار عليّ عليه السلام”، وهي معروفة بين الناس، وكان يحمل نوى التمر على ظهره ويزرعها نواة نواة. حتّى إذا نبتت سقاها بنفسه حتّى تكبر وتصبح نخلات باسقات، فإن آتت ثمارها وقفها لفقراء الرعيّة، فليس هناك أدنى تنافٍ بين أعمال عليّ عليه السلام هذه وزهده في أمور الدنيا وعزوفه عنها، لأنّه كان يقوم بذلك بدافع أنّ الله عزّ وجلّ يُحبّ هذا العمل.

 

فمن جملة ما كلّف سبحانه وتعالى به الإنسانَ هو تعمير الأرض وزراعتها. فالله لا يُحبّ أن تبقى الأرض بائرة وأن تجفّ أشجارها ويموت زرعها. فهو جلّ وعلا يقول في محكم كتابه العزيز: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[6], أي هو الذي خلقكم أيّها الناس من الأرض وأوكل إليكم عمارتها.

 

فقد كان عليّ عليه السلام يكدّ ويكدح فإذا أنتج عملُه وأثمر زرعُه وهبه إلى الفقراء من الرعيّة. لكنّنا في العادة نُسمّي أنفسنا زاهدين وقانعين عندما لا يسعنا فعل شيء أو حينما لا يكون لدينا المزاج والطاقة للقيام بعملٍ ما. إذن لا بدّ أن نحذر من خداع أنفسنا، فإنّ من سجايا ابن آدم وميّزاته هي قدرته حتّى على خداع نفسه. فقد يكون ملتفتاً إلى الحقيقة في بادئ الأمر لكنّه يتغافل عنها ثمّ – شيئاً فشيئاً – يصدّق الأمر،.. إذن فبذل الجهود والقيام بالنشاطات والعمل هي من الواجبات التي طالب الله تعالى الإنسان بها ويتعيّن على الأخير إنجازها”[7].

 

حلاوة الزهادة

قد يستغرب بعض الناس عندما يرون طرفاً من أحوال الزاهدين أو يقرؤون عنها، وربما يتساءلون لماذا ينزل هؤلاء بأنفسهم كل هذا الشقاء والعناء مع أنّ الدنيا مبذولة للبر والفاجر؟! فتُطالعهم الإجابات الحكيمة التي ينطق بها الصادقون من أصحاب الزهد الحقّ، وهذه الإجابات عادة تنبأ عن الحال الذي قد عايشوه، فيستفيد من هذه الحِكم من يستفيد، ويطوي عنها كشحاً من لا يريد الانتفاع بها، ومن هذه الحِكم ينكشف لنا الكثير من أسرار الزهد والزهّاد، ولكن هناك سرّ لم يسبق لأحد من الزاهدين أن كشف عنه واستطاع أن يُلخّصه بكلمتين إلا إمامنا الزاهد الذاكر والخاشع الصابر أبو جعفر الباقر عليه السلام، والسر هو “حلاوة الزهادة“.

 

نعم إنّ للزهادة حلاوة يعرفها الخيّرين الفاضلين الزاهدين المرضيين، وهذه الحلاوة تُستجلب “بقصر الأمل“، فما هو قصر الأمل؟، وما هو طول الأمل؟ وكيف يُمكن الجمع بين مفهوم قِصَر الأمل، ومفهوم علوّ الهمّة المحبوب عند الله سبحانه وتعالى؟ وما هو مصداق كلّ منهما؟ هذه الأسئلة سنقدّم بتوفيق من الله تعالى توضيحاً موجزاً لها، وسنبدء الحديث عن طول الأمل لأنّ الأشياء تُعرف بأضدادها، وذلك من خلال مقارنتها بما يقابلها.

[1] بحار الأنوار (م.س).

[2] العلامة النوري، مستدرك الوسائل، ج ‏12، ص 50.

[3] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 20، ص 87.

[4] الشيخ الصدوق مُحمد بن علي بن بابويه القمي، الخصال، ج 1، ص 337، طبعة 1: جماعة المدرسين، قم.

[5] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 185، من خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة، ورواه جار الله الزمخشري في ربيع الأبرار، ج 5، ص 189، رقم 176، الطبعة 1: مؤسسة الأعلمي، بيروت.

[6] سورة هود، الآية 61.

[7] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 11 آب، 2011م

شاهد أيضاً

اليوم النوعي للمقاومة الإسلامية.. إما يذعن العدو الآن أو الآتي اعظم

عبد الحسين شبيب حتى تاريخه؛ يمكن القول إن الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 ...