الأذان بين الأصالة والتحريف (لـ علي الشهرستاني)4
8 مارس,2017
بحوث اسلامية
995 زيارة
وقفة مع أحاديث الرؤيا
اتّضح بجلاء ـ من خلال ما مرّ بنا من أحاديث وأقوال وغيرها ـ أنّ القول بتشريع الأذان في الإسراء والمعراج، ممّا لم ينفرد به الإماميّة الاثنا عشريّة، وإنّما قالت به الشيعة الزيدية والإسماعيلية أيضاً، إضافةً إلى أعلام من أهل السنّة، وهذا يعني أنّ تشريع الأذان ـ بوصفه فعلاً تعبّدياً ـ كان سماوياً وعُلْوياً وليس مناماً وأرضياً، وهذا القول ينسجم تماماً مع التشريعات السماوية الإلهية، ومع الاعتقاد بالنبوّة والوحي، التي هي واسطة في التشريع بين الله تعالى وبين خلقه.
أمّا القول بأنّه كان عبر منام رآه رجل وأخبر به النبيَّ (صلى الله عليه وآله) فإنّه من منفردات بعض أهل السنّة، والذي أمسى قولاً مشهوراً لديهم فيما بعد.
وإزاء اشتهار هذا القول عندهم، تبرز طائفة من التساؤلات الملَحّة التي تصدر من الرؤية الإسلاميّة لحقائق الاشياء وعمق التشريع الإلهي.
ومن هذه التساؤلات: هل يسوغ لهذا القول ـ الذي يُسنِد تشريع الأذان إلى رؤيا أحد الناس ـ أن يتلاءم وأصول الشريعة القائمة على تلقّي النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الله سبحانه؟
وهل يسوغ ـ في منطق الإسلام والوحي ـ أن تؤخذ الشريعة من الأحلام والمنامات والأقاصيص، أو حتّى من المشاورة كما جاء في بعض أحاديث الأذان؟
الصفحة 59
أوّلاً: إنّ المنام لا يصحّ أن يُستنَد إليه في القضايا الشرعيّة، ولا يمكن أن يُعتمَد عليه فى تشريع الأحكام.. اللهمّ إلاّ أن يكون رؤيا رآها رسول الله نفسه ; لأنّها جزء من الوحي.
إنّ التلّقي عن الله وحصر الأخذ عنه جلّ وعلا تنفي كلّ ما عدا الوحي الإلهي في التشريع، وتؤكّد أنّ هذا الوحي هو وحده المنبع الذي ليس للنبيّ أن يبدّله أو يغيّر فيه من تلقاء نفسه، كما عرّفنا الله سبحانه ذلك بقوله: {قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم} (1).
وقال: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌّ مُبِينٌ} (2).
وقال أيضاً: {قُل إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَايُوحَى إِلَيَّ مِن رَبِّي هذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ} (3).
وقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (4).
وقال في ملائكته: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (5).
إنّ هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّه ليس لرسول الله ولا لملائكته أن يسبقوه بالقول أو أن يُشرِّعوا من قِبَل أنفسهم، إذ ليس لهم إلاّ الاستماع إلى الوحي
____________
1- يونس: 15.
2- الأحقاف: 9.
3- الأعراف: 203.
4- النجم: 3 ـ 5.
5- الأنبياء: 26 ـ 27.
الصفحة 60
وانتظاره، وقد انتظر الرسولُ (صلى الله عليه وآله) الوحيَ في تغيير القبلة مدّة ستّة شهر أو سبعة حتّى نزل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ…} (1).
أمّا التشاور فهو أبعدُ ما يكون عن أن يتولّد منه حكم شرعيّ، ذلك أنّ لله الدين الخالص وليس لغيره فيه من شيّ، كما قال جلّ جلاله: {يَقُولُونَ هَل لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيء قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ} (2). من هنا يكون قول الحقّ تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} دالاًّ على المشاورة في الموضوعات الخارجية وشئون الحياة اليومية، والمواقف العملية من بعض الحوادث، كالموقف في الحرب ومواجهة مكائد الأعداء وإمكانيّات سبل السلام، وما إليها.
وهذه المشاورة ذات ثمرات صالحة، منها: أنّها تُشعِر المشاوَرين بالمشاركة في صنع الموقف المسؤول، ومنها أنّها تَهَبُهم طاقة للاندفاع في سبيل تنفيذ مقرّرات هذه المشاورة وتحمّل نتائجها. ومع ذلك كلّه تظلّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلمة الأخيرة في مقرّرات المشاورة، فهو الذي يحدّد ما ينبغي وما لا ينبغي، ويكون عزمه في المسألة هو الساري الجارى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}.
إنّ الشورى ليس لها دخل في الأحكام، ومتى تدخّلت في الحكم فإنّها تكون قد شاركت الوحيَ في التشريع، وهَوَّنت من شأن النبوّة والنبيّ، وفتحت باباً للتقوّل على الله.. ذلك التقوّل الذي هدّد اللهُ تعالى باجتراح ولو بعض منه.
ولقد حذّر اللهُ رسولَه ـ وهو أحبّ خلقه إليه ـ أيما تحذير، وهدّده أيّما تهديد.. إذا ما غيّر حرفاً واحداً، وذلك لمّا جاءه أهل قرية الناصرة بأحمال الذهب والفضّة
____________
1- البقرة: 144.
2- آل عمران: 154.
الصفحة 61
والحرير وأرادوا إِعطاءها رشوةً للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في مقابل أن يُبدّل حرف الباء تاءً في لفظة “أبَوا” بعد نزول قوله تعالى: {حتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} (1). وعندئذ نزل التهديد الإلهيّ ليعلم الناس أنّ دين الله خالص نقيّ لا يجوز بحال أن يشوبه شيء من رأي البشر ولو قَلّ وضَئُل إلى مستوى حرف استمع إلى تعابير المواجهة والإنذار: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَـمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ} (2)، وهو الذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (3).
ثانياً: إنّ الأذان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفريضة الصلاة التي هي “خيرُ موضوع”، كما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي عمود الدين وأساسه الجوهري.. إلى حدّ أن جعل الإمام الهادي الزيدي الأذان من أصول الدين! كما مرّ بنا سابقاً.
والأذان مقدّمة للصلاة، وكلاهما عبادة خالصة لله عزّوجلّ صادرة عن حقيقة وجودية توحيدية عميقة. من هنا يكون من الغفلة الاعتقاد بأنّ الله عزّوجلّ قد أمر خاتم أنبيائه الكرام بإقامة الصلاة على وجهها الذي شرّعه الله تعالى، ثمّ ترك شأن تعليم أذان الصلاة وإقامتها لأُناس عاديّين يقولون إنّهم رأوها في المنام! أو إنّهم قد أضافوا إليها من عندهم ما يكملها، دون أن يُعلّمها رسولَه الذي هو مبلّغ الوحي وحامل راية الهدى لأجيال البشرية كافّة.
ثالثاً: تشير بعض النصوص السنيّة التي أوردتها كتب الصحاح والسنن في موضوع الأذان إلى أنّ رسول الله كان في حيرة من أمر الأذان، ولم يكن يعلم الحكم
____________
1- الكهف: 77.
2- الحاقّة: 44 ـ 47.
3- النجم: 3.
الصفحة 62
الإلهيّ فيه أيّاماً، حتّى شاور الصحابةَ في ذلك، وأمر بناقوس النصارى ليكون إعلاماً لوقت الصلاة حتّى “كاد ينقس”!
وفي هذا الرأي من التوهين والتقليل من شأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لا خفاء فيه، وهو ممّا يرفضه منطق القرآن الكريم، ويرفضه المنطق الإيماني على وجه العموم، ذلك أنّ هذا التوهين يعارض دعوةَ القرآن المسلمين إلى توقير رسول الله وتعظيمه، ويضادّ نهي الذين آمنوا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، تعريفاً بتميّزه وعلوّ مقامه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (1) اهتماماً بمكانته (صلى الله عليه وآله) وشأنه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية نزلت لمّا تنازع أبو بكر وعمر في تعيين مَن يكون موفد الرسول المصطفى إلى بني تميم.
فقال أبو بكر: القعقاع بن معبد، وقال عمر: الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلاَّ خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتمارَيا حتّى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك هذه الآيات الحكيمة(2).
فإذا كان الله سبحانه لا يرتضي التنازع ورفع الصوت بمحضر النبيِّ في أيّة قضيّة من القضايا احتراماً له وتوقيراً لمقامه، فكيف يصحّ أن يُنسَب إليه التحيّر في شأن أمر تعبّدي كالأذان حتّى اختار ـ أو كاد أن يختار ـ ناقوس النصارى يُنقس به إعلاماً للصلاة؟!
____________
1- الحجرات: 1 ـ 2.
2- انظر: صحيح البخاريّ 6: 290 كتاب المغازي، باب وفد بني تميم ح 812، باب وفد بني تميم.
الصفحة 63
رابعاً: أهمل الشيخان البخاريّ ومسلم وكذا الحاكم النيسابوريّ في مستدركه ذِكْر أحاديث رؤيا عبدالله بن زيد، بل في المستدرك عن (سفيان بن الليل عن الإمام الحسن السبط) ما يُسَخِّف تشريع الأذان بالمنام.
وقد أجاب الحاكم معلّلاً تركَ الشيخين أحاديث عبدالله بن زيد التي قصّها على رسول الله بقوله: (… وإنّما ترك الشيخان حديث عبدالله بن زيد في الأذان والرؤيا التي قصّها على رسول الله بهذا الإسناد(1)، لتقدّم موت عبدالله بن زيد، فقد قيل: إنَّه استُشهد بأُحد، وقيل: بعد ذلك بيسير، والله أعلم)(2).
ويشير إهمال الشيخين لهذا الحديث إلى أنّه لا أصل لحديث عبدالله بن زيد عن رسول الله، ويؤيّد ذلك ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة عمر بن عبدالعزيز عن عبيدالله بن عمر، قال: (دَخَلتْ ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن
____________
1- ليس فيما روي عن عبدالله بن زيد في الأذان ما رجاله على شرط الشيخين إلاّ ما رواه بشير بن محمد بن عبدالله بن زيد عن جدّه عبدالله بن زيد، ولكن لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما لأنّه منقطع ; فالحفيد بشير لم يدرك جدّه عبدالله بن زيد.
2- المستدرك للحاكم 4: 348 كتاب الفرائض، باب ردّ الصدقة ميراثاً. قال ابن حجر في تلخيص الحبير 3: 162.
(وقال الحاكم والبيهقي: الروايات عن عبدالله بن زيد في هذا الباب كلّها منقطعة ; لأنّ عبدالله بن زيد استشهد يوم أحد. ثمّ أسند عن الدراوردي عن عبيدالله بن عمر قال: دخلت ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن عبدالعزيز فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا ابنة عبدالله بن زيد، شهد أبي بدراً وقتل يوم أحد، وفي صحّة هذا نظر ; فإن عبيدالله بن عمر لم يدرك هذه القصّة… وروى الواقدي عن محمد بن عبدالله بن زيد قال: تُوفّي أبي بالمدينة سنة اثنين وثلاثين، وقال ابن سعد: شهد أحداً والخندق والمشاهد كلها، ولو صحّ ما تقدم للزم أن تكون بنت عبدالله بن زيد صحابية). عن تلخيص الحبير 3: 162 ـ 163.
أقول: الظاهر أنّ كلام الحاكم هو الصحيح، فإنّ الراوي هو عبيدالله بن عمر العمري كما في الإصابة 2: 312 ترجمة عبدالله بن زيد بن ثعلبة، وهو عبيدالله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطّاب، المتوفّى سنة 144 أو 145 أو 147 هـ، والمسند إليه صحيح بلحاظ الراوي والمروي عنه. انظر: تهذيب الكمال 19: 124 ـ 130.
الصفحة 64
عبدالعزيز، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا بنت عبدالله بن زيد، أبي شهد بدراً وقُتِل يوم أحد، فقال عمر:
تلك المكارِمُ لا قعبان من لَبن شِيبا بماء فعادا بَعدُ أبوالا
سَليني ما شئتِ، فسألت فأعطاها ما سألت(1).
ولو ثبت بشكل قطعي أنَّ عبدالله رأى الأذان لَذَكرتْ ابنته هذه المكرمة له وعدّتها ضمن منقبتيه الأُوليين: حضوره بدراً وقتله بأُحد، بل أن فضيلة رؤيا الأذان لو كانت واقعةً فعلاً لَما ضاهاها شيء ; إذ إنّ الوحي قد وافقه في هذه المسألة دون عموم بني البشر، وهي أهمّ من حضوره بدراً وقتله بأُحد، وذلك لمشاركة آخَرين له في هاتين الفضيلتين.
إنَّ عدم ذكر ابنة عبدالله بن زيد لهذه المنقبة ـ وهي في معرض استعطاف عمر بن عبدالعزيز ـ ليشير إلى عدم ثبوت هذه المكرمة له في العهد الأوّل.
خامساً: من الثابت عند أهل العلم أنّ رؤيا الأنبياء وحدهم حجّة، لا رؤيا غيرهم. نعم، إنّهم صحّحوا هذه الرؤيا والمنامات الأخرى بتطابق الوحي معها.
قال العسقلانيّ: (وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبدالله بن زيد، لأنَّ رؤيا غير الأنبياء لا يُبنى عليها حكم شرعيّ، وأُجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك…)(2).
لكنّ هذا الجواب غير علميّ ولا دقيق ; لأنَّ مجرّد احتمال مقارنة الوحي لا يفيد، إذ لو كان ذلك صحيحاً لذكرته الروايات المعتمدة في الباب ولم تنحصر باجتهادات
____________
1- حلية الأولياء 5: 322 ترجمة عمر بن عبدالعزيز، وعنه في الإصابة 2: 312 ترجمة عبدالله بن زيد بن عبدربّه بن ثعلبة.
2- فتح الباري 2: 65 باب الأذان مثنى.
الصفحة 65
أمثال ابن حجر.
ثمّ لماذا لم ينزل الوحي على رسول الله حينما كان متحيّراً في أوّل أمره (أي حينما قَدِم المدينة) حتّى أخبره عبدالله بن زيد بمنامه، ثمّ تطابق الوحي مع الرؤيا بعد ذلك؟!
إنَّ تعارض النصوص وتخالفها مع الثوابت الأُخرى تُخطِّئ هذه الرؤية ; لأنَّ القول بتشريع الأذان في المَسرى لا يتطابق مع حيرة النبيّ وسعيه لمشاورة الصحابة في المدينة، وخصوصاً حينما نشم رائحة الغلوّ من بعض النصوص وادِّعاء نزول ما يشابه الوحي على عبدالله بن زيد، أو على عمر، أو بلال، لقول عبدالله في بعض النصوص: “كأنّي وأنا بين نائم ويقظان”، وفي آخر: “لولا أن يقول الناس لقلتُ بأنّي كنتُ يقظان غير نائم”!!
أو ما جاء في نصوص أُخرى: “إنَّ جبرئيل أذَّن في سـماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسـبق عمـر بلالاً فأخـبر النـبيّ ثمّ جاء…”، أفَـلا تـرى أنّ هـذه النصـوص تـرفـع من شـأن عبدالله بن زيد ومن شـأن عمرَ إلى مرتـبة النـبوّة، وتغـلو فيهـما؟!
بل العجب العجاب أن نرى إلقاء العبء الأكبر في الأذان على عبد الله بن زيد بن عبدربّه الخزرجي الأنصاري، هذا الصحابي غير الواضح المعالم في التاريخ والفقه، والذي لم يُعرَف ولم يشتهر إلاّ عبر هذه المفردة، إذ عرف بـ “الذي أُرِيَ الأذان”. ومثل ذلك ما قيل في سَمِيّه عبدالله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري “صاحب حديث الوضوء” الذي ألقوا على عهدته قسماً من الوضوء الثلاثي الغَسلي وادّعوا أن الأخبار الصحيحة جاءت عنه وهو منها بريء!
فلماذا هذان الصحابيان الأنصاريان الغامضا المعالم؟! اللذان لا يعرفان إلاّ في
الصفحة 66
حديثَي الأذان والوضوء؟!
وبعد هذا، لابدّ من الإشارة إلى إشكال آخر أثاره السُّهيليّ(1) والعسقلانيّ وغيرهما حاولوا الاجابة عنه.
قال ابن حجر في إرشاد الساري: (فإن قلتَ: ما الحكمة في تخصيص الأذان برؤيا رجل ولم يكن بوحي؟
أُجيب: لما فيه من التنويه بالنبيّ والرفع لذِكره ; لأنَّه إذا كان على لسان غيره كان أرفَعَ لذكره وأفخَرَ لشأنه، على أنَّه روى أبو داود في المَراسيل أنَّ عمر لمّا رأى الأذان جاء ليخبر النبيّ فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلاّ أذان بلال، فقال له (عليه السلام): سبقك بها الوحي. ورواة هذا الحديث خمسة، وفيه التحديث والإخبار)(2).
وهذا التعليل عليل، لأنَّه لو صحّ للزم لحاظ هذا الوجه في كلّ شيء ورد فيه ذِكر الشهادتين، لأنَّ نقل ذلك على لسان غيره أرفع لذكره وأفخر لشأنه وأدفع لتهم أعدائه، في حين نعلم بأنَّ الباري جَلَّ شأنه هو الذي رفع ذِكره بقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (3)، وبعد هذا فلا يحتاج إلى أن يرفع ذكره بعد الباري جلّ شأنه أحدٌ.
هذه أهمّ الأقوال التي قيلت في تشريع الأذان عند مدرسة أهل السنّة والجماعة، وقد يمكن إرجاع بعضها إلى بعض، وتقليص حجم اختلافاتها، غير أنّ إعادة جميع النصوص إلى قول واحد محالٌ من القول، لأنّ القول بتشريعها والتأذين بها في الإسراء والمعراج لا يتّفق مع هَمِّ وغمّ رسول الله في المدينة وجلوسه مع
____________
1- في الروض الانف 2: 356.
2- إرشاد الساري 2: 4.
3- الانشراح: 4.
الصفحة 67
أصحابه يستشيرهم في كيفيّة التأذين وطريقة جمع المسلمين على شيء واحد.
وهكذا الحال بالنسبة إلى ما جاء عن عمر وأنّه كان أوّل من سمع أذان جبرئيل في السماء ثمّ بلال، أو ما حكي عنه من أنّه أضاف الشهادة بالنبوة في الأذان بعد أن كانت فيه الشـهادة بالتوحيد فقط، فإنّه لا يتّفق مع تشـريع الأذان في المسرى.
وكذا القول بأنّ أبا بكر كان أوّل مَن أخبر رسولَ الله بالأذان ـ كما في خبر جامع المسانيد ـ فهو يخالف المشهور بين المحدّثين من أنّ عبدالله بن زيد الأنصاريّ كان أوّل مَن أخبر رسول الله بمنامه.
وكذا الحال بالنسبة إلى ما اشتهر عن عبدالله بن زيد وأنّه أخبر رسول الله في الصّباح ـ بعد أن نام بالليل ـ لقوله: (فلمّا أصبحتُ أتيت رسول الله) أو: (فلما غدا…) وهو يخالف ما قاله الحافظ الدمياطي في سيرته من أنّ عبدالله بن زيد أتى رسول الله ليلاً وأخبره(1).
وقد حاول الحلبيّ الجمع بين القولين ذاهباً إلى عدم المنافاة بينهما ; لأنّ جملة: (فلمّا أصبحتُ) أو: (فلمّا غدا) إشارة إلى مقاربة الوقت للصباح.
وهذا تأويل بعيد يخالف الظاهر، لأن المتبادر من كلمة (فلما اصبحت) أو (غدوت) صريح في الصبح، فكان على الحلبي أن يخطّئ نقل الحافظ الدمياطي وهو خير له من أن يقول بهذا القول.
وكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب، ففي بعض النصوص نراه يخرج حينما
____________
1- انظر: السيرة الحلبية 2: 299.
الصفحة 68
سمع الأذان (وهو في بيته يجرّ رداءه)، وفي بعض آخر نراه يقترح على رسول الله بقوله: (أوَ لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟)، فـ (فخرج يجر رداءه) يختلف مع (أو لا تبعثون) لكون الثاني يشير إلى أنَّ الأذان شُرِّعَ باقتراح عمر ابن الخطّاب وأنَّه كان بمحضر الرسول، أمّا جملة (فخرج يجر رداءه) فتشير إلى أنَّه سمع الأذان وهو في بيته.
قال القسطلاني في إرشاد الساري ـ بعد أن أتى بخبر ابن عمر السابق الذكر ـ: (كان المسلمون حين قدموا المدينة) ; قال الحافظ ابن حجر بأنَّ سياق حديث عبدالله بن زيد يخالف ذلك، فإنَّ فيه أنَّه لمّا قصَّ رؤياه على النبيِّ، قال: فسمع عمر الصوت فخرج فأتى النبيَّ فقال: رأيتُ مِثل الذي رأى. فدلَّ على أنَّ عمر لم يكن حاضراً لمّا قصَّ عبدالله.
قال: والظاهر أنّ إشارة عمر بإرسال رجل ينادي بالصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأنَّ رؤيا عبدالله كانت بعد ذلك ; وتعقّبه العينيّ بما رواه أبو داود عن أبي بشر، عن أبي عمير، عن أنس، عن عمومة له من الأنصار، أنّ عبدالله بن زيد: قال (إذ أتاني آت فأراني الأذان، وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه، فقال له النبيُّ: ما منعك أن تخبرنا…) إلى آخره، ليس فيه أنَّ عمر سمع الصوت فخرج ; فقال: فهو يُقَوي كلام القرطـبيّ ويردّ كلام بعضهـم ـ أي ابن حجـر ـ انتهى.
وأجاب ابن حجر في انتقاض الاعتراض بأنَّه إذا سكت في رواية أبي عمير عن قوله: فسمع عمر الصوت فخرج، وأثبتها ابن عمر، إنّما يكون إثبات ذلك دالاً على أنَّه لم يكن حاضراً، فكيف يعترض بمثل هذا؟!(1).
ومجمل الكلام أنّهم بهذه الوجوه سعوا للجمع بين بعض النصوص، ولكن أنَّى
____________
1- إرشاد الساري 2: 3.
الصفحة 69
لهم الجمع في مواردها الأخرى؟ فانهم كلّما رقعوا منها جانباً انخرق منها جانب آخر، ونحن تركنا مناقشة تلك الروايات سنداً خوفاً من الاطالة، مكتفين بالتعليق على دلالة بعضها.
وخلاصة القول: أنَّ الأذان كغيره من الشرائع قد جرى فيه اتِّجاهان:
أحدهما: يقول بتشريعه في الإسراء والمعراج وأنَّه من الوحي الذي لا يجوز فيه الزيادة والنقصان.
وثانيهما: يعتقد بأنَّ تشريعه جاء على أثر منام رآه عبدالله بن زيد بن عبد ربّه، أو أنّه شُرِّع بمشورة من الصحابة.
وقد اختلف الاتّجاهان في المفاهيم والأُصول ; لأنَّ القائل بتشريعه في الإسراء والمعراج يربطه بقضايا إلهيّة قدسيّة، حيث إنَّ حقيقة الإسراء هي حقيقة عالية ترتبط بالغيب، وإنَّ أهل بيت الرسالة وبعض الصحابة المتعبّدين كانوا هم المطّلعين بما دار في الإسراء والمعراج، بعكس بعض قر يش التي كانت تنكر حقيقة المسرى وتسخّف مغزاه، فلم تكن تقبل بأن الرسول الأعظم تجاوز الحجب حتّى وصل إلى دار العظمة، حاملاً معه مفاهيم ربانية وأفكاراً عالية لا يمكن الوصول إليها إلاَّ بالاستعانة بالقدرة الإلهيّة، ولا يمكن معرفة دقائقها إلاّ عن أهل بيت الرسالة والوحي، الذين وضحوا لنا المبهم من هذه الأمور.
أمّا القائل بتشريعه عن طريق رؤيا رآها عبدُالله بن زيد، أو سبعةٌ آخرون من الصحابة، فيعطي لفكرته مسحة عدم التوقيف، ليكون له مساغ في أن يزيد في هذه الشعيرة المقدسة، أو ينقص منها.
قال السرخسي في المبسوط: “… بدليل ما روي عن إبراهيم أنَّ: أوّل مَن أفرد الإقامة معاوية. وقال مجاهد: كانت الإقامة مثنى كالأذان حتّى استخفّه بعض
الصفحة 70
أمراء الجور فأفرده لحاجة لهم”(1).
وقال ابن عبدالبرّ ـ في فتح المالك بتبو يب التمهيد على موطّأ مالك ـ وهو يريد أن يصحّح اختلاف أحاديث الأذان بقوله: (روى عن النبيّ في قصَّة عبدالله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة، وكلّها تتّفق على أنَّ عبدالله بن زيد أُري النداء في النوم، وأنَّ رسول الله أمر به عند ذلك، وكان ذلك أوّل أمر الأذان…)(2).
فهذا النصّ وما سبقه يتضح منهما أن غالب أهل السنّة والجماعة يقولون بعدم توقيفـيّة الأذان بالنحو الذي تقوله الشـيعة، إذ العامة يسـتدلون على شـرعيّـة الأذان بمـنام عبدالله بن زيـد حتّى أنّ بعض أمـراء الجـور أفرد الإقامـة لحاجـة لـه.
والعجب في هذا الباب ما قاله ابن عبد البرّ في موضع آخر من الكتاب المذكور: “في حديث هذا الباب لمالك وغيره من سائر ما أوردنا فيه من الآثار أوضح الدلائل على فضل الرؤيا وأنّها من الوحي والنبوّة، وحسبك بذلك فضلاً لها وشرفاً، ولو لم تكن وحياً من الله ما جعلها شريعة ومنهاجاً لدينه”(3).
قال أبو عمر(4): “اختلفت الآثار في صفة الأذان وإن كانت متّفقة في أصل أمره، كان من رؤيا عبدالله بن زيد، وقد رآه عمر بن الخطّاب أيضاً(5)!!! ”
____________
1- المبسوط 1: 129 كتاب الصلاة باب بدء الأذان، وانظر: المصنف لعبد الرزّاق 1: 463/1793.
2- فتح المالك 2: 3.
3- فتح المالك 2: 7.
4- هو ابن عبد البرّ.
5- التمهيد لابن عبدالبر 24: 27.
الصفحة 71
أفلا يدل قوله هذا على أنّ لعبدالله بن زيد وعمر بعض النبوّة؟!!
كانت هذه صورة مصغّرة عن اختلاف الآراء في مدرسة الخلفاء حول بدء تشريع الأذان، وكيف اتفقت مدرسة أهل البيت ومعها الصحابة المتعبدون على أنّه كان في الإسراء بتعليم من الله العليّ العظيم.
الصفحة 72
تحقيق في ما وراء نظريّة الرؤيا
بعد أن توصلنا إلى وجود اختلاف بين المسلمين في كيفيّة تشريع هذه الشعيرة الإسلامية، وعلمنا أنّ أهل بيت النبوّة لا يقبلون فكرة الرؤيا، حاولنا تحديد زمن النزاع بين المسلمين، والدوافع الكامنة وراء طرح مثل هذه الآراء في الشريعة.
ممّا لا شك فيه أنّ قدرات المسـلمين وأفهامهم وإدراكاتهم لحقيقة الإيمان والإسلام لم تكن بمرتبة واحدة.
فالبعضُ منهـم كان يفهم مغـزى الرسالة ومكانة الرسول وما يريده الله من أوامره ونواهيه بدّقة عالية فكان يتعبد بما قاله رسول الله ولا يرى لنفسه الخيرة من أمره.
والبعض الآخر كان يرى لنفسه حقّ التشريع وإبداء الرأي مسمّياً فعله بالاجتهاد.
وهناك اتّجاه ثالث أغرق في النزع، فراح يتعامل مع الرسول كأنّه رجل حارب فانتصر!
ورابع وخامس و…
وقد وضحنا في دراستنا لأسباب “منع تدوين الحديث” ونتائجه هذه الاتجاهات وقلنا أنّها جميعاً تنخرط وتنتظم في نهجين هما:
1 ـ المتعبدون = التعبد المحض.
2 ـ المجتهدون = الاجتهاد بالرأي.
ونحن لا نريد أن نعود إلى ما كتبناه سابقاً، بل نريد الإشارة إلى بعض الشيء
الصفحة 73
عن هذين النهجين، مؤكدين الكلية التي رسمناها في دراسة ملابسات التشريع، مبينين كيفية تطبيقها في مفردة الأذان، وكيف ارتبطت قضية الأذان بالمنام بعد ثبوتها في الاسراء والمعراج، وما هو ارتباطها بالرؤيا التي أقلقت النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; تلك الرؤيا التي رأى (صلى الله عليه وآله) فيها بني أميّة يَنْزُون على منبره الشريف نَزْوَ القردة؟
وقد رأينا تقديم شيء من خبر الإسراء والتحريفات الواقعة فيه ; لارتباطه ببيان رؤيتنا بصدد الرؤيا في الأذان، وهو بيان لدواعي اختلاف المسلمين في بدء الأذان، فنقول:
إنّ خبر الإسراء والمعراج ثابت لا كلام فيه، وقد وردت سورة باسم الإسراء في الذكر الحكيم.
وقد اختلف المسلمون في يوم الإسراء ومكانه وكيفيّة عروجه (صلى الله عليه وآله) إلى السماء، وما جرى في الإسراء والمعراج، وهل أُسري به مرّة أو مرّتين(1) أو أكثر من ذلك(2)، وهل كان عروجه بروحه وجسده أم بروحه فقط؟ على أنّ هناك من فَصَّل بين إسرائه ومعراجه، فقال بأن إسراءَهُ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بروحه وجسمه، وأنّ عروجه إلى السماء كان بروحه فقط؟
فالذين لا يدركون عمق الرسالة ومكانة الرسول شكّكوا في حقيقة الإسراء والمعراج وقالوا بأشياء لا تتفق مع رسالة الغيب والوحي، وقد ارتدّ بعض من أَسلَمَ حينما سمع بخبر الإسراء، وهناك من ثبت على الدين وصَدَّق بما قال الرسول وبما حكاه من مشاهدات ومغيّبات، كبعض الصحابة المتعبدين المخلصين الذين شهد لهم
____________
1- انظر: على سبيل المثال تفسير ابن كثير 3: 22 حيث قال: وقد صرّح بعض من المتأخّرين بأنّه(عليه السلام) أُسري به مرّة من مكّة إلى بيت المقدس فقط، ومرّة من مكّة إلى السماء فقط، ومرّة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء.
2- الخصال: 600. وانظر: علل الشرائع: 149.
الصفحة 74
التاريخ بصدقهم ووفائهم وبقائهم على العهد الذي فارقوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه.
نعم، قد اختلفت النصوص في مكان الإسراء، فالبعض منها صرحت بأنّه (صلى الله عليه وآله) أسري به من شعب أبي طالب(1)، والأُخرى من بيت خديجة(2)، وثالثة من بيت فاختة “أمّ هاني” بنت أبي طالب(3) أخت الإمام عليّ، ورابعة من بيت عائشة(4).
ففي تفسير الطبري بإسناده عن أبي صالح بن ياذم، عن أُمّ هاني بنت أبي طالب في مسرى النبيّ، أنّها كانت تقول: ما أُسري برسول الله إلاّ وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلّى العشاء الآخرة ثمّ نام ونمنا، فلما كان قُبيل الفجر أهبَّنا رسول الله، فلمّا صلّى الصبح وصلّينا معه قال: يا أُمّ هاني، لقد صلّيتُ معكم العشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي، ثمّ جئتُ بيت المقدس فصلّيت فيه، ثمّ صلّيت صلاة الغداة معكم الآن كما تَرَين(5).
وفي بعض الآثار أنّ أمّ هاني قالت: فقدتُه (صلى الله عليه وآله) ـ وكان نائماً عندي ـ فامتنع منّي النوم مخافةَ أن يكون عرض له بعض قريش. ويقال: أنّه تفرّقت بنو عبد المطلّب يلتمسونه، ووصل العبّاس إلى ذي طُوى وهو ينادي: يا محمّد، يا محمّد، فأجابه (صلى الله عليه وآله).
____________
1- فتح الباري 7: 160 كتاب أحاديث الأنبياء، باب المعراج، الدرّ المنثور 4: 149 سورة الإسراء عن ابن أبي حاتم عن قتادة.
2- المجموع النووي 9: 248 باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فرع في مذاهب العلماء في بيع دور مكّة، شرح الأزهار 1: 199.
3- المغني 10: 616 كتاب الجزية، الشرح الكبير 10: 621 كتاب الجزية، فتح الباري 7: 160، تحفة الأحوذي 9: 193.
4- الدرّ المنثور 4: 157، 154 سورة الإسراء الآية 1، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1: 194.
5- تفسير الطبري 15: 3 سورة بني إسرائيل الآية 1.
فقال: يا ابن أخي، أعيَيْتَ قومك! أين كنت؟
قال: ذهبتُ إلى بيت المقدس.
قال: مِن ليلتك؟!
قال: نعم.
قال: هل أصابك إلاّ خير؟
قال: ما أصابني إلاّ خير، وقيل غير ذلك(1).
وفي روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: لمّا أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) أصبح فقعد فحدَّثهم بذلك ; فقالوا له: صِفْ لنا بيت المقدس. قال: فوصف لهم، وإنّما دخله ليلاً فاشتبه عليه النعت، فأتاه جبرئيل فقال: انظر هاهنا، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه، ثمّ نعت لهم ما كان من عِير لهم فيما بينهم وبين الشام، ثمّ قال: هذه عير بني فلان تَقدِم مع طلوع الشمس يتقدّمها جملٌ أورَق أو أحمر. قال: وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردّها، قال: وبلغ مع طلوع الشمس، قال قرطة بن عبد عمرو: يا لَهفا!! ألاّ أكون لك جذعاً حين تزعم أنّك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك!(2)
وفي أمالي الصدوق بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: لمّا أسري برسول الله إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البُراق، فأتَيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بها وردّه، فمرّ رسول الله في رجوعه بعِير لقريش، وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلّوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فشرب رسول الله من ذلك الماء وأهرق باقيه.
____________
1- تفسير روح المعاني 15: 6 سورة بني إسرائيل الآية 1، الدر المنثور 4: 149 سورة الإسراء الآية 1.
2- روضة الكافي 8: 262 / الحديث 376. وانظر: الدرّ المنثور 4: 148 ـ 149.
فلما أصبح رسول الله قال لقريش: إنّ الله جلّ جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم، وإنّي مررت بعِير لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم فشربتُ من مائهم وأهرقتُ باقي ذلك، فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه، فاسألوه: كم الأساطينُ فيها والقناديل؟
فقالوا: يا محمّد، إنّ ها هنا من قد دخل بيت المقدس، فصِفْ لنا كم أساطينُه وقناديله ومحار يبه؟
فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه، فلمّا أخبرهم، قالوا: حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت، فقال لهم رسول الله: تصديقُ ذلك أن العِير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جملٌ أورَق.
فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العَقَبة ويقولون: هذه الشمس تطلع [ علينا ] الساعة، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العِير ـ حتّى طلع القرص ـ يقدمها جمل أورَق، فسألوهم عمّا قال رسول الله فقالوا: لقد كان هذا ; ضلّ جمل لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماءً فأصبحنا وقد أهريق الماء فلم يَزِدْهم ذلك إلاّ عُتوّاً(1).
وروى البغوي في تفسيره عن ابن عبّاس وعائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمّا كانت ليلة أُسري بي أصبحت بمكّة فضِقتُ بأمري وعرفتُ أنّ الناس يكذّبوني، فروي أنّه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً، فمرّ به أبو جهل فجلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل استفدتَ من شيء؟
قال: نعم، إنِّي أُسري بي الليلة.
قال: إلى أين؟
____________
1- أمالي الصدوق: 363، المجلس 69 ـ الحديث 1. وانظر: الدرّ المنثور 4: 148.
قال: إلى بيت المقدس.
قال: ثمّ أصبحتَ بين ظَهرانينا؟!
قال: نعم.
فلم يُرِهِ أبو جهل أنّه ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث، قال: أتُحدِّثُ قومك بما حدثتني به؟
قال: نعم.
قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، هلمّوا. قال: فانقضّت إليه المجالس فجاؤُوا حتّى جلسوا إليهما، قال: فحدِّثْ قومك بما حدّثتني؟
قال: نعم، أنّه أُسري بي الليلة.
قالوا: إلى أين؟
قال: إلى بيت المقدس.
قالوا: ثمّ أصحبت بين ظهرانينا؟
قال: نعم.
قال: فمِن بين مصفّق، ومن بين واضع يدَه على رأسه متعجّباً للكذب، وارتدّ ناسٌ ممن كان آمن به وصدّقه…(1)
قال ابن إسحاق: وحدِّثتُ عن الحسن:…. فلمّا أصبح (صلى الله عليه وآله) غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا والله الأمر البيِّن! والله إنّ العِير لتطرد شهراً من مكّة إلى الشام ; مُدبرةً شهراً ومُقبلةً شهراً، فيذهب ذلك محمّد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكّة!
قال: فارتدّ كثير ممن كان أسلم(2)…
* * *
____________
1- تفسير البغوي 3: 79. وانظر: مختصر تاريخ دمشق 17: 189 ترجمة عليّ بن أحمد ابن المبارك.
2- أحكام القرآن للقرطبي 10: 285 سورة بني إسرائيل الآية 60.
كان هذا بعض الشيء عن الإسراء والمعراج وتكذيب قريش بهما، وارتداد بعض المسلمين، وقد سعت قريش وعن طريق حكّام بني أميّة وبعض علماء البلاط في العصور المتأخّرة إلى التشكيك في الإسراء والمعراج والتقليل من عظمة هذا الأمر الإلهيّ ومكانة الرسول بطرح تشكيكات ذات طابع جدلي، كالقول باستحالة صعود الأجسام إلى العالم العلوي بهذه السرعة الخارقة للعادة بحيث يذهب في آخر الليل ويرجع إلى مكّة عند الفجر، وعدم تطابق ما قيل في مقدمات هذا السفر الإلهي من شقّ الصدر وغسله بماء زمزم وركوبه (صلى الله عليه وآله) البراق و… مع العقل.
كلّ تلك التساؤلات بل قل التشكيكات جاءت مساوقة للتشكيك في مدلول قوله تعالى في الآية 60 من سورة الإسراء ; إذ قال سبحانه {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} حيث قالوا بأنّ الإسراء والمعراج كان بروحه (صلى الله عليه وآله) ـ لا بجسمه وروحه ـ كي يقللوا من واقع الإسراء ويعضّدوا القول بأنّه كان في المنام لا في اليقظة و…
فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عائشة رضى الله تعالى عنها، قالت: ما فقدتُ جسدَ رسولِ الله، ولكنّ الله أسرى بروحه(1).
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنّه كان إذا سئل عن
____________
1- الدرّ المنثور 4: 157. وفي تفسير الطبري 15: 13 حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثني بعض آل أبي بكر أنّ عائشة كانت تقول: ما فُقد جسدُ رسول الله ولكنّ الله أسرى بروحه.
مسرى رسول الله قال: كانت رؤيا صادقة(1).
قال القرطبي في تفسيره: وقد احتُجَّ لعائشة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} فسمّاها رؤيا.
وهذا يردّه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}، ولا يقال في النوم: “أسرى”، وأيضاً فقد يقال لرؤية العين “رؤيا”… وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالة واضحة على أنّ الإسراء كان بالبدن…(2)
وقال ابن عطيّة الأندلسي:… والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أمّ هاني: لا تُحدِّث الناس بهذا فيكذبوك، إلى غير هذا من الدلائل.
واحتجّ لقول عائشة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} ويحتمل القول الآخر ; لأنّه يقال لرؤية العين “رؤيا”. واحتجّ أيضاً بأنّ في بعض الأحاديث “فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام”، وهذا محتمل أن يريد من الإسراء النوم.
واعترض قول عائشة بأنّها كانت صغيرة لم تشاهد ولا
|
____________
1- الدرّ المنثور 4: 157. وفي تفسير الطبري 15: 13 حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنّ معاو ية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: كانت رؤيا من الله صادقة!
2- تفسير القرطبي 10: 209 سورة الاسراء الآية 1.
حدّثت عن النبي (عليه السلام)، وأمّا معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال، صغيراً، ولم يحدّث عن النبيّ…(1)
وقال ابن كثير:… فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء، ولم يكن مستعظماً، ولما بادرت قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدّت جماعة ممّن كان قد أسلم، وأيضاً فإن “العبد” عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}…(2)
ويجري مجرى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ما في سورة النجم، فقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}(3) لا يتّفق مع الرؤيا، بل الآية في سياق الامتنان وبيان آيات ربّه الكبرى، أمّا الرؤيا فهي نحو من التخيّل يتفق للصالح والطالح ولا منزلة للرسول في القول بهذا.
|
هذا ويمكن إجابة كلّ التساؤلات والتشكيكات بأنّ الأمر كان معجزةً، والمعجزةُ لا تدركها العقول البسيطة، فهي من قبيل إحياء الأموات، وتبديل العصى ثعباناً، وكولادة عيسى من غير أَب، وخروج ناقة صالح من الجبل الاصم، وقوله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ
____________
1- المحرر الوجيز 3: 435، وانظر: تفسير الثعالبي 2: 248.
2- تفسير ابن كثير 3: 23 سورة الإسراء آية 1.
3- النجم: 17 ـ 18.
ادْعُهُنَّ يَأْتِيَنَّكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)، وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} (2) صريحٌ بإحضار (من عنده علم من الكتاب) لعرش بلقيس من اقصى اليمن إلى اقصى الشام في مقدار لمح البصر، وهو يشبه ما قاله سبحانه عن الرياح وأنّها كانت تسير بسليمان {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (3)في لحظة واحدة، إلى غيرها من عشرات بل مئات الموارد.
إذاً رسالة الإسلام هي رسالة الغيب والإيمان بما خلق الله من الجنِ والملك والروح و… والمسلم هو الذي يسلم بالغيب ويؤمن به لقوله تعالى: {الذينَ يؤمنون بالغيب} (4).
فلو كان معراج النبيّ محمّد في ليلة واحدة ممتنعاً لكان القول بنزول آدم من الجنّة وإصعاد عيسى إلى السماء ممتنعاً، بل لسرى الشك في المعجزات لأنّها في أصلها خرقٌ للقوانين المادية.
وعليه فهذه الرؤية طرحت لبذر الشكّ في قلوب المؤمنين من قبل {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ} (5) أو {الذينَ لا يؤمنون} (6) في حين أنّ رسالة السماء معناها الغيب والماورائيات وهي تتفق مع الإسراء وما جاء فيه، وهذا ما لا تدركه عقول هؤلاء من الامتحان الإلهيّ الذي سُنّ ليمحّص الله به المؤمنين ويميزهم عن
____________
1- البقرة: 260.
2- النمل: 40.
3- سبأ: 12.
4- البقرة: 3.
5- المائدة: 52، التوبة: 125، الأنفال: 49.
6- النحل: 22.
الكافرين والمنافقين.
هذا وقد أجاب العلاّمة الطباطبائي في (الميزان) عمّا قاله بعض المفسّرين من أنّ الشجرة الملعونة في القرآن تعني شجرة الزقّوم التي قال عنها الباري جلّ شأنه: {أَذلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} (1)، بأنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً لأنّه جلّ شأنه لم يلعنها في موضع من القرآن الكريم، ولو كان مجردّ كونها شجرةً تخرج من أصل الجحيم سبباً موجباً للعنها في القرآن الكريم لكانت النار وما أعدّ الله فيها من العذاب ملعونة وهذا ما لم يَقُله أحد، ولكان ملائكةُ العذاب ـ الذين قال عنهم جل شأنه: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (2) ـ ملعونين، في حين نراه سبحانه قد أثنى عليهم بقوله: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3).
ولو صحّ هذا الاحتمال لكانت أيدي المؤمنين ملعونة كذلك ; لقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (4).
ومثله حال بقية المعاذير التي ذكرها مفسروا أهل السنة والجماعة للتخلّص من كيفية صحّة لعن الشجرة، ومحاولتهم صرف الآية الكريمة عن لعن شجرة بني أميّة(5).
وإنكّ لو تدبّرتَ في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً
____________
1- الصافّات: 62 ـ 63.
2- المدّثر: 31.
3- التحريم: 6.
4- التوبة: 14.
5- انظر: على سبيل المثال تفسير الميزان 13: 141 ـ 143 ففيه جواب تلك المعاذير المطروحة.
لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} لعرفت أنّ المقصود منها بنو أميّةِ ; لما فعلوه من قبيح الأعمال، ولا يصحّ ما قالوه بأنّ المعنيّ من الرؤيا هي الإسراء وغيرها من الأفكار الفاسدة.
وبهذا فقد عرفت أَنَّ جهلهم بالاُمور الغيبية ومكانة الرسول لم يكن عن قصور أو تقصير بَدْويَّينِ، بل إنَّ جذوره ترجع إلى خلفيات هي أعمـق ممّا قالـوه بكثير.
مع الرسول ورؤياه
قال الالوسي في تفسير آية الرؤيا:… وأخرج ابن جرير، عن سهل بن سعد، قال: “رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني أميّة يَنْزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتّى مات عليه الصلاة والسلام، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا}. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب، قال: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني أميّة على المنابر فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: إنّما هي دنيا أُعطُوها، فقرّت عينه، وذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا}… الخ.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن يعلى بن مرّة، قال: “قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رأيت بني أميّة على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتمّ عليه الصلاة والسلام لذلك، فأنزل الله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا}… الآية ” وأخرج عن ابن عمر: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: “رأيتُ ولد الحَكَم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة، وأنزل الله تعالى في ذلك {وَمَا جَعَلْنَا}… الخ، والشجرة الملعونة الحكم وولده” وفي عبارة بعض المفسرين: هي بنو أميّة.
وأخرج ابن مردويه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّها قالت لمروان بن
الحكم: “سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لأبيك وجدّك: إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن”.
فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم، والكلام على ما قيل على حذف مضاف، أي “وما جعلنا تعبير الرؤيا” أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها، ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبراً، وبذلك فسره ابن المسيب.
وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا، وعدلوا عن سنن الحقّ وما عدلوا، وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم، ممن كان عندهم عاملاً وللخبائث عاملاً، أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان.
ويحتمل أن يكون المراد “ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلاّ فتنة”، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه. وجعل ضمير {وَنُخَوِّفُهُمْ} على هذا لما كان له أوّلاً، أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أميّة ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، والفروج المحصنة، وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها، وتبديل الأحكام، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تُنسى ما دامت الليالي والأيام.
وجاء لعنهم في القرآن، إما على الخصوص كما زعمته الشيعة، أو على العموم كما نقول، فقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}وقال عزّوجلّ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} إلى آيات أخر، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوّليّاً(1)، انتهى موضع الحاجة
____________
1- تفسير روح المعاني 15: 107 ـ 108، هذا ومن المفيد الرجوع إلى التفسير الكبير للرازي 20: 236 ـ 237 لملاحظة سائر الأقوال في الآية المباركة.
من كلام الآلوسي.
وقال القرطبي في تفسيره: “فنزلت الآية مخبرة أنّ ذلك من تملّكهم وصعودهم [أي نَزْوِهِم على منبره نزو القردة] يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً، وقرأ الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين}. قال ابن عطية: وفي هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا، عثمان، ولا عمر بن عبدالعزيز، ولا معاوية”(1).
وعليه فلا يصحّ ما قالوه من تكلّفات في كلمة الرؤيا والشجرة الملعونة في الآية، مع وضوح أنّ الملعونين في القرآن هم جند إبليس واليهود، والمشركون، والمنافقون، والذين ماتوا وهم كفار، والذين يكتمون ما أنزل الله، والذين يؤذون الله ورسوله وغيرها لا شجرة الزقوم ولا غيرها من التأويلات التي صيغت بأخرة لإبعاد الآية الكريمة عن معناها الحقيقي(2).
____________
1- تفسير القرطبي 10: 283 سورة الاسراء.
2- وللتاكيد انظر: كتاب المأمون العبّاسي في تاريخ الطبري 10: 57 ـ 58 حتى تقف على الفهم السائد في القرون الأولى بالنسبة للشجرة الملعونة وأنّها تعني بني أميّه وأن أهل البيت هم العترة ـ والكتاب طو يل نأخذ من قوله ـ:… فجعلهم الله أهل بيت الرحمة وأهل بيت الدين، أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا، ومعدن الحكمة، وورثة النبوة، وموضع الخلافة، وأوجب لهم الفضيلة، وألزم العباد لهم الطاعة، وكان ممن عانده ونابذه وكذّبه وحاربه من عشيرته العدد الأكثر، والسواد الأعظم، يتلقّونه بالتكذيب والتثريب، ويقصدونه بالأذيّة والتخو يف، ويبادونه بالعداوة، وينصبون له المحاربة، ويصدّون عنه من قصده، وينالون بالتعذيب مَن اتّبعه، وأشدّهم في ذاك عداوة وأعظمهم له مخالفة، وأوّلهم في كلّ حرب ومناصبة، لا يرفع على الإسلام راية إلاّ كان صاحبها وقائدها ورئيسها في كلّ مواطن الحرب من بدر، وأحد، والخندق، والفتح: أبو سفيان بن حرب، وأشياعه من بني أميّة الملعونين في كتاب الله، ثمّ الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدّة مواضع ; لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم، ونفاقهم، وكفر أحلامهم، فحارب مجاهداً، ودافع مكابداً، وأقام منابذاً حتّى قهره السيف، وعلا أمر الله وهم كارهون، فتقوَّل بالإسلام غير منطو عليه، وأسرَّ الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول الله والمسلمون وميّز له المؤلفة قلوبهم فقبله، وولده على علم منه، ممّا لعنهم الله به على لسان نبيه وأنزل به كتاباً قوله: {والشجرةَ الملعونَة في القرانِ ونُخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيرا} ولا اختلاف بين أحد أنّه أراد بها بني أميّة، ومنه قول الرسول (عليه السلام) وقد رآه مقبلاً على حمار، ومعاوية يقود به، ويزيد ابنه يسوق به: لعن الله القائد، والراكب، والسائق…
الأذان 2017-03-08