الرئيسية / الاسلام والحياة / مسالة الحجاب في القرآن وقفة مع د. محمد شحرور

مسالة الحجاب في القرآن وقفة مع د. محمد شحرور

لا يعد البحث، في مسالة الحجاب، امرا جديدا، وقد يرى فيه بعضهم بحثا كثر الكلام فيه. لكن، وان كان الامر يبدو كذلك، للوهلة الاولى، الا اننا، وبعد الاطلاع على ما يطرح اليوم من آراء في مسالة الحجاب، نرى ان النظرة سوف تتبدل، خصوصا مع ملاحظة ان اكثر الذين يدعون عدم وجوب الحجاب يستندون الى القرآن في ذلك، وجلهم يحمل شعار التجديد في الفكر الاسلامي والحرص على قراءة التراث قراءة معاصرة تعيد للاسلام مجده وصدارته.

يتحدث بعضهم عن الحجاب بوصفه صفة من صفات التحجر الفكري، وهذا الفهم ناجم عن عدم فهم الاسلام على حقيقته وعدم قراءة النص القرآني قراءة صحيحة. وفي هذا الصدد، يرى الصادق النيهوم ان الحجاب تقليد من التقاليداليهودية التي دخلت على اهل الصحراء العربية عبر احد الكهنة العبرانيين، ومن ثم انتقلت، بعد ذلك، الى الاسلام مثلهامثل الكثير من العادات الاخرى((285)). ويرى ان المراة المحجبة ليست امراة ورعة، بل هي امراة مسحورة تعرضت لحرب نفسية رهيبة ادت الى شل عقلها وتدنيس جسدها((286)).

ويذهب محمد شحرور الى ان القرآن لم يدع المراة المسلمة الى الحجاب، وان ما فهمه الفقهاء من الايات الواردة في مسالة الحجاب كان خطا، وهذا ما سوف نفرد له مناقشة خاصة في هذا البحث. وقد تطرق د. نصر حامد ابو زيد لهذه المسالة، وراى ان الحجاب الخارجي للمراة – اي تغطية الجسد والراس – هو تجسيد رمزي لكل معاني التغطية العقلية والاجتماعية لها((287)).

والملاحظ ان هذه النظرة للحجاب اخذت تنتشر بين الكثير من الكتاب والمفكرين المسلمين، وكان قد اسس لهامجموعة من المفكرين في بدايات هذا القرن واواخر القرن الماضي، وكان من ابرزهم الكاتب المصري قاسم امين(18651908 ) – الذي اولى اهتماما كبيرا لقضية المراة وتحريرها، وكان له كتابان في هذا المجال.

يتناول قاسم امين مسالة الحجاب، من الوجهتين: الدينية والاجتماعية، فمن الوجهة الاولى يقرر مسبقا انه لو كان في النصوص الدينية ما يتصل مباشرة بالحجاب لاحجم عن البحث، لان الاوامر الالهية يجب الاذعان لها من دون بحث ولامناقشة((288))، ومن الوجهة الثانية كان يرى ان «الحجاب هو من العادات التي عرضت للمسلمين من جراء مخاطبة بعض الامم الاخرى، لكنهم – اي المسلمين – البسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت من الناس باسم الدين،لذلك لا نرى مانعا من البحث فيها»((289)).

حول تاريخ الحجاب

لم تكن مسالة الحجاب وليدة التشريع الاسلامي، بل كانت معروفة في الاديان والامم السابقة، فقد تشددت الديانة اليهودية، في الحجاب، تشددا بالغا، وكذلك المجوسية، فقد كانت المراة في بلاد فارس تحجب حتى عن محارمها كالاب والاخ والعم والخال، فلم يكن لها الحق في رؤية احد من الرجال اطلاقا((290)). وقد عرف الرومان ايضا هذه الظاهرة. يقول جواهر لال نهرو، في معرض حديثه عن نشوء ظاهرة الحجاب، في الهند: «ان هذه الظاهرة تسربت الى الهند بسبب نفوذ الامبراطوريتين الفارسية والرومانية؛ حيث كانت عادة الحجاب منتشرة فيهما»((291)).

وقد عزا بعض المؤرخين نشوء ظاهرة الحجاب، في الامم والاديان السابقة، الى انحطاط قيمة المراة في تلك المجتمعات، وذلك لما لاحظوه من عدم انفكاك بين ظاهرة الحجاب (الستر) وظاهرة (الحجب)، اي حجب المراة عن المجتمع الذي تعيش فيه، فان هاتين الظاهرتين هما في الواقع ظاهرتان منفصلتان ووجود احداهما لا يعني بالضرورة وجود الثانية، لكن، ولكثرة اجتماعهما وتلازمهما في الامم والاديان والمجتمعات السابقة، ولد عند الباحثين في هذاالمجال نوعا من الارتباط بينهما، ما كان له اثر سلبي على النظرة الى مفهوم الحجاب في الاسلام.

احصى الباحثون جذورا كثيرة لنشوء ظاهرة الحجاب في المجتمعات القديمة والحديثة، فمنها ما هو اقتصادي، ومنها ماهو اخلاقي، ومنها ما هو فلسفي او سياسي او نفسي((292)). وقد ثبتت هذه الجذور لابراز الحجاب بوصفه عملا ظالما بحق المراة وممارسة جاهلية تتنافى مع التطور الحاصل في مجال الحقوق عموما، وحقوق المراة بشكل خاص. واخذابراز هذه الجذور اصولا لمسالة الحجاب منحى سلبيا في بحث المسالة، وهنا ايضا وقع المحللون في ما اشرنا اليه مؤخرا، وهو مشكلة عدم الفصل بين ظاهرة الستر وظاهرة الحجب؛ حيث ان الباحثين تناولوا ظاهرة الستر بوصفها ظاهرة حجب للمراة عن المجتمع الذي تعيش فيه.

وهنا لا بد لنا من الاشارة الى ان مسالة الحجاب يجب ان تتناول بشكل موضوعي خارج عن النظرة القبلية التي يحملها الباحث. فان الاسلام – وهو يدعو الى الحجاب – قد يتفق مع الكثيرين في موقفهم من «ظاهرة الحجب»، الا انه لا يرى انه من الصواب تعميم هذه النظرة لتشمله، لانه يدعو الى «ظاهرة الستر» التي يتوخى من خلالها آثارا اجتماعية ايجابية تكون المراة اهم المستفيدين منها. وهذا طرح جدير باهتمام الباحث، ففي البحث الموضوعي لمسالة الحجاب يجب التفريق بين نظرة الاسلام، وغيرها من النظرات، الى المسالة، ويجب ان نفصل بين المجتمعات التي كانت الظاهرة فيهاذات مناشى اخرى، ويجب الفصل، ايضا، بين نظرة الاديان كل على حدة، الى هذه المسالة. ومن غير الموضوعي ان يخرج الباحث بنظرة واحدة تشمل الجميع على اختلاف المناشى، ثم تعم النتيجة تلقائيا على اي مجتمع وجدت فيه ظاهرة الحجاب.

وعندما نريد ان نبحث مسالة الحجاب، في الشريعة الاسلامية، علينا ان نتناول المسالة كما شرعها الاسلام، وكما ارادها،ثم نحاول ان نفهم ما هي الامور التي توخاها الاسلام من هذا التشريع، ثم بعد ذلك نستكشف ما اراده الاسلام: هل هو«حالة حجب» للمراة او انه «حالة ستر» لها، وهو ما يستلزم الاطلاع على الحقوق التي شرعها الاسلام للمراة على المتسويين الاسري والاجتماعي، ثم بعد ذلك ينتقل الباحث الى تطبيقات هذا التشريع. وهذا مجال آخر للدراسة، فان التطبيق، في هذا المجال، سوف تختلف اشكاله باختلاف مستوى المجتمع الذي يطبق فيه ثقافيا وحضاريا…

تعميم المفهوم اليهودي للحجاب

لعل الانموذج اليهودي للحجاب هو اكثر النماذج تشددا وتخلفا واكثرها حجبا للمراة عن المجتمع؛ حيث ان اليهودعزلوا المراة نهائيا عن المشاركة في الحياة الاجتماعية، يقول ول ديورانت:

«كان في وسع الرجل ان يطلق زوجته، اذا عصت اوامر الشريعة اليهودية بان سارت امام الناس عارية الراس، او غزلت الخيط في الطريق العام، او تحدثت الى مختلف اصناف الناس، او اذا كانت عالية الصوت، اي اذا كانت تتحدث في بيتها بحيث يستطيع جيرانها سماعها، ولم يكن عليه – اي الزوج – في هذه الاحوال ان يدفع لها بائنتها»((293)).

وقد ورد في سنن ابي داود، في سبب نزول آية (ويسالونك عن المحيض قل هو اذى فاعتزلوا النساء في المحيض…)، عن انس بن مالك، ان اليهود كانوا اذا حاضت منهم المراة اخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها جاي يجتمعوا معهاج في البيت، فسئل رسول الله عن ذلك، فانزل الله سبحانه (ويسالونك عن المحيض…) الى آخر الاية. فقال رسول الله(ص): جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء غير النكاح((294)).

الظاهر ان المطلع على هذا الانموذج سوف يخرج بانطباع سيء ومشوه عن فكرة الحجاب، حيث ان الفكرة هنا تعدت مسالة الستر لتصبح المسالة مسالة حقوق المراة في ظل هذه الظروف المحيطة بها، فان هذه التشريعات تمس المراة في وضعها الاجتماعي، فان عزل المراة كليا عن محيطها انما يكون ناشئا من النظر اليها بوصفها عنصرا في المجتمع، ولايكون ناشئا من مسالة الستر ولا يكون علاج هذه الحالة بمحاربة الحجاب، فان عزل المراة عن زوجها ومحيطها لمجردانها حائض يكشف عن ان المراة في ذلك المجتمع كان ينظر اليها على انها انسان ناقص وحقير بالنسبة الى الرجل، بل الى المراة نفسها، فان هذه النظرة لها سوف تقنعها بهذا، وسوف ترى في نفسها نقصا عضويا يميزها من الرجل، وهذاالاحساس كفيل بان يؤمن الارضية النفسية لها لكي تقبل هذه العزلة المفروضة عليها، وتصبح حالة طبيعية مقبولة داخل المجتمع.

ومن هنا نطرح تساؤلنا: لماذا نحمل الاسلام كل هذا التشويه الذي حصل عبر التاريخ؟ ولماذا ننظر الى الستر المفروض في الاسلام، بوصفه الحجاب الذي كان مفروضا في الديانة اليهودية، او الذي كان موجودا عند الفرس او غيرهم؟ والسبب يكمن في عدم التفكيك بين «مفهوم الستر» الذي فرضه الاسلام و«مفهوم الحجب» الذي نقله لنا التاريخ عن الامم والاديان السابقة، والذي قد يكون موجودا في بعض مجتمعاتنا الاسلامية الضيقة التي اساءت الى الاسلام من خلال هذا التطبيق السيء لمفهوم الستر.

الحجاب في الاسلام

قد لا يخلو اصطلاح «الحجاب»، في الشريعة الاسلامية، من تسامح، والاجدر ان يعبر عنه ب «الستر»، فالحجاب امرخاص بنساء النبي(ص)، كما ورد في القرآن الكريم: (يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا ان يؤذن لكم… واذا سالتموهن متاعا فاسالوهن من وراء حجاب) [الاحزاب:53]. وقال تعالى: (يا نساء النبي لستن كاحد من النساء)[الاحزاب:32]، فان هذا المنع من الاتصال المباشر بين المؤمنين ونساء النبي لا يمكن تعميمه على النساء جميعهن؛ اذان الاية واضحة في تخصيص هذا الحكم بهن. ومن هذا الباب كان من الافضل الاصطلاح بالستر من دون الحجاب، ولكن طالما ان الباحثين اصطلحوا على هذه المسالة بالحجاب، في اكثر الاحيان، فلا اشكال في الاصطلاح، وهذا لايغير في المفهوم الاسلامي للستر في شيء.

ثم انه لا بد هنا من الاشارة الى مسالة مهمة، وهي ان مسالة الحجاب – اي وجوب الستر وعدم ابداء الزينة – هي تشريع مستقل عن باقي التشريعات الاخرى، وذلك اننا عندما نلحظ تشريع الاسلام، لمسالة الحجاب، نرى ان هذا التشريع في حدوده – اقتصر على وجوب ستر المراة جسدها وراسها امام الاجنبي من دون التعرض الى لوازم اخرى مثل الخروج من المنزل او العمل او…، وان التشريعات الاخرى، من قبيل منع الخلوة بين الرجل والمراة، او الاحكام الخاصة بالعفة وحفظ الفرج وغض البصر… هذه احكام خوطب فيها الرجل كما خوطبت فيها المراة من دون تمييز بينهما.

ان الباحث الذي يريد ان يبحث مسالة الحجاب في الشريعة الاسلامية يجب ان يتناول، اولا، اصل التشريع – وهو سترالمراة راسها وجسدها – بغض النظر عن التطبيق، اي يتناول هذا التشريع بشكل نظري ويرى مدى تناسبه مع منظومة التشريعات الاسلامية الاخرى، وما هي الامور التي توخاها هذا التشريع، ومن ثم اذا اراد دراسة انموذج تطبيقي لهذاالتشريع، فان عليه ان يكون دقيقا في اختيار النماذج التي يريد دراستها بان تكون متنوعة من حيث الوعي والثقافة والمعرفة والالتزام الديني، اذ اننا نلاحظ ان هنالك تفاوتا كبيرا بين مجتمع وآخر في مسالة تطبيق مفهوم الحجاب ومنشا الالتزام به.

الستر في القرآن

(وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن او آبائهن او آباء بعولتهن او ابنائهن او ابناء بعولتهن او اخوانهن او بني اخوانهن اوبني اخواتهن او نسائهن، او ما ملكت ايمانهن او التابعين غير اولي الاربة من الرجال، او الطفل، الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا الى الله جميعا ايها المؤمنون لعلكم تفلحون) [النور/31].

لا بد لنا من بحث عدة نقاط لمعرفة ما هي الحدود التي فرضها الله على زي المراة:

النقطة الاولى
تفرض علينا هذه الاية الكريمة ان نعود الى المجتمع الذي نزلت فيه؛ وذلك لانها نزلت عليه، وحددت حدود اللباس طبقا لما كان متعارفا لبسه في تلك المرحلة.

ولا يمكن ان نبين فهمنا للاية وحدود الزي من دون ان نعود الى المجتمع الذي نزلت فيه، وبعد تحديد الزي يمكنناتعميم هذه الحدود على اي مجتمع آخر في اي زمان كان، وذلك لان هذه الاية تتكلم على ستر جسد المراة، وهو لايتغير، وما يتغير هو الزي وطريقة الستر، ومن اليسير تحديد الزي طبقا لهذه الحدود مهما تغيرت الازياء وتطورت.

لباس المراة في الجاهلية
يظهر، بعد مراجعة بعض المصادر، ان المراة في زمن الجاهلية، والى ما بعد الهجرة، اي الى زمن نزول الاية، لم تكن تهتم كثيرا((295)) بمسالة الستر.

قال الزمخشري: «كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة»((296)).

ويقول ايضا: «كانت المراة تضرب الارض برجلها ليتقعقع خلخالها»((297)).

قال الغرناطي: «كن في ذلك الزمان يلبسن ثيابا واسعات الجيوب تظهر منها صدورهن، وكن اذا غطين رؤوسهن بالاخمرة يسدلنها من وراء الظهر فيبقى الصدر والعنق والاذنان لا ستر عليها»((298)).

قال الفخر الرازي: «ان نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن، وان جيوبهن كانت من قدام، فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن»((299)).

ان ما نقلناه هنا يوضح لنا كيفية اللباس وكيفية اهتمام المراة بالستر في ذلك الوقت، بالاضافة الى ان الخمار نفسه لم يكن امرا ملزما للمراة، بل كانت بعض النساء تخرج من دون خمار في غير ايام الحر؛ حيث كن يختمرن اتقاء الحر، ولم يكن الخمار امرا مشرعا في دين الجاهليين او عرفهم، ولذلك قال الغرناطي «كن اذا غطين رؤوسهن بالاخمرة…»، فانه يظهر انه لم تكن المراة تستعمل الخمار دائما.

ويظهر، هذا الامر ايضا، مما نقل عن عائشة قولها: «ما رايت خيرا من نساء الانصار، لما نزلت هذه الاية (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، قامت كل واحدة منهن الى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرت، فاصبحن على رؤوسهن الغربان»((300)).

حيث انها قالت: «فاختمرت»، ولم تقل «فاصلحت خمارها»، او غيرها من التعابير، ما يدل على ان بعض نساء الانصار لم يكن مختمرات قبل نزول الاية وتشريع الحجاب.

النقطة الثانية: الزينة

في معنى الزينة
الزينة لغة: اسم جامع لكل شيء يتزين به، والزينة ما يتزين به((301)).

اما استعمالها، فقد استعملت في كثير من المواضع بمعان مختلفة ومتفاوتة:

قال تعالى: (الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) [النحل:8].

وقال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) [الاعراف:31].

نلاحظ، هنا، ان الزينة عبارة عن اشياء يستعملها الانسان، ففي الاية الاولى الزينة هي الحيوان المركوب نفسه وفي الاية الثانية الزينة هي الثياب. ويمكن ان تكون الزينة بمعنى المكان، فيكون المكان نفسه زينة، وذلك كالاماكن التي تكون بطبيعتها جميلة وملفتة كما تقول: تزينت الارض، وازينت اي حسنت. ويمكن ان تشمل الشيئية والمكانية معا كقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) [الاعراف:32]، فانها تشمل الاثنين معا، فزينة الله الواردة في الاية تشمل الشيء والمكان وغيرهما ايضا.

وفي الاية التي نحن في صددها اختلف في تفسير معنى الزينة، فذهب اكثر المفسرين الى ان الزينة هي ما تتزين به المراة من حلي او كحل او خضاب… وانه تعالى ذكر الزينة واراد مواضعها للمبالغة في الامر بالتصون والتستر((302)). وذهب بعض المفسرين الى ان الزينة هي جسد المراة كله((303)).

والظاهر ان المراد من الزينة هنا هو الزينة الطارئة على الجسد، وهي ما تتزين به المراة، ومن ثم يكون المقصود هومواضع الزينة، كما ذهب اليه اكثر المفسرين واللغويين، لكونها في اللغة «اسم لما تزين به»((304)). والجسد لا يتزين به، بل يكون موضعا للزينة وان استعمل في بعض الاحيان على انه زينة، فهذا يكون من باب مناسبة الحال والمحل.

وعلى هذا سوف يكون المراد من الزينة، في الاية، مواضعها، وهي الشعر والوجه والرقبة وموضع القلادة من الصدروالزندين – وهما موضع السوار وغيره من الزينة – والقدمين والكفين – موضع الحناء – ويمكن ان يشمل اكثر من ذلك، وهذا يرجع ال الاعضاء التي كانت تزينها المراة بزينة طارئة عليها.

اقسام الزينة
استثنى، سبحانه وتعالى، من مواضع الزينة هذه (ما ظهر منها) والاستثناء هنا يرجع الى ما ظهر عادة وعرفا عند العام الغالب من النساء؛ وذلك ينحصر بالوجه والكفين والقدمين؛ حيث ان هذه الثلاثة مما لم يتعارف ستره عند النساء في ذلك الزمان.

وهنا يمكن ان نورد بعنوان الاحتمال: اننا لو بقينا نحن وهذا المقطع من الاية (ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها) لدخل ايضا العنق وموضع القلادة في «الظاهر منها»، وهذا اذا تحقق كون هذين الموضعين كان متعارفا ظهورهما عند العام الغالب من النساء في ذلك الوقت. ويقوي هذا الاحتمال ما جاء في تتمة هذه الاية (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، فانه لو كانا داخلين في المستثنى منه في المقطع الاول، لما احتيج الى التنبيه على سترهما بالخمار، اللهم الا ان يكون من باب التاكيد على هذه المواضع لكونها من ابرز المواضع اللافتة واكثرها اثارة من غيرها من مواضع الزينة.

ومن هنا يظهر تقسيم الزينة بحسب القرآن الى قسمين: ظاهرة وخفية.

الزينة الظاهرة: وهي الوجه والكفين والقدمين.
الزينة الخفية: وهي ما دون ذلك من مواضع الزينة، وتدخل فيها الاعضاء التي لا تكون مواضع للزينة من باب الاولوية.

النقطة الثالثة: الخمار والجيب
الخمار، لغة، جمعه خمر، والخمار ما يغط ي الراس دون الوجه، ولذلك يطلق على العمامة خمار((305)).

والجيوب، لغة، جمع جيب، ويقال: جيب القميص والدرع وفلان ناصح الجيب، يعني بذلك ان صدره وقلبه واسعين، اي امين((306)) وفي حديث علي(ع) : «اخذت اهابا معطونا فجوبت وسطه وادخلته في عنقي»((307)).

والاهاب هو الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ((308)).

والعطن: ان يجعل في الدباغ، ومعطون مدبوغ((309)).

فيكون المقصود انه اخذ جلدا مدبوغا، واحدث فيه فتحة ليدخل راسه منها.

وبهذا يصبح تفسير قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) واضحا، خصوصا بعد ما قدمناه عما كان متعارفا لبسه عند النساء في ذلك الوقت.

فبعد ان كانت سعة الجيوب عند النساء – وهي فتحة الثوب عند الصدر التي منها يدخل الراس – امرا منتشرا، بحيث يظهر منها موضع القلادة من الصدر، بل شيء من الصدر وما حوله والرقبة ايضا، كما تقدم عن الزمخشري آنفا، وبعد ان كن يسدلن الخمار من وراء ظهورهن – كما تقدم ايضا – انزل الله تعالى هذه الاية، تامر النساء بان يغطين هذه الجيوب؛وذلك بان يسدلن الخمار عليها من الامام، وبهذا تستر الجيوب وما يمكن ان يظهر من خلالها.

النقطة الرابعة: المستثنون من الحكم
ان الاستثناء الاول الذي ورد في الاية: (ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها) انما كان استثناء من «المبدى»، اي من المواضع التي لا يجوز ابداؤها، اما من ناحية «المبدى له» فكان هذا المقطع من الاية ساكتا عنه، فيشمل كل ناظر ايا كان هذا الناظر، ولذلك كان لا بد من تحديد «المبدى له» حتى لا يبقى الحكم على شموله، فجاء بالاستثناء الثاني: (ولا يبدين زينتهن الالبعولتهن او آبائهن او آباء بعولتهن…).

وقبل الدخول في تفسير هذا المقطع، لا بد من الاشارة الى نقطة مهمة لها علاقة وثيقة بفهمه. وهي ان هذا المقطع، من الاية الشريفة، له نظر الى الحياة الاسرية للمراة بخلاف المقطع السابق الذي كان له نظر شمولي كما ذكرنا، فحكم المراة «في المجتمع العام» يختلف عن حكمها في «المجتمع الاسري». وهناك مجتمع آخر، وهو «مجتمع الزوجية» اضيق من هذين، ويختلف حكمها فيه عن المجتمعين السابقين، وفي تفسيرنا لهذه الاية لا يمكن صرف النظر عن هذه المجتمعات الثلاثة التي تواجهها المراة، والسؤال الذي يطرح هنا هو: هذه الاية الى اي من تلك المجتمعات ناظرة؟

نلاحظ ان الاية ناظرة الى المجتمعين الاولين من دون الثالث، وهي في صدد بيان حكم الستر للمراة من هاتين الناحيتين، وهي غير ناظرة الى علاقة المراة مع زوجها، وذكرت الزوج في ضمن «المجتمع الاسري»، لانه لا ينفك عنه، فهو داخل فيه على كل حال، فذكره هنا كان باعتبار انه احد افراد هذا المجتمع لا باعتبار انه احد ركني «المجتمع الزوجي». ولهذا نرى ان هنالك كثيرا من الايات تحدثت عن علاقة الزوج بالزوجة وحددت احكام المجتمع الزوجي وضوابطه في موارد عديدة بمعزل عن ذكر المحارم، او اي احد آخر، فان «المجتمع الزوجي» قائم بركنين فقط هما الزوج والزوجة قال تعالى: (ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها) [الروم:21].

وقال ايضا في مورد الزوجين: (هن لباس لكم وانتم لباس لهن) [البقرة:187].

وبعد اتضاح ما اردنا ايضاحه، نعود الى الاية الكريمة، فقد قالت: (ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن او آبائهن او…)، والزينة هنا هي الزينة عينها التي مرت بنا سابقا، والتي منعت المراة هناك من ابدائها – وهي مواضع الزينة – اباح لها ابداءها امام المذكورين في الاية الكريمة ووسع عليها من هذه الناحية.

يبقى الكلام، في ذيل الاية، وهو قوله تعالى: (ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا الى الله جميعا ايهاالمؤمنون لعلكم تفلحون)، لقد قدمنا سابقا ما كانت عليه عادة بعض النساء وما كن يقمن به من ضرب ارجلهن لكي يلفتن نظر الرجال واهتمامهم، فجاءت هذه الاية لتنهى عن هذه العادة بشكل صريح، ويمكن ان يفهم هنا ان النهي عن هذه العادة ليس نهيا مختصا بها، بل يمكن – بقرينة التعليل المذكور في الاية – ان نعمم النهي الى كل ما يلفت الرجل، اوبالاحرى الى كل ما يمكن ان تلفت به المراة الرجل من لبس للثياب المثيرة وان كانت ساترة للجسد كله، او طريقة المشي المثيرة للمراة او استعمال العطور او «الماكياج» المثير، الى ما هنالك من امور تقع في هذا التعليل.

فنخلص، مما تقدم، ان الاية الكريمة جاءت في سياق بين حدود لبس المراة، والصيغة التي جاءت فيها واضحة في الامر، ولا مجال لحملها على غيره، كما ان النواهي فيها ايضا واضحة في النهي، ولا مجال لحمله على غير ذلك، فتبين ان ما يجب للمراة ستره امام الرجل الاجنبي، او في «المجتمع العام» هو الجسد كله باستثناء الوجه والكفين والقدمين،اما ما يجب ستره امام المذكورين في الاية من محارم وغيرهم فهو الجسد باستثناء مواضع الزينة.

محمد شحرور((310)) ومسالة الحجاب

اطلالة على كتابه «الكتاب والقرآن»((311))
يعد محمد شحرور كتابه «الكتاب والقرآن» محاولة لفهم الكتاب العزيز – القرآن – على ضوء عدة نظريات ادرجها في سلم الارتقاء الى فهم النص القرآني بشكل سليم.

يرى شحرور ان القرآن الكريم الذي انزله الله تعالى على النبي محمد(ص) يحتوي كتابين رئيسيين:

الاول: كتاب النبوة، ويشتمل على بيان حقيقة الوجود الموضوعي، ويفرق بين الحق والباطل، اي بين الحقيقة والوهم.
الثاني: كتاب الرسالة، ويشتمل على قواعد السلوك الانساني، ويفرق بين الحلال والحرام((312)).

ويقول: ان كتاب الرسالة يتضمن «كتاب الايات المحكمات» التي تتضمن التشريعات والحدود والاحكام التي تخضع لجدلية الاعتدال والانحراف، والاستقامة والحنيفية، وهي جدلية تنتجها تناقضات الحياة الانسانية، كما تدرس في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد((313)).

ويرى ان التشريع في القرآن جاء في حدود الله؛ حيث اعط ى الله تعالى في الاسلام «حدود التشريع» وليس «التشريع عينه». والاستقامة هي في الحدود، والحنيفية هي في الحركة ضمن الحدود، وتتحرك حسب التطور التاريخي للمجتمع((314)).

فالاستقامة والحنيفية عند المؤلف هما تعبير آخر عن الثابت والمتحول في الشريعة. ويحاول شحرور ان يؤسس هذه النظرية على ما يسمى بمفهوم «التوابع المستمرة» في رياضيات نيوتن((315))، الا ان محاولة تركيب مفاهيم رياضية لتاويل مفاهيم قرآنية تبقى محاطة بالغموض والاستغراب. وسوف نحاول لاحقا التعرض للنتائج التي توصل لها الكاتب من خلال هذه النظرية.

ينطلق شحرور، من هذه النظرية، لكي يؤسس مبدا حاكما في جدلية الحنيفية والاستقامة – اي الثابت والمتحول -. فبعد ان يشرح النتائج والعلاقات التي تنتج عن مبدا «التوابع المستمرة» ويحصيها بست علاقات، ينتهي الى ان التشريع الاسلامي يحمل الخاصيات نفسها الموجودة في هذا المبدا – مبدا التوابع المستمرة – وعلى هذا الاساس يقسم الخطوط المستقيمة – الثوابت – الى ستة خطوط رئيسية تعط ي المجال للحركة الحنيفية – المتغير – ان تتحرك في داخلها ولا تتعدادها((316)).

من هنا يخرج المؤلف بما يسميه «الحدود في التشريع» التي على اساسها يمكن جعل ضابطة تحسم لنا الجدل القائم حول مسالة الثابت والمتحول في الشريعة، ويمكن لنا – على اساس هذا المبدا – قراءة النص القرآني وتمييز ما هو مستقيم وما هو حنيفي.

الحدود في التشريع عن شحرور
قسم شحرور الحدود في التشريع الى ست حالات كما تقدم، وقد اسهب في شرح هذه الحالات، ونحاول نحن هنا ان نقدم للقارى ملخصا واضحا لهذه الحالات.

الحالات الست هي:

1 – حالة الحد الادنى: ورد الحد الادنى في حدود الله في آيات المحارم، منها (حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم واخواتكم…) [النساء: 23].
يرى المؤلف ان الله سبحانه يضع لنا – في هذه الاية والايات التي تحصي المحارم – الحد الادنى في تحريم النكاح الذي لا يجوز تجاوزه باي شكل من الاشكال، الا انه يمكن لنا ان نتجاوز هذا الحد بالزيادة، اي زيادة عدد المحرمات من النساء، فاذا بين الطب ان الزواج من الاقارب كبنات العم وبنات الخال مثلا له آثار سلبية على النسل و…، يمكن لنا ان نصدر تشريعا يحرم هذا الزواج، وبذلك لا نكون قد تجاوزنا الحد الادنى من حدود الله((317)).

2 – حالة الحد الاعلى: في نظرية العقوبات في السرقة والقتل، قال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاء بماكسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) [المائدة:33].
يرى شحرور ان الله عز وجل يبين، في هذه الاية، العقوبة القصوى للسارق وهي القطع، اي انه لا يجوز ان تكون عقوبة السرقة اكثر من قطع اليد في حال من الاحوال، الا انه يمكن للمجتهدين ان يحددوا، حسب ظروفهم، الموضوعية ما هي السرقة التي تستوجب القطع، وما هي السرقة التي لا تستوجب ذلك، وهذا يرجع في نظر شحرور الى مسالة الزمان والمكان فهما اللذان يفرضان على المجتهد تعيين مواقفات السرقة التي تستوجب القطع من دون غيرها((318)).

3 – حالة الحد الادنى والحد الاعلى معا، قال تعالى: (يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين…)[النساء:11].
يرى شحرور ان هذه الاية تتعرض الى نصيب كل من الذكر والانثى من الاولاد على نحو دائم، بل الاية في مقام بيان الحدالاعلى من الارث للذكر وبيان الحد الادنى للانثى منه، فان الحد الاعلى للذكر وهو 6/66% والحد الادنى للانثى 3/33% لا يجوز تجاوزهما لا قلة ولا كثرة، ولكن يمكن لنا ان نتحرك ضمن هذه الحدود قلة وكثرة، فيمكن في ظروف معينة ان نعكس الفرض شريطة ان نبقى ضمن الحدود التي وضعها الله((319)).

4 – حالة الحد الادنى والحد الاعلى معا على نقطة واحدة، اي حالة المستقيم، او حالة التشريع العيني:
هذه الحالة جاءت في حد الزنا فقط؛ حيث وضع الحد الادنى والحد الاعلى معا على نقطة واحدة وهي مئة جلدة في قوله تعالى: (والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة، ولا تاخذكم بهما رافة في دين الله ان كنتم تؤمنون باللهواليوم الاخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) [النور:2].
فان الله بقوله (ولا تاخذكم بهما رافة) اشار الى ان هذا هو الحد الاعلى والادنى معا((320)).

5 – حالة الحد الاعلى بخط مقارب لمستقيم، اي يقترب ولا يلامس، وهي حالة علاقة الرجل بالمراة من الناحية الجنسية، وتبدا هذه العلاقة بحدودها الدنيا، وهي عدم ملامسة الرجل للمراة بتاتا، وتنتهي بخط مستقيم يقارب الزنى،فاذا اقترب الانسان من الزنى ولم يزن، فانه لم يقع في حدود الله، ولذلك قال تعالى: (ولا تقربوا الزنى) [الاسراء:32]، وقال ايضا: (ولا تقربوا الفواحش) [الانعام:151]((321)).

6 – الحد الاعلى موجب مغلق لا يجوز تجاوزه، والحد الادنى سالب يجوز تجاوزه: وهي العلاقة المالية بين الناس،وهذان الحدان يمثلان الربا حدا اعلى وموجب الزكاة حدا ادنى سالبا، وهذا الحد يمكن تجاوره بالصدقات، وبما ان هناك سالبا وموجبا، فهناك حالة صفر بينهما، فهذه الحالة تشمل الربا (الموجب) القرض الحسن (الصفر) والزكاة والصدقات (السالب)((322)).

نظرة شحرور الى السنة النبوية

في بداية بحثه في السنة النبوية، يطرح شحرور سؤالا يرى انه سؤال اساسي يجب ان يجاب عنه بشكل واضح قبل الدخول في هذا البحث، والسؤال هو: هل ان كلام النبي(ص) وتدايره وتصرفاته في تلك الامور التي تتعلق بالاصول اي الحدود والعبادات والغيبيات ان صحت – وحي او اجتهاد((323)).

وفي مقام الاجابة التاسيسية لرايه، في مسالة السنة، يرى ان الاستدلال بالاية (وما ينطق عن الهوى، ان هو الا وحي يوحى) [النجم:3و4]، ليس له اي مسوغ؛ حيث ان الضمير «هو» انما يعود بوضوح وحصرا الى الكتاب المنزل((324)).

ومن هنا ينطلق شحرور ليؤسس ان السنة النبوية هي اجتهاد، وليست وحيا، وهي عبارة عن منهج في تطبيق احكام ام الكتاب بسهولة ويسر من دون الخروج عن حدود الله في امور الحدود، او وضع حدود عرفية مرحلية في بقية الامور، مع الاخذ بعين الاعتبار عالم الحقيقة: الزمان والمكان والشروط الموضوعية التي تطبق فيها هذه الاحكام((325)). وهذا مايراه شحرور تعريفا معاصرا للسنة النبوية.

ثم انه يقسم السنة النبوية الى قسمين اساسيين وهما: سنة الرسالة وسنة النبوة، فالرسالة هي الاحكام والنبوة هي العلوم.

مسالة الحجاب

لقد حاولنا، في هذه الاطلالة على القسم الذي يتصل بموضوع بحثنا من كتاب «الكتاب والقرآن»، ان نبين المنهجية التي اعتمدها الكاتب في قراءة الاحكام الشرعية في القرآن والسنة النبوية، فكانت هذه الاطلالة بمثابة مقدمة ضرورية لكي نحيط القارى باهم الجوانب التي تناول الكاتب من خلالها موضوع الحجاب واسس عليها رايه، حيث ان الكاتب يرى ان آية الستر (النور 31) مندرجة تحت الحالة الاولى من الحالات التي اوردناها آنفا، فهو يرى ان الاية جاءت لتبين لنا الحدالادنى من الحجاب.

لقد ارتاينا، في تناولنا لما ذهب اليه شحرور، من الاستدلال القرآني لموضوع الحجاب، ان نحاكم تفسيره للاية وفقههامن ناحية لغوية ودلالية، ومن ثم نعود لنسجل بعض الملاحظات العامة حول المنهج الذي اتبعه في قراءة الاحكام الشرعية، ولعل هذا الموضوع – اي قراءته للاحكام الشرعية – والذي تناوله في الباب الثالث من كتابه تحت عنوان «ام الكتاب والفقه والسنة» يعد من اخطر ما طرحه شحرور في مجمل الكتاب.

شحرور وآية الستر

في هذا الكتاب، حاول شحرور ان يعكس وجهة نظر القرآن في مسالة الستر. ففي بحثه في هذه المسالة، اقتصر على القرآن الكريم من دون التعرض للسنة الشريفة وما افادته في هذا الموضع، وكان منهجه في تفسير الاية منهج المفسرين نفسه، فقد حكم اللغة والتركيب والسياق في فهم الاية، ثم في نهاية البحث اشار الى ان مسالة الحجاب خاضعة لنظرية الحدود التي تحدثنا عنها.

ولا بد من الاشارة هنا الى ان اقتصارنا على البحث القرآني في مسالة الستر كان الغرض منه امكان الاستفادة من هذه المسالة من كتاب الله، من دون الاستعانة بالسنة الشريفة، والا فان السنة والاحاديث الواردة عن اهل البيت صريحة وواضحة، ولا تقبل الخدش في هذا الباب.

يرى شحرور، في تفسيره لاية الستر، ان الزينة في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها) – وذلك بعد ان قسم الزينة الى ظاهرة بالخلق وغير ظاهرة بالخلق – «هي ما ظهر من جسد المراة بالخلق اي ما اظهره الله سبحانه في خلقها كالراس والظهر والبطن والساقين واليدين…»((326)).

اما القسم غير الظاهر، اي الخفي ف «هو الجيوب، والجيب جاء من (جيب) كقولنا جبت القميص اي قدرت جيبه..فالجيوب في المراة لها طبقتان، او طبقتان مع خرق، وهي ما بين الثديين وتحت الثديين وتحت الابطين والفرج والاليتين، هذه كلها جيوب»((327)).

وفي تفسيره لمعنى الخمار في قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) يرى ان الخمار هو غطاء للراس وغيرالراس((328)).

فالنتيجة، عند شحرور، من خلال هذا التفسير، هي: ان ما يجب ستره عند المراة امام الرجل الاجنبي هو الجيوب التي ذكرها، وهي عبارة عن الزينة المخفية وكل ما تبقى هو زينة ظاهرة اباح الله للمراة ابداءه له امام الاجنبي.

ونحن، بعد العودة الى كتب اللغة، لم نر من استعمل الجيوب بهذه المعاني، ولا ادري من اين اتى بها الكاتب، ذلك ان الجيب، كما ذكر هو نفسه، امر متعلق بالقميص – اي الثياب – ولا علاقة له بجسد المراة، اما اضافة ضمير «هن» الى الجيوب في الاية، فانه لا يجعلها من جسد المراة نفسه، فالذهاب الى هذا المعنى هفوة من الكاتب، وقد تقدم في تفسيركلمة جيب، بالاضافة الى النصوص التي نقلناها عن جيوب النساء؛ ان الجيب هو فتحة القميص او الثوب عند الرقبة والصدر والتي منها يدخل الثوب في الراس، وهذا المعنى للجيب هو الظاهر عند اهل اللغة، وفي الاستعمالات اللغوية، وهو اقرب الى الذوق اللغوي من تلك المعاني التي ذهب اليها وتكلف لها.

والهفوة الاخرى هي تفسيره لمعنى الخمار، فقد ذكر انه غطاء للراس وغير الراس، فان الخمار وان كان يستعمل في اللغة بالغطاء الذي يعم الراس وغيره، الا ان استعماله في غير الراس قليل جدا، واكثر استعماله في غطاء الراس حتى انهم اطلقوا على العمامة لفظ خمار لانها تغط ي الراس((329)) ولم يرد في اللغة اطلاقهم على القميص والجلباب لفظ خمار،فان هذا فيه دلالة على شيوع استعمال لفظ الخمار في غطاء الراس بشكل يجعله المعنى الظاهر عند سماعه. ويبدو ان اختيار الكاتب لهذا المعنى من الخمار انما هو لاجل ان يصل الى ان الخمار هو ما يمكن للمراة ان تستر به الجيوب بحسب تفسيره لمعنى الجيوب – وهذا يعني ان الخمار اصبح هنا ثوبا، وهذا يبعد المعنى الذي اختاره، والملاحظ انه لم يذكر كيفية امكان ضرب الخمار على الجيوب بناء على ما اختاره لئلا يقع في هذه المشكلة.

نعود هنا الى السياق الذي اتبعه شحرور في تفسير هذه الاية، فعندما ياتي الى قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن الالبعولتهن او آبائهن او…)، فانه يذهب – وبحسب السياق الذي اتبعه – الى ان الاشخاص المستثنيين في الاية يجوزللمراة المسلمة ان تبدي امامهم تمام زينتها، اي تمام زينتها بما يشمل العورتين؛ وذلك بقرينة عطفهم على الزوج في الاية. وبعد انتهائه من وضع جدول لهؤلاء المستثنيين يقول: «يجب ان يفهم من كلامي انني لا ادعو المراة ان تجلس عارية امام الثمانية المذكورين اعلاه، ولكن اذا حصل ذلك عرضا فلا يوجد حرام، ولكن تلبس امامهم من باب العيب والحرج لا من باب الحرام».

وهنا غاب عن الكاتب ان ما ذكره هنا يتنافى مع صدر الاية وقوله تعالى: (ويحفظن فروجهن)، بل يتنافى مع اخلاق القرآن والتشريعات الاسلامية ويخالف روح التشريع.

اما ما ذكره من دليل، وهو عطف هؤلاء على الزوج، فهذا غريب منه ايضا، فانه لو اراد ان يلتزم بهذا الدليل كان يجب ان يلتزم باكثر من هذا، ونحن قد اوضحنا سابقا ان عطفهم على الزوج يبين لنا ان السياق هنا ليس في صدد تحديد حكم الزوج مع الزوجة فقط مستقلا المجتمع الاسري، وانما هو في صدد تحديد حكم الزوجة في هذا المجتمع، اما مجتمع الزوجية فقد خصصت لها آيات اخرى تعرض لها الكاتب نفسه في سياق كلامه على العلاقة الزوجية.

لعل المشكلة الاهم التي طرحها شحرور، في هذه الاية، هي ان السياق الموجود في الاية سياق تفصيل للاشخاص المستثنيين من حرمة الابداء، اي ان الاية في مقام تعداد جميع المحارم الذين يجوز لها ابداء زينتها امامهم، الا اننانلاحظ ان الاية قاصرة عن شمول جميع المحارم الذين يحكم الفقهاء بجواز ابداء زينتها لهم، وهم كما يمكن تعدادهم:الاجداد واجداد البعولة والاحفاد والابن من الرضاع والاخ من الرضاع والعم والخال وزوج البنت وزوج الام.

يرى شحرور ان هؤلاء، وان كانوا من المحارم، الا انهم مستثنون من حكم ابداء الزينة بقرينة عدم ذكرهم في سياق الاية، وهذا طبعا مخالف لاجماع المسلمين كما هو واضح. وفي مقام تاييد ما ذهب اليه الفقهاء – وبالاقتصار على فقه الاية(النور 31) يمكن ان يدخل جميع هؤلاء الذين ذكرهم المؤلف في سياق الاية الكريمة، ولا يعود هناك مسوغ لتقسيم المحارم الى قسمين: قسم يجوز فيه ابداء الزينة والجيوب امامه وقسم آخر لا يجوز فيه ذلك.

اما الاجداد فانه من الواضح ان استعمال الاب عند العرب اعم من الاب والجد وان علا، فيكفي ان تذكر الاية الاباء حتى يدخل الاجداد جميعا، وهكذا ايضا يدخل اجداد البعولة في المذكورين بقوله (وآباء بعولتهن)، اما الابن والاخ من الرضاع فانهما داخلان في قوله تعالى: (او ابنائهن… او اخوانهن) لان علقة الرضاع كعلقة النسب، ويمكن اطلاق لفظ الابن او الاخ على الابن والاخ من الرضاع. يبقى هناك اربعة افراد لم يدخلوا في المذكورين في الاية، ولتوضيح كيفية دخول هؤلاء لا بد هنا من الاشارة الى مسالة مهمة، وهي: صحيح ان الاية في مقام تعداد جميع من يجوز الابداء امامهم الا انه لا يمنع ان تكون ايضا مبنية على الاختصار وعدم الاطالة، مع امكان الاشارة الى البعض، وهذا واضح بالنسبة للاجداد، والابناء والاخوان من الرضاعة كما تقدم، اما بالنسبة الى الافراد الاربعة الذين لم تذكرهم الاية بشكل صريح،فاننا بشيء من التدقيق سوف نلاحظ ان الاية قد اشارت اليهم بشكل لا يخفى على المتمعن في فقه الاية الكريمة. فان الاية عندما ذكرت ابناء الاخوان انما اشارت بذلك الى العلاقة القائمة بين العمة وابن الاخ، وهذه العلاقة من ناحية النسب هي العلاقة نفسها القائمة بين العم وبنت الاخ لا تختلف عنها بشيء اطلاقا سوى ان اطراف هذه العلاقة تارة تكون العمة وابن الاخ واخرى تكون العم وبنت الاخ، وهذا لا يغير في معنى العلاقة نفسها، ونحن هنا نرى ان الاية قداشارت الى العم بهذا النحو من الاشارة اختصارا، واوكلت التفصيل الى السنة الشريفة؛ حيث انها بينت هذا الموضوع في مواضع كثيرة، ولكن – وكما التزمنا – سوف نبقى نحن والاية التي نرى انها بينت الموضوع بشكل تام وكامل.

ومع اتضاح كيفية دخول العم في المذكورين يتضح كيف يدخل البقية وفاقا للمبدا نفسه، والاشارة التي تقدمت في موضوع العم، فان العلاقة بين الخالة وابن الاخت هي العلاقة نفسها بين الخال وبنت الاخ، وهكذا الحال بالنسبة الى زوج البنت وزوج الام، فان العلاقة القائمة بين زوج البنت وام الزوجة هي العلاقة نفسها القائمة بين زوجة الابن وابي الزوجة. ولذلك اكتفت الاية بذكر «آباء بعولتهن». وايضا العلاقة القائمة بين زوج الام والبنت هي العلاقة نفسها بين ابن الزوج والزوجة. ومع امكانية استفادة هذه المعاني من الاية لا يعود هناك مسوغ لتقسيم المحارم الى قسمين، فان الحكم هنا في هذه الاية شامل للمحارم جميعهم من دون استثناء. ثم انه لا بد من الاشارة هنا الى ان شحرور استشهد بهذاالتقسيم ليؤكد ما ذهب اليه من معنى الجيوب.

ملاحظات منهجية

يطالعنا محمد شحرور بنظرياته التي ضمنها كتابه «الكتاب والقرآن» كانها هي الحل النهائي لجميع المعضلات التي يواجهها الاسلام والمدافعين عنه، ولا شك في ان المؤلف، في هذا الكتاب، قام بجهد كبير لمحاولة ارساء رؤية شاملة الى الموضوع بغض النظر عن موقفنا مما تضمنه الكتاب، وهذا ما يجب علينا ان نعترف به، الا ان اقرارنا هذا لا يمنعنامن تسجيل بعض الملاحظات واعتبار ان ما قام به يبقى محاولة في سياق كثير من المحاولات التي جاءت وسوف تاتي لمعالجة هذا الموضوع الذي – ومن وجهة نظر شخصية – يحتاج الى الكثير من الاسهامات الجدية والتاسيسية من قبيل هذا الاسهام التي قام به شحرور، حتى تتفتح آفاق جديدة لاعادة بلورة موضوع ما زال يشغل الباحثين منذ قرون، فان ثمرة هذا البحث سوف تاتي نتيجة لكم هائل من الاسهامات الجادة، ومن هنا نرى ان امتلاك حل سحري – لكل مايحيط الاسلام من اشكالات وانتقادات ومعضلات – هو امر يستحيل على فرد ادعاؤه ما لم يكن نبيا او معصوما قريبا من النبوة، يمتلك اسرار الوحي النبوي امتلاكا يجعله قادرا على التشريع في كل مكان وزمان. ولا اظن ان شحرور يدعي هذاالفضل لشخصه، الا ان كتابه «الكتاب والقرآن» يتضمن شيئا من هذا المنحى والادعاء. ومن هذا الباب، راينا ان نسجل بعض الملاحظات الاساسية على هذا الكتاب، اذ ان ضخامته تحتاج الى كتاب يوازيه في الحجم لمناقشة تفاصيله وآرائه جميعها. وسوف نقتصر، في هذه الملاحظات، على موضوع التشريع ونظرية الحدود التي يرى شحرور ان تطبيقاتها سيالة على تفاصيل الاحكام الشرعية جميعها.

1 – يرتكز شحرور، في قراءته للاحكام الشرعية، على نظرية رياضية اسسها «نيوتن»، ويرى ان كل ما جاء من احكام شرعية في القرآن الكريم لم يخرج عن تلك القاعدة الرياضية، وان حركة التشريع مضبوطة ضمن هذه القاعدة ولاتتخلف عنها. وعلى هذا الاساس، يبين لنا الثابت والمتحول في الشريعة. وعلى هذا ارى انه لا بد لنا، هنا، من ان نطرح بعض التساؤلات حول ما قدمه شحرور من حل جذري ونهائي لهذا الموضوع.

اولا: الم يلاحظ الكاتب ان هذه النظرية التي لم يسبقه احد الى تطبيقاتها – على فرض حجة هذه التطبيقات – قد حرم منها المسلمون على مدى اربعة عشر قرنا من الزمن، اي منذ عصر التنزيل الى يومنا هذا، ما يعني ان كل ما طبق من احكام للشريعة – وما زال – خارج اطار هذه النظرية كان خلافا للتشريع؟ ثم هل من الحكمة ان تبقى هذه النظرية من دون توضيح ومن دون اشارة اليها في الكتاب الكريم، او السنة النبوية، ما يحرم جميع هذه الاجيال من المسلمين من فهم شريعتهم، خصوصا ان هذه التشريعات تمس حياتهم بشكل يومي كما انها تمس الشريعة من جذورها؟ نحن نرى ان هذا الامر خارج عن حكمة التشريع، ولا يمكن تصوره بحق صاحب هذه الشريعة، وهذا لا يعني ان ما وصلنا من الشريعة هو كاف لنا، ولا ندعي ان ما توصلنا اليه في فهم الشريعة هو غاية المرام، ولكن ما وصل الينا وما نمارسه من تطبيقات لهذه الشريعة ليس خارج اطار التشريع الالهي الذي نزل على نبينا محمد(ص) بالشكل الذي يفرضه شحرور.

ثانيا: من اين لشحرور امكانية اثبات ان طريقة الشارع المقدس، في جعل الاحكام الشرعية، كانت طبق هذه القاعدة التي ذكرها، وارتكز عليها؟ بل من اين له ان يثبت ان هناك ضابطة يمكن للبشر الاطلاع عليها في هذا المجال؟ نحن لا نشك في ان الله، تبارك وتعالى، لم يشرع عبثا، وانه سواء من جهة جوده او من جهة لطفه، قد شرع طبقا للمصالح والمفاسدولم يشرع خارج هذا الاطار، ولكن دعوى انكشاف الضوابط الاساسية التي ارتكز عليها التشريع الالهي امر بحاجة الى اكثر مما اورده الكاتب في كتابه. وعلى فرض التسليم بهذا الامر الا يرى شحرور ان الله، تعالى، كان بامكانه اختصارتشريعاته التي جاءت في القرآن والتي جاءت على لسان النبي(ص) بان يوحي اليه هذه الضابطة ليبينها للناس، خصوصاان النتائج التي توصل اليها هذه الضابطة ليست عصية على الفهم، وليترك بعد ذلك للناس تحليل هذه الضابطة وارساءاسسها العلمية؟

ثالثا: ان التطبيقات التي ذكرها شحرور – مع كونها غير كافية؛ حيث ان هذه الدعوى تحتاج الى استقراء للتشريعات الالهية كافة – فانها مخدوشة في عدة مواضع كما لاحظنا في آية الستر، وكما هو الملاحظ في المثال الذي ذكره في الحالة الثالثة وهي مسالة الارث حيث ذكر هناك:

«انه اذا سال سائل كيف عرفت ان 3/33% هو الحد الادنى للانثى و6/66% هو الحد الاعلى للذكر…» جاء جوابه: «انه لواستفتينا مليار انسان من اهل الارض لهم علاقة بالاسلام ومليار انسان ليس لهم علاقة بالاسلام، لجاء الجواب منهم جميعا: ان الحركة في تشريع الارث هي باتجاه التقريب»، اي ان حركة تشريع الارث محصورة بين الحد الاعلى والحدالادنى المذكورين وتتجه باتجاه التقريب اي 50% الى 50%.

نلاحظ هنا انه بنى هذه الفرضية على استفتاء لم يقم به بل ولم يطبقه – ولو فرضا – على مجتمعات لم يتسن له العيش فيها منذ عصر التنزيل الى يومنا هذا، بل اقتصر في التطبيق على المجتمعات الحالية التي تذهب باتجاه المساواة بين الرجل والمراة، وغاب عنه ان الاسلام لم يشرع لهذا العصر، بل شرع لجميع العصور، ولجميع المجتمعات، ومن هنايمكن ان نقول: ان هذا الاستفتاء الذي افترضه شحرور يمكن ان نفترضه نحن ايضا ولكن في زمان آخر، فلو استفتينا الاوربيين في العصور الوسط ى في هذا الموضوع، هل كانت النتيجة ستاتي باتجاه التقريب، او لو استفتينا اي مجتمع تاريخي آخر كان موغلا في الذكورية ويهمش المراة تماما، اظن ان النتيجة سوف تكون اقل من الثلث، بل قد تصل في بعض المجتمعات الى الحرمان مطلقا. كما يمكن فرض الكثير من الفروض في هذا المجال مما لا يساعد الكاتب على ماتوصل اليه من نتائج.

2 – اغفل شحرور، في قراءته للاحكام الشرعية، جميع ما جاء في تراثنا وجميع الجهود التي بذلت من قبل العلماء،سواء في الفقه ام في التفسير ام في الكلام، وادعى انهم لم يفهموا الشريعة على النحو الصحيح، بحجة انهم لم يفهموانظرية الحدود التي اوردها، ففي مقام اعتذاره عن الفقهاء لعدم فهمهم الصحيح نظرة الاسلام للمراة يقول: «.. يمكن ان نبرر لهم ذلك بعدم فهمهم لنظرية الحدود اولا و…».

ان انفصال شحرور عن المسار التاريخي لتطور الفهم الديني يجعلنا في موقع اقوى واقدر على التشكيك بما توصل اليه من نتائج؛ حيث انه رمى بكل هذا التراث وعده غير ذي قيمة في بحث لا بد من ان يرتكز بشكل اساسي على مسيرة هذا التراث وطوره التاريخي، بحجة ان الفهم الحقيقي للتشريع يبدا من فهم نظرية الحدود التي لم يسبقه اليها احد من قبل.

3 – تتمحور هذه الملاحظة حول نظرة شحرور الى السنة النبوية؛ حيث يرى ان السنة هي عبارة عن اجتهادات النبي في تطبيق احكام الكتاب من دون الخروج عن دائرة الحدود التي بينها شحرور – اي حدود الله – ويرى ان الاية الكريمة: (وما ينطق عن الهوى، ان هو الا وحي يوحى) [النجم: 3و4]، لم تكن تتحدث عن النبي(ص) وانما تتحدث عن القرآن الكريم كان الكاتب لم يلتفت الى الايتين: الاولى والثانية من سورة النجم:

(والنجم اذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى)[النجم: 1و2] حيث ان هذه الايات تتحدث عن نطق النبي(ص) كما هو واضح من السياق، ونطقه(ص) ليس مختصابالقرآن الكريم، لانه اعم من ذلك. وعندما اتهمه المشركون بالضلال والغواية لم يكن اتهامهم له بسبب ما جاء به من قرآن بل بسبب ما حدثهم عنه ودعاهم اليه من امر التوحيد، ومنه القرآن. وهذا يبين ان الاية تتحدث عن جميع ما ينطق به النبي(ص).

ثم ان نظرة شحرور للسنة النبوية تجعل نظرية الحدود حاكمة على جميع ما يقوم به النبي، فنحن قبل ان ننظر الى ما قاله النبي لا بد لنا اولا من رسم الحدود التي جاءت بها هذه النظرية، ومن ثم تتوضح لنا موقعية الاحكام التي جاء بها النبي(ص).

الا اننا لاحظنا ان شحرور استعان بالسنة النبوية لبيان بعض الحدود التي لم تات بشكل كامل في القرآن الكريم، حيث ذكر ان الحد الاعلى للباس المراة هو تغطية كامل الجسم ما عدا الوجه والكفين، وراى ان هذا هو الحد الاعلى للحجاب عند المراة الذي لا يجوز تجاوزه في حال من الاحوال ولا زمان من الازمنة، استنادا الى قول الرسول(ص): «كل المراة عورة ما عدا وجهها وكفيها»، وقد تقدم كيف استظهر شحرور الحد الادنى للباس المراة من آية الستر.

وهنا نرى ان هنالك سؤالا يطرح نفسه، وهو: هل هناك ضابطة واضحة لمعرفة ما اذا كان النبي يبين لنا حدا من الحدودالمذكورة، سواء كان الحد الادنى ام الحد الاعلى ام انه يحكم بما بينهما من دون ملامسة الحد الاعلى او الادنى؟ وهذاما لم يتعرض له الكاتب في بحثه في السنة النبوية، مع العلم انه استفاد كما تقدم من السنة بتشخيص بعض الحدود،وهذا يعد خللا منهجيا واضحا في بحثه. فنحن عندما نقرا الحديث «كل المراة عورة ما عدا وجهها وكفيها» من اين لنا ان نجزم ان الحد الاعلى للحجاب عند المراة هو تغطية كل الجسد ما عدا الوجه والكفين، فلعل هذا الحديث جاء ليين حالة الحجاب في زمن معين او مجتمع مخصوص، وعدم تعرض المؤلف لمسالة مهمة في الشريعة يعد خللا في طرحه الذي يرى انه كامل، وثغرة يصعب تفاديها على المباني التي تقدم بها في هذا الكتاب.

مجلة المنهاج/26

 

https://t.me/wilayahinfo

 

[email protected]

شاهد أيضاً

السياسة المحورية ونهضة المشروع القرآني لتقويض المصالح الغربية العدائية

فتحي الذاري مأخذ دهاليز سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط تتضمن الأهداف ...