لعل أحد أكثر الأسئلة التي تدور في أذهان الشباب المسلم خاصة.. هو ما يعرف فلسفيا باسم سؤال الشر.. وهو بكل بساطة.. لماذا خلق الله الشر والفقر والمعاناة والحروب والأمراض؟ لماذا يموت الأطفال في سورية؟ لماذا يموت الأطفال جوعا في افريقيا؟ أليس الله هو الرحمن الرحيم؟ فكيف يمتلئ الكون بكل هذه المآسي؟ وتتبعه طبعا أسئلة فردية تتعلق بالعدل السماوي مثل.. لماذا تزوج الجميع ولم أتزوج أنا؟ لماذا يمتلك بعض الناس كل شيء, ولا يمتلك بعض الناس أي شيء؟ لماذا خلقتني دميمة؟ لماذا أنا قصير؟ ما الحكمة من كوني فقيرا مدقعا؟ لماذا لا أنجب أطفالا كغيري؟ أين العدل الذي أين ؟ تعبنا.. تعبنا .. تعبنا..
طبعا سيكون من الرائع لو تمكننا من فهم تلك المتناقضات التي ترهق أرواحنا.. ومع أن هذا يبدو مستحيلا الآن.. إلا أن هذا فعليا قد حدث.. قبل ثلاثة وثلاثين قرنا من الان، كان نبي الله موسى لديه كما لدينا الكثير من الأسئلة الفلسفية.. ليس أقلها رؤية الله (رب أرني أنظر إليك.. ) لكن الأهم على ما يبدو وموضوع مقالنا اليوم هو عندما سأل موسى ربه عن القدر.. وكيف يعمل.. وهي بالذات عين أسئلتنا اليوم.. فطلب منه الله عز وجل أن يلاقي الخضر عليه السلام.. والحقيقة التي يجب أن تذكر هنا.. أن الأدبيات الإسلامية تسطح مفهوم الخضر وتختزله في صفة ولي من أولياء الله.. في حين أنه الحقيقة أن الخضر عليه السلام يمثل القدر نفسه.. يمثل يد الله التي تغير أقدار الناس.. والجميل أن هذا القدر يتكلم.. لذلك نحن الآن سنقرأ حوارا بين نبي بشري مثلنا تماما.. لديه نفس أسئلتنا.. وبين قدر الله المتكلم.. ولنقرأ هذا الحوار من زاوية جديدة..
أول جزء في الحوار كان وصف هذا القدر المتكلم .. آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما.. أي أنه قدر رحيم وعليم.. وهذا أصل مهم جدا.. ثم يقول البشري موسى.. “هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا”.. يرد القدر “إنك لن تستطيع معي صبرا.. وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا.. ” جواب جوهري جدا.. فهم أقدار الله فوق إمكانيات عقلك البشري.. ولن تصبر على التناقضات التي تراها.. يرد البشري موسى بكل فضول البشر “ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا”.. يرد القدر “فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا”.. يمضي الرجلان.. يركبا في قارب لمساكين يعملون في البحر.. يقوم الخضر بخرق القارب.. وواضح تماما أن أصحاب المركب عانوا كثيرا من فعلة الخضر.. لأن موسى تساءل بقوة عن هذا الشر كما نتساءل نحن.. “أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا”.. عتاب للقدر تماما كما نفعل .. أخلقتني بلا ذرية كي تشمت بي الناس؟ أفصلتني من عملي كي أصبح فقيرا؟ نفس الأسئلة.. يسكت الخضر ويمضي.. طبعا الشاهد الأساسي هنا أن أصحاب المركب عانوا أشد المعاناة.. وكادوا أن يغرقوا.. وتعطلت مصلحتهم وباب رزقهم.. لكن ما لبثوا أن عرفوا بعد ذهاب الخضر ومجىء الملك الظالم أن خرق القارب كان شرا مفيدا لهم.. لأن الملك لم يأخذ القارب غصبا..
نكمل.. موسى لا زال في حيرته.. لكنه يسير مع الرجل (القدر) الذي يؤكد لموسى.. “ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرا؟” ألم أقل لك يا إنسان أنك أقل من أن تفهم الأقدار.. يمضي الرجلان.. يقوم الخضر الذي وصفناه بالرحمة والعلم بقتل الغلام.. ويمضي.. فيجن جنون موسى.. ويعاتب بلهجة أشد.. “أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئا نكرا”.. تحول من إمرا إلى نكرا.. نفس حواراتنا . والكلام صادر عن نبي أوحي إليه.. لكنه مثلنا.. ويعيش نفس حيرتنا..
يؤكد له الخضر مرة أخرى “ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا”.. طبعا هنا أصل مهم.. أننا كمسلمون قرأنا القرآن ننظر إلى الصورة من فوق.. فنحن نعرف أن الخضر فعل ذلك لأن هذا الغلام كان سيكون سيئا مع أمه وأبيه.. “وكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا”.. والسؤال.. هل عرفت أم الفتى بذلك؟ هل أخبرها الخضر؟ الجواب لا.. بالتأكيد قلبها انفطر وأمضت الليالي الطويلة حزنا على هذا الفتى الذي ربته سنينا في حجرها ليأتي رجل غريب يقتله ويمضي.. وبالتأكيد.. هي لم تستطع أبدا أن تعرف أن الطفل الثاني كان تعويضا عن الأول.. وأن الأول كان سيكون سيئا.. فهنا نحن أمام شر مستطير حدث للأم.. ولم تستطع تفسيره أبدا..
نكمل.. يصل موسى والخضر إلى القرية.. فيبني الجدار ليحمي كنز اليتامى.. هل اليتامى أبناء الرجل الصالح عرفوا أن الجدار كان سيهدم؟ لا.. هل عرفوا أن الله أرسل لهم من يبنيه؟ لا.. هل شاهدوا لطف الله الخفي.. الجواب قطعا لا.. هل فهم موسى السر من بناء الجدار؟ لا.. ثم مضى الخضر.. القدر المتكلم.. بعد أن شرح لموسى ولنا جميعا كيف يعمل القدر والذي يمكن تلخيصه ببساطة كالآتي..
الشر شيء نسبي.. ومفهوم الشر عندنا كبشر مفهوم قاصر.. لأننا لا نرى الصورة كاملة.. فما بدا شرا لأصحاب المركب.. اتضح أنه خير لهم.. وهذا أول نوع من القدر.. شر تراه فتحسبه شرا.. فيكشف الله لك أنه كان خيرا.. وهذا نراه كثيرا.. النوع الثاني مثل قتل الغلام.. شر تراه فتحسبه شرا.. لكنه في الحقيقة خير.. ولا يكشف الله لك ذلك.. فتعيش عمرك وأنت تعتقد أنه شر.. مثل قتل الغلام.. لم تعرف أمه أبدا لم قتل.. النوع الثالث وهو الأهم.. هو الشر الذي يصرفه الله عنك دون أن تدري.. لطف الله الخفي.. الخير الذي يسوقه إليك.. مثل بناء الجدار لأيتام الرجل الصالح..
فالخلاصة إذن.. أننا يجب أن نقتنع بكلمة الخضر الأولى “إنك لن تستطيع معي صبرا” لن تستطيع يا ابن آدم أن تفهم أقدار الله.. الصورة أكبر من عقلك.. قد تعيش وتموت وأنت تعتقد أنك تعرضت لظلم في جزئية معينة.. لكن الحقيقة هي غير ذلك تماما.. الله قد حماك منها.. مثال بسيط.. أنت ذو بنية ضعيفة.. وتقول أن الله حرمني من الجسد القوي.. أليس من الممكن أن شخصيتك متسلطة.. ولو كنت منحت القوة لكنت افتريت على الناس؟ حرمك الله المال.. أليس من الممكن أن تكون من الذين يفتنون بالمال وكان نهايتك ستكون وخيمة؟ حرمك الله الجمال.. أليس من الممكن انك ذات شخصية استعراضية.. ولو كان منحك الله هذا الجمال لكان أكبر فتنة لك؟ لماذا دائما ننظر للجانب الإيجابي للأشياء؟ ونقول حرمنا الله ليؤذينا.. نحن أصغر بكثير من أن يفكر جل وعلا في أذيتنا.. إنما كل ذلك لمصلحتنا.. لكننا لا نعي ذلك.. تماما كما لم تعه أم الغلام..
استعن بلطف الله الخفي لتصبر على أقداره التي لا تفهمهما.. وقل في نفسك.. أنا لا أفهم أقدار الله.. لكنني متسق مع ذاتي ومتصالح مع حقيقة أنني لا أفهمها.. لكنني موقن كما الراسخون في العلم أنه كل من عند ربنا.. إذا وصلت لهذه المرحلة.. ستصل لأعلى مراحل الإيمان.. الطمأنينة.. وهذه هي الحالة التي لا يهتز فيها الإنسان لأي من أقدار الله.. خيرا بدت أم شرا.. ويحمد الله في كل حال.. حينها فقط.. سينطبق عليك كلام الله.. يا أيتها النفس المطمئنة.. حتى يقول.. وأدخلي جنتي..
ولاحظ هنا أنه لم يذكر للنفس المطمنئة لا حسابا ولا عذابا…
الولاية الاخبارية