الرئيسية / القرآن الكريم / تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان سورة آل عمران

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان سورة آل عمران

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة آل عمران

180

وحيث تقدّم الكلام حول الجهاد والتضحية عقّبه سبحانه بذكر المال فهما يُذكران غالباً مقترنين إذ الجهاد يحتاج الى بذل المال، والدين إنما يُقام ببذل النفس وبذل المال معاً، فقال سبحانه ((وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ))، أي أعطاهم سبحانه فضلاً وإحساناً فإن المال وإن إجتهد الإنسان وكدّ في تعبه إنما هو فضل من الله سبحانه لأنه من خلقه وصنعه فالنقدان مثلاً معدنان مخلوقان له وسائر الأموال من نبات الأرض وما أشبه كله له هذا بالإضافة الى أن أجهزة الإنسان التي بها يتمكن من كسب المال كلها منه سبحانه، والمراد بالبخل هنا هو الحرام منه مما يجب إعطائه فيمتنع ((هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ)) حيث يزعمون أن البخل يوفّر عليهم المال فيبقى عندهم ولا يخرج من أيديهم و”خيراً” مفعول “يحسبنّ” ((بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ)) إن ذلك البخل شرّ لهم يعود إليهم في الدنيا بالشر حيث أن ذلك موجب لسوء السمعة الذي بدوره يوجب عدم التمكن من إكتساب المزيد من المال ويوجب ذهاب الكائن منه بمصاردات الحكّام وثروات الفقراء والأسوء من ذلك أنهم ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ))، أي يجعل المال الذي بخل به طوقاً في عنقه ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) وهذا كناية عن لزومه تبعة المال، كما يُقال المرأة في عنق الإنسان، والدَين طوق في عنق المدين، وهكذا، وفي الأحاديث الواردة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) أنه ما من أحد يمنع من زكات ماله شيئاً إلا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتى يفزع من الحساب، وفي بعضها تفسير الآية الكريمة بذلك،..، ثم ما بال هؤلاء يبخلون؟ فإنه لا يبقى المال عندهم الى الأبد، بل يذهبون ويذرون المال ((وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) فكل من يموت فيهما ويخلف شيئاً فلابد وأن يرثه الله سبحانه حيث تبقى الأموال له وحده بعد فناء الجميع فما بخله عنه سبحانه ولم يصرفه في سبيله لابد وأن يرجع إليه، وليس احتقب إلا الإثم ((وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) فما أنفقتم من نفقة يعلمها الله سبحانه فيجازيكم عليه جزاءً حسناً.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة آل عمران

181

وقد كان من بخلاء اليهود من لا ينفق مما آتاه الله، ثم يزيد على ذلك فيقول أن الله فقير لأنه يستقرض كما قال سبحانه “من ذا الذي يقرض الله” وأنا غني لما لديّ من الأموال ((لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء)) ويكفيه تهديداً أن الله سمع قوله فلينتظر الجزاء العادل والعقاب الأليم ((سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ)) حتى يكون كتاباً مسجلاً عليهم لا مجال لإنكاره يوم يُعطى كل إمرء كتابه، وقد كان منطق اليهود منحرفاً الى أبعد الحدود وكيف يكون الله سبحانه فقيراً وهو الذي يملك كل شيء حتى روح هذا القائل، وإنما إستقراضه إمتحان وطلبه المال إبتلائ وإختبار، وكيف يكون هو غنياً والحال أنه لا يملك روحه فكيف بماله ((وَ)) سنكتب ((قَتْلَهُمُ))، أي قتل هؤلاء اليهود ((الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ)) وإنما عيّرهم الله سبحانه مع أن آبائهم هم الذين فعلوا لرضاهم بذلك أولاً ولبيان أن هؤلاء خلفاً عن سلف مجرمون فلا عجب أن يقول الخلف كفراً بعدما عمل السلف أفظع من ذلك ثانياً، ودخول السين في “سنكتب” لعله لبيان أن الكتابة لا تثبت إلا بعد أن يموتوا غير مؤمنين بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلا فالكتابة لا تضر إذا مُحيت بالإيمان، وهذا يصح بالنسبة الى قولهم، أما بالنسبة الى قتل أسلافهم، وقد كتب قتلهم، فلأن كتابه عاد ذلك على الأخلاف إنما تكون إذا بقوا على الكفر، ولعل العطف على المعنى، أي “وكتبنا قتلهم الأنبياء” من قبيل “نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ” وقوله “علفته تبناً وماءاً بارداً” ((وَنَقُولُ)) حين عقابهم في الآخرة ((ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ)) الذي يحرق أجسادكم بفعلكم وقولكم.

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة آل عمران

182

((ذَلِكَ)) العذاب إنما يكون ((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)) من الكفر والعصيان، وإنما عبّر بتقديم الأيدي لأن الإنسان غالباً يقدّم الأشياء بيده، فيكون ذلك من باب التشبيه للمعقول بالمحسوس ((وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)) فأنتم عبيده خالفتم أوامره فاستحققتم هذا العقاب، و”ظلاّم” ليس لفظ المبالغة على غرار “علاّم” وإنما للنسبة نحو “تمّار” بمعنى ذي تمر، كما قال إبن مالك :

ومَعَ فاعل وفعّال في نَسب أغنى عن اليا فقُبِل
ولعل إختيار هذه الكلمة لردّ التوهّم وهو أن الإحراق بالنار إنما يصدر من إنسان كثير الظلم، فيكون الإتيان به للمجانسة اللفظية كقوله :

قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخة قُلت اطبخوا لي جُبّة وقميصاً
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان

سورة آل عمران

183

إن الذين قالوا أن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قتلوا أنبيائهم، هم الذين لم يؤمنوا بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحجّة مكذوبة، فقد قالوا : يامحمد أن عَهِدَ الله إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أن الله بعثك إلينا فجِئنا بالقربان حتى نصدّقك فنزلت الآية ((الَّذِينَ قَالُواْ)) للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والذين في موضع الجر عطفاً على الذين قالوا أن الله فقير ((إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا)) أمَرَنا ووصّانا في الكتب المُنزَلة ((أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ)) بأن لا نصدّق بنبوّته ((حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ))، أي ما يُتقرّب به الى الله سبحانه ((تَأْكُلُهُ النَّارُ)) تأتي نار من الغيب فتحرقه، وقد كان ذلك علامة لصدق نبوّة أنبياء بني إسرائيل ((قُلْ)) يارسول الله في جوابهم ((قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ)) الأدلة الواضحة ((وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)) من القربان الذي أكلته النار ((فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ)) فإنهم قتلوا زكريا ويحيى وغيرهما ((إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في دعواكم أنكم تؤمنون بالرسول إذا جائكم بقربان تأكله النار، وإنما يُنسب فعل الأسلاف الى الأخلاف لأن الطبيعة فيهم واحدة والإتجاه واحد فلا يمكن أن يُقال أن معاصر الرسول لم يكونوا يظهرون الرضا بفعل أسلافهم في قتل الأنبياء.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...