تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان سورة المائدة
3 يونيو,2018
القرآن الكريم
878 زيارة
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
42
((سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ )) تكرير لتصوير واقعهم البشع فإنّ الإنسان إذا أراد أن يؤكّد شيئاً قاله أكثر من مرة حتى يقع في نفس السامع موقع القبول ((أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ )) جمع أكّال مبالغة أكل، أي كثيروا الأكل للرشوة وسائر أقسام الحرام ((فَإِن جَآؤُوكَ )) يارسول الله ليجعلوك حَكَماً فيما بينهم في قصة الزنا والقتل ((فَاحْكُم بَيْنَهُم )) بحًكم الله سبحانه ((أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ )) وقد جاز الإعراض لأنهم كانوا يعلمون بالحًكم حيث كان مثبوتاً في التوراة فلم يكن الإعراض يسبّب سحق حُكم الله سبحانه وجهالة المجتمع به ((وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ )) فلم تحكم بينهم ((فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا )) إذ النفع والضرر بيد الله سبحانه لا بيد غيره ((وَإِنْ حَكَمْتَ )) يارسول الله أنِ ((فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ))، أي بالعدل الذي هو إجراء حُكم الله من رجم الزاني المحصن وقتل القاتل فرداً ((إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ))، أي العادلين الذين يعدلون في حكمهم .
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
43
إنّ أمر هؤلاء اليهود عجيب فإنهم لا يعترفون بك رسولاً ومع ذلك يحكّمونك في قضيتهم وذلك ليس إلا لأنهم يريدون فراراً من حُكم التوراة إلى حُكم يطابق أهوائهم ((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ ))، أي يجعلونك حكماً يارسول الله ((وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ ))، أي والحال أنّ لديهم التوراة التي يعترفون بها كتاباً ((فِيهَا حُكْمُ اللّهِ )) بالنسبة إلى الزنا والقتل ((ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ )) التحكيم، أو من بعد حُكمك فلا يقبلون حُكمك أيضاً ((وَمَا أُوْلَئِكَ )) اليهود والمنافقون الذين حكّموك ثم تولّوا ((بِالْمُؤْمِنِينَ)) بالتوراة أو بحمكم وإنما يُظهرون الإيمان كذباً واختلافاً .
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
44
ثم بيّن سبحانه أنّ التوراة التي أعرض عن حكمها في قصة الزنا والقتل كتاب سماوي يجب العمل به ومن المعلوم أن ليس المراد بذلك التوراة المحرّفة التي بأيدي اليهود اليوم فقد كان قسم من التوراة محفوظاً عن التحريف إلى زمان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإن كان القسم الآخر قد حُرّف قبل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما أنّ المعلوم أنّ المراد كون التوراة في وقتها هدى ونور أما إذا جاء أهدى منها وأكثر نوراً ونسخ قسماً من أحكامها لم يُعمل بالمنسوخ منها وذلك كما لو قلنا أنّ القرآن هدى ونور يُراد المجموع من حيث المجموع لا أنه يُعمل به بالنسبة إلى الآيات المنسوخة حُكمها -على تقدير تسليم النسخ في القرآن- ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى )) يهتدي به الناس إلى سُبُل الحق ((وَنُورٌ )) ينير دروب الحياة المظلمة -ولعل العطف لبيان- ((يَحْكُمُ بِهَا ))، أي التوراة ((النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ)) لله وأذعنوا بحكمه ومن جملة أولئك الأنبياء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي حكم على طبقها في قصة الزاني والقاتل ((لِلَّذِينَ هَادُواْ ))، أي إنّ الحكم إنما كان للذين هادوا أما غيرهم من النصارى والمسلمين فإنما يُحكم بينهم حسب معتقدهم وقد ثبت في الشريعة جواز الحكم لكل أهل كتاب بكتابهم قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : “والله لو ثُنيت لي الوسادة لحكمتُ بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل القرآن بقرآنهم” ، كما ثبت قولهم (عليهم السلام) : “إلزموهم بما إلتزموا به” ، ولكن من المعلوم أنه ليس كلّ الأحكام كذلك بل من الأحكام ما لا يجوز أن يحكم بها والقاعدة الكلية أنه كلما أجاز الإسلام أن يحكم به الحاكم على طبق دياناتهم جاز ذلك وكلما لم يجز كان اللازم الرجوع إلى حكم الإسلام ((وَ)) يحكم بالتوراة ((الرَّبَّانِيُّونَ )) وهم المتدينون، فإنّ (ربّاني) منسوب إلى رب على غير القياس ((وَالأَحْبَارُ )) جمع حبر بالكسر والفتح وهو العالم، أي أنّ الأنبياء والأتقياء والعلماء يحكمون بالتوراة وإنما يحكم هؤلاء بالتوراة ((بِـ)) سبب ((مَا اسْتُحْفِظُواْ ))، أي إستودعوا ((مِن كِتَابِ اللّهِ ))، أي حيث أنّ الله سبحانه جعلهم حافظين للكتاب وإئتمنهم عليه يحكمون بموجبه ((وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ))، أي أنّ النبيّين والربّانيين والأحبار كانوا شهداء على أنّ ما في الكتاب حق صدق والحاصل أنّ هؤلاء يحكمون بالتوراة لأنه وديعة عندهم وهم يسهدون بصدقه وحيث بيّن سبحانه أنّ التوراة يحكم بها أولئك الصفوة وأنهم محل وديعة والشهداء على صحته بيّن أنّ مقتضى ذلك أن يكون الإنسان المتّصف بهذه الصفات شجاعاً في إظهار أحكامه فلا يخون ولا يكتم ولا يخشى الناس ((فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ )) في إظهار أحكام التوراة ومنها مسئلة رجم الزاني وقتل القاتل ((وَاخْشَوْنِ)) في ترك أمري وتحريف حكمي فإنّ النفع والضرر بيدي ((وَلاَ تَشْتَرُواْ بِـ)) مقابل ((آيَاتِي )) وأحكامي ((ثَمَنًا قَلِيلاً )) حيث أنكم إذا كتمتم الأحكام لأجل الرشوة والرئاسة كان كمن يعطي السلعة ليأخذ المال وكل شيء من المال والرئاسة في مقابل حُكم الله ثمن قليل لأنه يزول وينتقل وتبقى تبعة التحريف والكتملن والحكم بخلاف ما أنزل الله ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ )) لعل وجه الإتيان بالنفي دون أن يقول : ومن حَكَمَ بغير ما أنزل الله ، ليشمل الحاكم بالخلاف والساكت الكاتم فإنّ من يعلم حُكم الله ويسكت ويكتم يكون مصداقاً لـ (مَن لم يحكم بما أنزل الله) ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ومن المعلوم أنّ عدم الحكم كفر عملي لا كفر إعتقادي إلا إذا رجع إلى الجحود لأصل من أصول الدين وإنكار ضروري من ضروريات الإسلام ويسمى كافراً لأنه ستر الحق فإنّ الكفر لغة بمعنى الستر .
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة المائدة
45
((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ))، أي على بني إسرائيل ((فِيهَا ))، أي في التوراة ((أَنَّ النَّفْسَ )) تُقتل ((بِـ)) مقابل ((النَّفْسِ )) فإذا قَتَلَ الإنسان شخصاً عمداً قُتل القاتل في قبال ذاك، ولعلّ هذه الآية تؤيد كون الآيات السابقة كانت بشأن قصة بني النضير وبني قريضة -كما تقدّم- ((وَالْعَيْنَ )) مفقوئة ((بِالْعَيْنِ )) أو معمية بها ((وَالأَنفَ )) مجدوعة ((بِالأَنفِ )) أما ذهاب الشم فلعله خلاف الظاهر وإن كان الحكم كذلك إذا أمكن ((وَالأُذُنَ )) مصلومة ((بِالأُذُنِ )) وفي ذهاب السمع ما تقدّم ((وَالسِّنَّ )) مقلوعة ((بِالسِّنِّ )) ولذلك كله شرائط مذكورة في كتب الفقه ((وَالْجُرُوحَ )) فيها ((قِصَاصٌ )) فمن جَرَحَ إنساناً جُرِح كما جَرَح ويدخل فيه الشفّة والذكر والبيضتان واليدان والرجلان وسائر أقسام الجروح والقصاص مشتق من قص بمعنى إتّباع الأثر كأنّ المجروح يتّبع أثر الجارح فيجرحه ((فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ ))، أي بالقصاص بأن عفى عنه وأسقطه وتنازل عن حقه ((فَهُوَ ))، أي التصدّق ((كَفَّارَةٌ ))، أي حط عن الذنوب ((لَّهُ ))، أي للمتصدّق المجروح، قال الصادق (عليه السلام) : “يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفى من جِراح أو غيره” ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ )) تقدّم الكلام فيه ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) الظلم هو ظلم النفس وظلم الغير، وقد إختلف التعبير هنا عن الآية السابقة (الكافرون) والآية التالية (الفاسقون) لإفادة أنّ مَن لم يحكم بما أنزل الله يتّصف بصفات ثلاث : أنه قد ستر حُكم الله وكتمه فهو كافر إذ الكافر بمعنى الساتر كما قال سبحانه (يُعجب الكفار) أي الزارع فالزارع كافر لأنه يستر الحبة تحت الأرض، وأنه قد ظلم نفسه لأنه عصى الله سبحانه في كتمان حُكمه وظَلَمَ المترافعين والمجتمع لأنّ حُكم الله هو الحق وسواه إنحراف وزيغ فهو ظالم، وأنه قد خرج بحُكمه ذاك أو سكرته عن الحق عن الجادة المستقيمة فهو فاسق إذ الفسق بمعنى الخروج والمروق .
2018-06-03