روح العبادة الآداب المعنوية للعبادات
3 يوليو,2019
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
714 زيارة
الدرس الرابع عشر
الدعاء جوهرة العبادة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
-
يذكر حقيقة الدعاء ودوره المركزي في العبادة والارتباط المعنوي بالله تعالى.
-
يستنتج أهميّة الدعاء من خلال تبيين أبعاده وآثاره.
-
يستدلّ على أنّ من أهم شروط استجابة الدعاء الاهتمام بأبعاده وشروطه المعنوية.
الدعاء وموقعه من العبادة
الدعاء في اللغة أن تميل الشيء إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك، ويقال دعوت فلاناً أي ناديته وطلبت إقباله. ودعاء العبد ربه جلَّ جلاله هو طلب العناية منه، واستمداده المعونة منه[1]. والدعاء بعبارة بسيطة هو التحدّث إلى الله تعالى، ويعني أن ينادي الإنسان ربّه ويناجيه ويكلّمه، فهو وسيلةٌ لارتباط الإنسان بالله عز وجل. إن الإحساس بالقرب من الله وبثّ هموم القلب بحضرته، وتمجيده وتحميده، والتودّد إليه، وطلب الحاجات منه، كلّها من مصاديق الدعاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “الدّعاء مُخُّ العبادة ولا يُهْلَكُ مع الدُعاء أحد”[2].
يكشف لنا هذا الحديث المبارك عن جوهر العبادة وحقيقتها التي تتجلّى في إقبال العبد المحتاج على المعبود الغني: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلفُقَرَاءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلغَنِيُّ ٱلحَمِيدُ ﴾[3].
وهذا الإقبال هو التعبير الحيّ عن الصلة الموضوعية بين الخالق والمخلوق، وعن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى ربّه تعالى في جميع أموره، واعترافه الخاضع بالعبوديّة له تعالى، والتي تتجسّد في الشعور بالارتباط العميق باللّه سبحانه، فجوهر العبادة إذن هو تحقيق الارتباط والعلاقة بين الخالق والمخلوق، والدعاء هو أوسع أبواب ذلك الارتباط وتلك العلاقة، فهو إذن مخّ العبادة وحقيقتها وأجلى صورها.
وقد عدّ الله تعالى الإعراض عن الدعاء استكباراً عن العبادة: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدعُونِي أَستَجِب لَكُم إِنَّ ٱلَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾[4]. وفي تفسيره للآية الشريفة قال الإمام الصادق عليه السلام: “الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي”[5].
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “أفضل العبادة الدُّعاء وإذا أَذِنَ الله لعبد في الدّعاء فَتحَ له أبواب الرّحمة إنّه لن يهلك مع الدّعاء أحد”[6].
وعن الإمام الباقر عليه السلام عندما سُئل: أي العبادة أفضل؟ أنه قال: “ما من شيءٍ أحبّ إلى الله من أن يُسأل ويُطلب ما عنده، وما أحدٌ أبغض إلى الله عزّ وجلّ ممّن يستكبر عن عبادته ولا يسأله ما عنده”[7].
إذاً، الدعاء في نفسه عبادة، فهما يشتركان في حقيقة واحدة هي إظهار الخشوع والافتقار إلى الله تعالى. وهو غاية الخلق وعلّته، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ ﴾[8]، وقال تعالى: ﴿ قُل مَا يَعبَؤُاْ بِكُم رَبِّي لَولَا دُعَاؤُكُم ﴾[9].
فالدعاء والعبادة يعكسان الفقر المتأصل في كيان الإنسان إلى خالقه تعالى مع إحساسه العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده.
وطالما أن هدف العبادة تحقيق الرابطة الحقيقية التي ينبغي أن تكون بين العبد وربه، على أساس اعتراف العبد باحتياجه المطلق إلى الغني المطلق وإقراره بفقره وفاقته وعجزه ولا شيئيته أمام المالك الذي لا ينفد ملكه وسلطانه، فإن الدعاء هو من أبرز العبادات التي تحقّق هذا الهدف لأن الدعاء مَظْهَرُ فقر الإنسان إلى الله تعالى واحتياجه
إليه، عن الإمام الصادق عليه السلام: “عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقرّبون بمثله”[10].
وقد يتجاهل البعض دور الدعاء في الحياة ويظنّ أنه لا يمكن أن يغيّر شيئاً، وقد يتوهّم أنه لا أثر واقعي للدعاء على مجريات الأمور نظراً للعوامل والظروف الموضوعية المحيطة به والتي يراها بالغة التأثير، ولكن هذا الاعتقاد مخالف للحقيقة ومجاف لها.
فالدعاء هو علّة ضمن سلسلة العلل والعوامل، وهو ليس نقضاً لهذه السلسلة ولقانون العلّية في الخلق.
فالله الذي أوجد قانون الجاذبية الأرضية وجعل الأجسام تسقط إلى الأرض، والذي جعل الكواكب في المنظومة الشمسية تدور حول الجسم الأكبر وهو الشمس، والذي جعل قانون الذرّة والقوانين المختلفة المرتبطة بالحياة المادية، هو نفسه الذي جعل قانون ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدعُونِي أَستَجِب لَكُم إِنَّ ٱلَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَنعِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾[11] ووضعه في سلسلة العلل والعوامل وجعل له تأثيراً وفاعلية في الوجود والحياة، طبعًا بشروطه التي نتناولها لاحقاً.
أهمية الدعاء
إلى جانب ما تبيّن إلى الآن من أهمية الدعاء الناتجة عن موقعه من العبادة، فإن له ثلاثة أبعاد أساسية تتجلّى فيها أهميته الكبرى:
-
العلاقة والارتباط بالله:
كلّ إنسان مؤمن يحتاج إلى الشعور بهذه العلاقة من الارتباط بالله تعالى، وانطلاقاً من هذه الحقيقة يكون الدعاء هدفًا لا وسيلة، وبهذه النظرة يكون الدعاء هو العلقة نفسها، وهو نفس الإحساس الذي نحتاجه. إن لسان حال المؤمن هو الدعاء دائماً، ذلك أن كيانه يتحوّل إلى سائلٍ يقف بباب الله ويناجيه ويدعوه في كل وقت. إن جميع المخلوقات في الدنيا مرتبطة بالذات الربوبية المقدسة، والإنسان كذلك باعتباره أشرف المخلوقات، فإن
وجوده مرتبط بالذات الإلهية المقدسة بالكيفية الأشرف المتناسبة مع الرتبة التي حباه بها الله تعالى.
وهذا الإحساس الذي يمثّله الدعاء يعطي للإنسان حالة معنوية من العروج والسلوك والقرب من الذات المقدّسة، وهذه أعظم فوائد الدعاء. وهذه الحالة تستفاد من الأدعية المأثورة عن المعصومين عليهم السلام التي تبيّن كيف أن الأئمة عليهم السلامكانوا يناجون ربهم وينسون أنفسهم، فإلى هذا الحد كانوا يشعرون بالقرب منه تعالى عندما يدعونه، بحيث يذهلون عن كل ما سواه.
-
2. المعرفة:
وهو البعد المعرفي في الدعاء، فالأدعية المأثورة عن الأئمة هي بحرٌ زاخرٌ بالمعارف الإسلامية، فلا شيء من النصوص البشرية يحوي من المعارف أكثر ممّا في الأدعية، ذلك أن الأدعية هي خطاب أهل البيت عليهم السلام ومناجاتهم مع الباري عز وجل وثناؤهم عليه وتمجيده وتوصيفه، واعترافهم بالعبودية له وغيرها من المعاني العظيمة. وهذا الأمر يفرض أن يكون محتوى الخطاب لاحظاً لمستوى المخاطِب والمخاطَب وهذا هو السبب في كونه يحمل هذه الأهمية الكبرى في الجانب المعرفي.
فالمعارف الإسلامية في أدعية الصحيفة السجادية والمناجاة المتعدّدة المأثورة عن الأئمة، ودعاء أبي حمزة الثمالي، والمناجاة الشعبانية، ودعاء كميل عظيمة وكثيرة جدًا. وللصحيفة السجادية خصوصيّتها في هذا المجال، فإن كل دعاء فيها هو كتاب للمعارف الإلهية في الموضوعات المختلفة.
إن وصول هذه المعارف إلى قلب الإنسان عن طريق الأدعية والمناجاة يسهم بشكلٍ فعّال في تحقيق واحدةٍ من أهداف العبادة في ترسيخ التوحيد في قلب الإنسان وتمكين المعارف الإلهية في نفسه. كما أن فهم الأدعية يقدّم للإنسان معرفةً راقيةً بالإسلام وبالمعارف الإسلامية ويبعده عن الخرافات، فأهل الخرافة غالبًا هم أناس بعيدون عن الأدعية والمعارف الحقيقية. في حين أن التأمل والتدبر في الأدعية يرشدنا إلى ما يجب الاعتقاد والإيمان به وما يجب ردّه ورفضه.
-
طلبُ الحوائج من الله تعالى والرغبة إليه:
كأن يدعو الإنسان ليطلب من الله أن يغفر ذنوبه وأن يمدّ في عمره، وغيرها من الحاجات كطلب السلامة وشفاء المريض، وسلامة المسافر ورفع المشاكل، وطلب المال والأولاد وقضاء حوائج الدنيا، وما يطلب في الدعاء عادة. أو أن يدعو لأمور دينه وآخرته فيطلب الإخلاص وصفاء الباطن والتطهير من الأخلاق السيئة..
وهذا بعدٌ مهمٌّ من أبعاد الدعاء، والباري تعالى وعد بالإجابة إن كان الدعاء والطلب حقيقيًا لا لقلقة لسان، ولا يتعارض مع مصلحة أخرى كأن يطلب شيئاً هو بعلم الله ضرر على الإنسان، أو أن يكون تحقّقه مانعاً من منفعة أكبر وأكثر جدوى له: ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور.
ونلحظ هذا البعد في الروايات الشريفة حيث يشجّع بعضها على أن لا يستكثر الإنسان شيئاً مما يطلبه من الله عز وجل ، فلا فرق عند الله بين القليل والكثير، وعلى المؤمن أن يطلب منه الأشياء الصغيرة والأشياء الكبيرة أيضاً، وقد ورد في الصحيفة السجادية: “إلهي طموح الآمال قد خابت إلا لديك، ومعاكف الهمم قد تعطّلت إلا إليك”[12]. فكلّ ما يمكن أن يطلبه الإنسان هو قليلٌ في جنب كرم الله وفيض عطائه وسعة جوده، وإن لم يدرك هذه الحقيقة فسيحرم نفسه من الخير الكثير.
فوائد وآثار الدعاء
من الصعب تحديد فوائد الدعاء وحصرها في نقاطٍ معينة، ويكفي أن يكون الدعاء اتصالاً مفتوحاً بين العبد والمعبود الأوحد الأعظم بما يحمل هذا الاتصال في طيّاته من راحة نفسية وطمأنينة واستمداد للقوة والعزيمة في حياة العبد على كل صعيد، ومن أجل ذلك نورد هنا بعض هذه الفوائد:
-
إحياء ذكر الله في القلوب:
إحياء ذكر الله وإزالة الغفلة التي هي أساس الانحراف والفساد اللذين يعتريان حياة
الإنسان، وتعويد الإنسان على الذكر وترسيخه في قلبه. فإن أكبر الخسائر التي تحصل نتيجة ترك الدعاء هو زوال ذكر الله من القلب. فالغفلة عن الله تعالى هي من أكبر خسائر البشر. قال تعالى: ﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِ أَلَا بِذِكرِ ٱللَّهِ تَطمَئِنُّ ٱلقُلُوبُ ﴾[13].
-
تقوية وترسيخ الإيمان في قلب الإنسان:
لأن من خصوصيّات الدعاء إقامة وتثبيت الإيمان في القلب. فالإيمان مهدّدٌ بخطر الزوال عند اصطدامه بأحداث العالم ومشاكله ومغرياته وملذّاته. وكم من شخصٍ مؤمنٍ فقد إيمانه عندما امتُحن بالأموال والسلطة والشهوات الجسدية والقلبية؟ إن إيمان هكذا شخص هو إيمانٌ متزلزلٌ وغير ثابت. إن من خصوصيّات الدعاء ترسيخ الإيمان واستقراره في قلب الإنسان، فمن خلال الدعاء واستمراره، والتوجّه لله تعالى يتقلّص خطر زوال الإيمان. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ٱلمُؤمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيهِم ءَايَٰتُهُۥ زَادَتهُم إِيمَٰنا وَعَلَىٰ رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ ﴾[14].
-
تثبيت روح الإخلاص في نفس الإنسان:
إن الحديث مع الله تعالى والقرب منه يعمّق في الإنسان روح الإخلاص، الذي يعني العمل لله بنيّة خالصة. وعندما تتجذّر هذه الحالة لدى الإنسان فإن جميع أعماله يمكن أن تُنوى لله تعالى. ولهذا نجد أن بعض المؤمنين يقومون بتأدية جميع أعمالهم الحياتية اليومية بنيّة التقرّب لله تعالى، بينما بعضهم الآخر لا يستطيع أن يؤدّي حتى أهم الأعمال العبادية كالصلاة قربةً له عزّ وجلّ. والذي يحدث هذا الفارق بين الفئتين هو الدعاء. إن عدم الإخلاص ثقل كبير على روح الإنسان، والدعاء وظيفته أن يضع عن كاهل الإنسان هذه الأغلال ويهبه روح الإخلاص التي تحرّره من كل قيدٍ بما فيها أثقلها وهو قيد الأنا والأنانية: ﴿ هُوَ ٱلحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱدعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ٱلحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَٰلَمِينَ ﴾[15].
-
ترسيخ وتنمية الفضائل الأخلاقية في نفس الإنسان:
من خلال الارتباط بالله تعالى ومناجاته، يقوّي الإنسان الفضائل الأخلاقية في نفسه، وذلك لأن الدعاء يورث الاستئناس بحضرة الباري صاحب كل كمالٍ ، ونتيجةً لذلك يُعدّ الدعاء سلّماً لعروج الإنسان نحو الكمالات. ومن جهةٍ أخرى يزيل الدعاء الرذائل الأخلاقية من نفس الإنسان ويبعدها عن وجوده، فهو يبعد الإنسان عن البخل والتكبر والأنانية والعداء لعباد الله وضعف النفس والجبن والجزع وغيرها من الرذائل. قال الله تعالى ﴿ قَد أَفلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ﴾[16].
-
إيجاد المحبة لله تعالى:
الدعاء يحيي العشق القلبي لله تعالى، وهذا العشق هو مظهر لجميع كمالات الباري تعالى: ﴿ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم ﴾[17]. فالدعاء والأنس والنجوى مع الله تعالى يخلق هذه المحبّة في القلوب.
-
بث روح الأمل والقوّة في وجود الإنسان:
إن الدعاء يعطي للإنسان قابلية التصدّي للتحدّيات التي يواجهها في الحياة، وكل إنسان معرّضٌ لمشاكل الحياة وتحدّياتها، والدعاء يعطيه القوة والقابلية والقدرة على مواجهتها. ولهذا عبّر عن الدعاء في الرواية بأّنه سلاح، فقد نقل عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أّنه قال: “ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، تدعون ربكم بالليل والنهار فإن الدعاء سلاح المؤمن”[18].
إن الاستعانة بالله هو كالسلاح القاطع في يد الإنسان المؤمن، ولهذا فإن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كان يسجد وسط ميدان الحرب رافعًا يديه بالدعاء والتضرّع الشديد، يناجي الله عز وجل ويستمدّ منه العون رغم كثرة انشغالاته وظروف المعركة حيث كان يعبّئ الجيش ويرتّب الصفوف، ويوفّر الإمكانات اللازمة ويشارك بنفسه في القتال. إن هكذا
ارتباط بالله تعالى يبعث القوّة في قلب الإنسان. قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُم فِي ٱلبَرِّ وَٱلبَحرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُم فِي ٱلفُلكِ وَجَرَينَ بِهِم بِرِيح طَيِّبَة وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتهَا رِيحٌ عَاصِف وَجَاءَهُمُ ٱلمَوجُ مِن كُلِّ مَكَان وَظَنُّواْ أَنَّهُم أُحِيطَ بِهِم دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِن أَنجَيتَنَا مِن هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ﴾[19].
-
قضاء الحوائج:
إن إحدى فوائد الدعاء هي قضاء الحوائج التي يطلبها الإنسان من الباري عزّ وجلّ، وقد قال تعالى: ﴿ وَسَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضلِهِۦٓۚ ﴾[20]، كما نقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي المنقول عن الإمام السجاد عليه السلام: “وليس من صفاتك يا سيدي أن تأمر بالسؤال وتمنع العطية وأنت المنّان بالعطيات على أهل مملكتك”[21]. عندما يأمرنا الله تعالى أن ندعوه ونسأله قضاء الحوائج، فهذا يعني أّنه عازمٌ على أن يعطينا ما نريد، ولهذا جاء في الرواي، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: “ما كان الله ليفتح باب الدّعاء ويغلق عليه باب الإجابة”[22].
استجابة الدعاء
وعد الباري تعالى في آياتٍ عديدةٍ من كتابه الكريم باستجابة الدعاء، ومن ذلك ما جاء في الآية الشريفة: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدعُونِي أَستَجِب لَكُم ﴾[23].
فصاحب القدرة الإلهية والرحمة الإلهية والكرم الإلهي أمر بالطلب والدعاء، وتكفّل بتلبيته، وهذا هو الوعد الإلهي الذي صرّحت به الآية الشريفة: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾[24].
فهو تبارك وتعالى قريبٌ من كلّ داعٍ لا يمنعه منه مانعٌ ولا يحول دونه حائلٌ، فلكلّ من يدعو الله، بلا ريب جواب: “لكل مسألة منك سمع حاضر وجواب عتيد”[25].
فلا يمكن أن يناجي الإنسان ربّه ثم لا يأتيه الجواب الإلهي، فلماذا لا نلقى استجابةً لدعائنا أحياناً؟ فهل يمكن أن يخلف الله وعده؟ إن هذا الاحتمال غير واردٍ أبداً لأنه من المحال، فما هو السرّ في عدم تحقق الاستجابة؟
للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نلتفت إلى أمورٍ غالباً ما نغفل عنها:
أولاً: إن الاستجابة لا تعني قضاء الحاجة المطلوبة وفي العاجل، وفي الرواية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان هذه المسألة: “ما من مسلم دعا الله سبحانه دعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلّا أعطاه الله بها أحد خصال ثلَاثة: إمّا أن يُعجِّل دعوته وإمّا أن يدّخر له وإمّا أن يدفع عنه من السّوء مثلها”، قالوا يا رسول الله إذن نُكثِر، قال: “أكثروا”[26].
إنّ الداعي قد يرى في دعائه صلاحاً ظاهراً، فيلحُّ بالدعاء والمسألة، ولكن لو استجيب له، فإنّ الاستجابة قد تنطوي على مفسدة له أو لغيره لا يعلمها إلاّ الله عزّ وجلّ، قال تعالى: ﴿ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيا وَهُوَ شَرّ لَّكُم وَٱللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ ﴾[27]. وعليه فإنّ كان في إجابة الدعاء مصلحة، والمصلحة في تعجيلها، فإنّه تعالى يعجّلها، وان اقتضت المصلحة تأخيرها إلى وقتٍ معيّنٍ أُجّلت، ويحصل للداعي الأجر والثواب لصبره في هذه المدّة.
وإذا لم يترتّب على الإجابة غير الشر والفساد، فإنّه تعالى لا يستجيب الدعاء لسبق رحمته وجزيل نعمته، ولأنّه تعالى لا يفعل خلاف مقتضى الحكمة والمصلحة. وفي هذه الحالة يُثاب المؤمن على دعائه إما عاجلاً بدفع السوء عنه، وإعطائه السكينة في نفسه، والانشراح في صدره، والصبر الذي يسهل معه احتمال البلاء الحاضر، أو آجلاً في الآخرة، كما
يُثاب على سائر الطاعات والصالحات من أعماله، وذلك أعظم درجةً عند الله تعالى، لأنّ عطاء الآخرة دائمٌ لا نفاد له، وعطاء الدنيا منقطعٌ إلى نفاد.
ثانياً: الوعد الإلهي حتميّ بالاستجابة لكلّ من يتوجّه له بالدعاء، ولكن من المعلوم أن لكلّ وعدٍ شروطه، فاستجابة الدعاء لها شروط، فلا يستجاب لدعاء لم يراع فيه الداعي شروط الدعاء ولم يتقيّد بآدابه، فلم يقترن دعاؤه بالعمل، ولم ينبعث من قلبٍ ملتفتٍ صادق، أو لوجود الموانع التي تحجب الدعاء عن الصعود: كأكل الحرام، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الشهوة والهوى وحبّ الدنيا على النفس.. أو لدعاء يتعارض مع السنن الإلهية، وغير ذلك من شروط الاستجابة.
ثالثاً: إن الجواب الإلهي حتمي نتيجة الوعد الإلهي ولكن المشكلة هي أن الإنسان لا يسمع هذا الجواب أحياناً، فلكونه يعيش في غفلةٍ فإنه لا يعلم أن الأمر الفلاني الذي تحقّق هو إجابة لدعائه.
رابعاً: قد تؤخّر الإجابة عن العبد المؤمن لزيادة صلاحه وتعظيم منزلته عند الله عزَّ وجلّ، وتؤخّر إجابته لمحبّة سماع صوته والإكثار من دعائه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الله ليتعهّد عبده المؤمن بأنواع البلاء، كما يتعهّد أهل البيت سيّدهم بطرف الطعام، قال الله تعالى: وعزتّي وجلالي وعظمتي وبهائي إنّي لأحمي وليّي أن أعطيه في دار الدنيا شيئاً يشغله عن ذكري حتى يدعوني فأسمع صوته، وإني لأعطي الكافر منيته حتى لا يدعوني فأسمع صوته بغضاً له“[28].
التمارين
ضع إشارة û أو ü في المكان المناسب:
1 – جوهر العبادة هو تحقيق الارتباط والعلاقة بين الخالق والمخلوق لتحقيق كمال العابد
2 – الدعاء هو الوسيلة التي تُحقّق غاية العبادة بالارتباط بين الخالق والمخلوق وطلب الحوائج من الله تعالى والرغبة إليه
3 – لا يؤثّر الدعاء في حركة الإنسان نحو خالقه ولا فاعلية له في الوجود والحياة
4 – ركيزة الدعاء هي اعتراف العبد باستغنائه المطلق عن الغني المطلق وهو الله سبحانه وتعالى
5 – من أهم فوائد وآثار الدعاء إحياء ذكر الله في القلوب، وتقوية وترسيخ الإيمان في قلب الإنسان
6 – يؤدّي الدعاء إلى تقوية روح الإخلاص في الداعي التي تُقيّده بكلّ قيدٍ بما فيها قيد الأنا والأنانية
7 – استجابة الدعاء أمرٌ حتميٌّ وهو وعد إلهي تكفّل به صاحب القدرة الإلهية والرحمة الإلهية والكرم الإلهي
8 – استجابة الدعاء تعني قضاء الحاجة المطلوبة في العاجل
9 – الدعاء المُستجاب هو توجّه الداعي بقلبه إلى الله تعالى منقطعاً عن جميع الأسباب
10 – يُمثّل الدعاء موسوعة معرفية كبيرة في المعارف الإلهية في الموضوعات العقائدية فقط
المفاهيم الرئيسة
-
جوهر العبادة هو تحقيق الارتباط والعلاقة بين الخالق والمخلوق، والدعاء هو أوسع أبواب ذلك الارتباط وتلك العلاقة، طالما أن هدف العبادة تحقيق الرابطة الحقيقية التي ينبغي أن تكون بين العبد وربه، على أساس اعتراف العبد باحتياجه المطلق إلى الغني المطلق وإقراره بفقره وفاقته وعجزه ولا شيئيته أمام المالك الذي لا ينفد ملكه وسلطانه.
-
الدعاء هو علّة ضمن سلسلة العلل والعوامل، وهو ليس نقضاً لهذه السلسلة ولقانون العلّية في الخلق.
-
أهمية الدعاء ناتجة عن موقعه الأساسي من العبادة، ومن أبعاده الأساسية: العلاقة والارتباط بالله، المعرفة، طلبُ الحوائج من الله تعالى والرغبة إليه.
-
فوائد وآثار الدعاء كثيرةٌ منها: إحياء ذكر الله في القلوب، تقوية وترسيخ الإيمان في قلب الإنسان، تثبيت روح الإخلاص في نفس الإنسان، ترسيخ وتنمية الفضائل الأخلاقية في نفس الإنسان، إيجاد المحبة لله تعالى، بث روح الأمل والقوّة في وجود الإنسان، قضاء الحوائج.
-
استجابة الدعاء أمرٌ حتميٌّ، فصاحب القدرة الإلهية والرحمة الإلهية والكرم الإلهي هو من أمر بالطلب والدعاء، وتكفّل بتلبيته، فالاستجابة وعدٌ إلهيٌّ.
-
إن الاستجابة لا تعني قضاء الحاجة المطلوبة في العاجل، واستجابة الدعاء لها شروط، والجواب الإلهي حتمي ولكن المشكلة هي أن الإنسان لا يسمع هذا الجواب أحياناً، وقد تؤخّر الإجابة عن العبد المؤمن لزيادة صلاحه وتعظيم منزلته.
-
الدعاء مستجاب إذا أخلص الداعي في إتيان آدابه وشروطه، وتوجّه بقلبه إلى الله تعالى منقطعاً عن جميع الأسباب.
للمطالعة
الدعاء سبب السعادة
من يشعر بالارتباط بالله فهو سعيد، لأنّ عمدة مصائب الإنسان إما من الإحساس باليأس والذل والوحدة والضعف، وإما من الطغيان، وإن شقاء وتعاسة أكثر الشعوب والأمم والمجتمعات والأفراد هي من العجز والضعف، وعدم وجود الناصر والمعين، والوحدة والغربة المطلقتين، فارتباط الإنسان بالله معناه الارتباط بمركز القدرة والعلم، فهو ليس وحيدًا إن كان الله معه: يا عون من لا عون له، يا رجاء من لا رجاء له، فلو كنتم في قلب العدو لكنكم تؤمنون بوجود وسيلةٍ عندكم يمكنكم الارتباط والاتصال بها في لحظة واحدة فتحميكم من العدو، فهل تشعرون في هذه الحالة بالخوف والضغط عليكم؟
وهذا إحساس من يعتقد ويرتبط بالله، وقد جرّبنا ذلك في سجون الطاغوت، فقد كان معنا سجناء شيوعيون أو سجناء لم يؤمنوا بشيء أبدًا، لقد يئسوا وأصبحت الحياة عندهم مرّةً وأُصيبوا بأنواع الأمراض الروحية، وأما المؤمنون من السجناء فلم يكونوا هكذا، إنّني كنت أتألّم لهؤلاء المساكين، إنّنا عندما تضيق صدورنا، عندما نخاف فنتكلّم مع الله، لكن من لا يملك الإيمان فهو شقي وتعيس.
والعامل الثاني: هو الطغيان والاستكبار، إن الارتباط بالله يمنع الإنسان من الطغيان والاستكبار، ومن يرتبط بالله وإن كان قويًا ويشعر بالقوة لكن يعلم أن هذه القوة ليست من ذاته، بل من الله.
فالاستكبار والطغيان والغنى عن الله سببها عدم ارتباط الإنسان بالله، وتصور الإنسان أن القوة الظاهرية منه، والثروة الظاهرية ملكه، ولا يتصوّر أنه يمكن أن تزول في لحظة واحدة.
فإن دعا الإنسان ربه وشعر بالارتباط فلا يصاب بالضعف والانكسار، ولا بالطغيان والاستكبار، فببركة الدعاء يمكن بناء مجتمعٍ مؤمنٍ متكاملٍ ومرتبطٍ بالله[29].
[1] علي موسى الكعبي، الدعاء حقيقته وآدابه وآثاره، ص9.
[2] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج90، ص300.
[3] سورة فاطر، الآية 15.
[4] سورة غافر، الآية 60.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص467.
[6] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص31.
[7] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج90، ص294.
[8] سورة الذاريات، الآية 56.
[9] سورة الفرقان، الآية 77.
[10] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص32.
[11] سورة غافر، الآية 60.
[12] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج84، ص277.
[13] سورة الرعد، الآية 28.
[14] سورة الأنفال، الآية 2.
[15] سورة غافر، الآية 65.
[16] سورة الأعلى، الآيتان 14-15.
[17] سورة الحج، الآية 35.
[18] الشيخ الكليني، الكافي، 2، ص468.
[19] سورة يونس، الآية 22.
[20] سورة النساء، الآية 32.
[21] الشيخ إبراهيم الكفعمي، المصباح جنة الأمان الواقية وجنة الايمان الباقية، ص588 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت، 1403 – 1983م، ط 3.
[22] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص27.
[23] سورة غافر، الآية 60.
[24] سورة البقرة، الآية 186.
[25] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج83، ص58.
[26] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج7، ص27.
[27] سورة البقرة، الآية 216.
[28] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج90، ص371.
[29] الإمام الخامنئي دام ظله في خطاب له بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، 1 رمضان 1414 ه طهران.
2019-07-03