الحفظ من الشرور ببركة سورة الرحمن .. سورة الرحمن عروس القرآن
14 ديسمبر,2017
القرآن الكريم, صوتي ومرئي متنوع
2,042 زيارة
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
(الرّحمن * علّم القرآن * خلق الإنسان * علّمه البيان) (سورة الرحمن، الآيات: 1 ـ 4)
الحفظ من الشرور ببركة تلاوة سورة الرحمن:
تعد سورة الرحمن من السور المكية، أي انها نزلت في مكة المكرمة، وتشتمل على ثمان وسبعين آية، جميعها مكي باستثناء آية (يسأله من في السماوات والأرض) إذ قيل عنها أنها مدنية.
وقد جاءت روايات كثيرة تؤكد أهمية وعظمة هذه السورة، نذكر بعضها على سبيل التبرّك مما أورده صاحب تفسير مجمع البيان، فقد روي أن من قرأ سورة الرحمن في ليلته، أوكل الله تعالى به ملكين يحفظانه حتى يصبح، ومن قرأها صباحاً، أوكل الله به ملكين يحفظانه حتى يمسي.
شمول قارئ سورة الرحمن بالرحمة:
وفي رواية أخرى عن نبينا الأكرم (ص) أنه قال: إن إخوانكم الجن لأحسن استماعاً إلى سورة الرحمن منكم (لأنهم سكتوا ولم يردوا بشيء عندما تلى الرسول (ص) هذه السورة على مسلمي الأنس وذكر قوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان) في حين أن الجن رددوا عقيب هذه الآية قائلين (لا بشيء من آلائك ربِ نكذب) وهم يعنون بردهم هذا الذي جاء بعد استماعهم للسؤال الرباني الذي يستنطق الجن والأنس، أنهم قد اقرّوا بالتصديق والأيمان بكل نعمة أنعمها الله عليهم) وهناك قال النبي (ص): فقولوا انتم أيضاً بمثل مقالتهم. وقد ورد عن النبي (ص) انه قال: إن من قرأ سورة الرحمن ثم قال عقيب قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ذلك القول (أي لا بشيء من آلائك رب اكذب) ثم مات في يومه ذاك، فقد مات شهيداً. بل أن قارئ سورة الرحمن يكون في قراءته لكل آية من آي السورة الكريمة قد أدّى الشكر على حق النعم الإلهية ويزيده تعالى من الفضل أن يرحم ضعفة (لأن الإنسان في واقع حاله ضعيف ممتلئ بالضعف من أُم رأسه وحتى أخمص قدميه، فهو في حاله هذا أَمَسُّ ما يكون إلى نيل الرحمة الإلهية سواء كان ذلك في دنياه أم في برزخه أو في عالم الآخرة. هذا الضعف الملازم للإنسان والذي يبرز واضحاً عندما يواجه الإنسان أعداءه الداخليين أو الخارجيين في عالم الدنيا، وكلنا يعلم مقدار ضعف الإنسان في أحوال موته وقبره واجتيازه للصراط. فهو ضعيف ولا يملك إلا ان يكون محتاجاً في حاجته وفاقته إلى الله (عز وجل)، لذلك كان الله في موضع الرحمة والرأفة لقارئ سورة الرحمن كما هو أمل ورجاء العبد في ربه تعالى).
بياض وجه قارئ سورة الرحمن، وقبول شفاعته:
وقد ورد عن الإمام كشاف الحقائق جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) أنه قال: (لا تدعوا قراءة سورة الرحمن والقيام بها وفي رواية أخرى: واقلّها مرة في الأسبوع (وقد ورد في قراءة هذه السورة أيام الجمع ان فيه استحباباً مؤكداً)، فأنّها لا تقر في قلوب المنافقين (ولعل المقصود من ذلك، أن المنافق لا يحصل له التوفيق في المداومة على قراءة هذه السورة)، ويؤتى بها في يوم القيامة في احسن صورة وأطيب ريح حتى تقف من الله تعالى موقفاً لا يكون أحد أقرب إلى الله منها، فيقول الله تبارك وتعالى: من ذا الذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا ويدمن قراءتك؟ فتقول: يا رب فلان وفلان، فتبيّض وجوههم، فيقول لهم: اشفعوا فيمن أحببتم، فيشفعون حتى لا تبقى لهم غاية ولا أحد يشفعون له، فيقول لهم: ادخلوا الجنة واسكنوا فيها حيث شئتم)[1].
إذاً يُخوّل قارئ السورة بالشفاعة للآخرين فينقذهم من أليم العذاب إن كانوا مسيئين، ويرقى بهم في رفيع المنازل والدرجات فيما لو كانوا محسنين، فتأملوا أيها الأعزاء عظمة مقام الشفيع، فالقرآن يُشّفع بمن تلاه وقارئ القرآن يُشفّع بمن أحب، وقد ورد في الروايات (أن القرآن يجيء في يوم القيامة على هيئة البشر فيّنطق ويَشفع). ولعل البعض تتملكه الدهشة والاستغراب من ذلك، فنقول ينبغي أن لا نستبعد مثل هذه المسائل لأن موجودات عالم الآخرة تختلف عن موجودات عالمنا الدنيوي، فبعض موجودات هذا العالم هي من الأعراض ولكنها تتمثل في عالم الآخرة على صور وهيئات معينة باعتبار عدم امتناع أو صعوبة مثل هذه الأمور في قبال قدرة الله (عز وجل) وعلمه.
تحقق الجمال اللفظي:
وتشتمل هذه السورة المباركة على ذكر الآلاء والنعم الإلهية المتمثلة بجميع صورة اللطف والرحمة وعجائب الإبداع والخلق، إذ يجدها القارئ تستعرض كل ما هو جمال في جمال وعندما يحين موعدنا مع غد الآخرة نجد جميع صورة صور الجمال التي تستعرضها الآيات في قوالب الألفاظ قد تجسدت على أشكال وأمثال بقدرة الله تعالى.
والسعيد حقاً هو ذلك الإنسان الذي يُصغي إلى مسألة من مسائل الآخرة ثم لا يجد في نفسه القدرة على هضمها بعقله فلا ينكرها على أية حال، لأن حقيقة الإنكار تنبع من الجهل وتنشأ عن ضحالة وسطحية التفكير، ولكن وبقليل من التأني وشرح الصدر لمثل تلك الأمور، والعمل على تدبرها يجد المرء نفسه مستعداً لقبولها، باعتبار انتقاله من مستوى الإدراك في عالم المادة ومغادرة رحم عالم الطبع إلى مستوى العقل والإدراك في عالم المعنويات والمثل وبذلك يتهيأ له قبولها باعتبارها أموراً عادية لأن عالمي البرزخ والقيامة تتجسد فيهما جميع الملكات والأعمال على صورها الحقيقية وهيئاتها الملكوتية، فتتجلى بمظاهر حسان ان كانت ملكاتٍ حسان، وتتجسد بصورة مشوهة ودميمة (والعياذ بالله) فيما لو كانت رذائل وأعمالاً قبيحة فتصدر عنها روائح نتنة تزكم الأنوف لفرط قبحها، بينما تفوح من الملكات الحسان أطيب الروائح وأكثرها شذى لما فيها من حّسن وصلاح. إذاً حقيقة هذا العالم ما هو إلاّ أنموذج لما سيكون عليه ذلك العالم.
ضُمرة، وعاقبة هزوءة بالحديث النبوي:
ومما جاء في كتاب بحار الأنوار في تأييد ما تعرضنا له، ان جماعة حضرت مجلس الإمام الرابع من أئمة أهل البيت الإمام زين العابدين (ع)، فسأل أحدهم الإمام (ع) أن يحدثهم بحديث شريف، فتردد الإمام (ع) في ذلك كارهاً وقال: إن لم نحدث قالوا بخلوا، وان حدثناهم ردّوه علينا واستهزأوا به، فقال بعض من حضر: ومن ذا الذي يتجرأ على حديثكم بالهزو والسخرية؟ نحن كلّنا آذان صاغية لما تحدثونا به لا نرّد منه شيئاً.
فقال الإمام (ع): حدثني أبي عن جدي رسول الله (ص) انه قال: لا يفارق المرء هذه الدنيا ويُشيِّع الأهل والأصحاب جنازته حتى تأتي روحه وتحوم حول جنازتها ثم تولّي بوجهها صوب الأهل والأولاد والأحبة تناديهم: إياكم أن تخدعكم هذه الدنيا بغرورها كما خدعتني وجعلتني اجمع المال الحرام إلى الحلال، فكانت عاقبته ان صار نفعه لغيري ووزره عليّ، فأرفقوا بي وتمهلّوا، ولا تستعجلوا بي إلى قبري.
فقال حينئذ ضمرة المنافق مستهزئاً: أو ينطق الأموات؟! (ففي ظن ذلك الأحمق ان النطق يصدر عن الجسد المسجى في النعش، وفي انكاره هذا دليل على ضحالة تفكيره وجهله) فقال الإمام السجاد (ع): اللهم إن كان ضمرة قد رام الهزو من حديث رسولك، فأذقه العذاب وانتقم منه. ولم تمض أيام حتى مرض ضمرة مرض الموت، وفارق عالم الدنيا بعد مرور أربعين يوماً من حادثة هزوه بالحديث النبوي، فجاء أبو حمزة الثمالي إلى الإمام زين العابدين وأخبره خبر المعلون وكيف أنه مات، يقول أبو حمزة: حضرت جنازة ضمرة ولما أرادوا أن يدخلوه في قبره، بادرت بالنزول إلى قبره لكي أضع خده على التراب، فما أن أزحت الكفن عن وجهه حتى سمعته يقول (الويل لضمرة فأن مأواه النار).
وبالطبع أن هذه المشاهد ما هي إلاّ صور من اللطف الإلهي الذي يشمل حال بعض الأعزاء من أمثال أبي حمزة الثمالي كيما يترسخ اعتقادهم ويقوى، فتصل ندبة روح ضمرة عبر بدنه المسجى إلى مسامع أبي حمزة. إذاً الروح هي التي تحرك البدن وأعضائه باعتباره آلة وأداة فيتحرك البدن وينطق ويسمع.
ولنعد الآن إلى موضوعنا فنقول:
علو المنزلة في كثرة التلاوة:
وما الترغيب والتشجيع في حقيقته إلا دافع للإنسان نحو مواصلة قراءة القرآن، وخصوصاً هذه السورة الكريمة موضع بحثنا، يقول الله تعالى في كتابه المجيد (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) (سورة المزمّل، الآية: 20). والميسور منه هو ما يكون جزءاً أو حزباً أو سورة واحدة، مع ان كثرة قراءة القرآن في ذاتها ممدوحة ومستحبة لمن اشتغل بها دون ما يشغله عنها، وقد قيل عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) انه كان يختم القرآن مرة كل ثلاثة أيام وكان يقول لو شئت لختمته في اقل من هذا ولكني ابغي التأني طلباً للتدبر في آياته. وهذا ما يؤكده قوله تعالى (ورتّل القرآن ترتيلاً) (سورة المزمل، الآية: 4). وكثرة تلاوة القرآن ترفع درجات القارئ في القيامة، ففي القيامة يُقال للمرء اقرأ وأرقى، وهذا يعني ان منزلة الإنسان تتصاعد تبعاً لكثرة ما يقرأه من القرآن، بل ان بعض الروايات تؤكد على ضرورة عدم التفريط بالمداومة على ما حفظه المرء من سور القرآن الكريم، لأنه سيقف يوماً ما وقد رقى في درجاته ومنازله عند منزلة معينة فيبصر المنزلة والدرجة الأرفع فيقال له أن تلك الدرجة هي درجة السورة الفلانية التي لم تتعاهدها ونسيتها، فالقرآن كله من عند الله تعالى وهو كلامه المجيد ولكن تبقى لكل سورة ميزة تمتاز بها عما سواها من السور كما أن لكل وردة عطر تمتاز به على مثيلاتها، فمثلاً سورة يس هي قلب القرآن، وسورة الرحمن عروس القرآن، وهكذا في سائر سور القرآن. وفي حديثنا عن سورة الرحمن موضع البحث فإننا قد أشرنا إلى بعض خصائص المداومة على قراءتها والآثار المترتبة على قارئها.
[ 2 ]
سورة الرحمن عروس القرآن:
نقل تفسير مجمع البيان وغيره من كتب التفسير ان الإمام موسى بن جعفر (ع) روى عن آبائه الكرام، عن أمير المؤمنين (ع)، عن الرسول الأكرم (ص) انه قال: لكل شيء عروس، وسورة الرحمن عروس القرآن.
والعروس لغةً: هي صفة يشترك فيها الذكر والأنثى، وهي كناية من وصول الشخص إلى أقصى درجات السعادة ومنتهى مراتب السرور في ساعة تعدّ من أفضل وأحسن ساعات العمر وبتعبير آخر، العروس هو الشخص الذي يرفل في السعادة والنعيم التاميّن. ولذلك قيل لليلة الزفاف (ليلة العرس)، لأن ليلة الزفاف هي أفضل وأسعد أوقات المرء، ففي تلك الليلة تساق الفتاة إلى منزل الزوج بكل خيلاء وتبجيل محفوفة بالتكريم والتجليل ثم يصار بها إلى مخدع الزوجية بكل حفاوة وبهجة، فتجد العروس في ساعاتها تلك كل مظاهر الإعزاز وآيات الحب والأنس وقد جاء جميع الأحبة والأهل بأبهى زينة وأجمل لباس وقد تسابقوا إلى نيل شرف خدمة عروسهم العزيزة.
من ذلك المثال الحي نجد وجه الشبه في تسمية سورة الرحمن بعروس القرآن، فجميع آيات وسور القرآن تتلألأ وقد اعتمرت بمظاهر الزينة والبهجة والنعيم وهن يُحطِن سورة الرحمن المباركة التي قد ضمت في كنفها صور النعم والآلاء ومظاهر اللطف الرباني وألوان النعيم والسرور وعجائب الخلق والابداع والانشاء الإلهي الذي منّ به الله عز وجل على الإنسان في دار الدنيا أو ما سيجده العبد الصالح في غده الآتي الذي سيخلد فيه بعد أن ينتقل إلى دار الآخرة عبر قطار الموت، ثم يذكّر الله عز وجل عباده بعد أن يستعرض لهم نعمه عليهم فيقول (جل جلاله): (فبأي آلاء ربكما تكذبان) تذكيراً منه تعالى بعظيم نعمه وجليل آلائه، فتبدو هذه السورة وقد حملت في كنفها الوجه الواقعي للزينة.
عباد الرحمن، عروس عالم الوجود:
وقد ذكر بعض العلماء هذه النقطة اللطيفة التي تفيد أن عباد الرحمن هم عرائس عالم الوجود كما ان سورة الرحمن عروس القرآن، لأن المرء عندما يصير عبداً للرحمن حقاً، يكون قد صار سيداً وعزيزاً وزيناً للخلائق، فالأرض تنتشي وتمتلئ فخراً وسروراً لأن عبد الرحمن قد حمله ظهرها، وفي رواية عندما ينزل العبد المؤمن في قبره تقول له الأرض (بالطبع ان الذي يتحدث هو ملكوت الأرض) يا مؤمن والله اني كنت لأحبك وأنت تمشي على ظهري وكان الفخر يملؤني بذلك ولطالما تمنيت أن أضمك إلي بين أحضاني.
وعندما ينزل بالفاسق أو الكافر إلى قبره تقول له الأرض: يا عدو الله، والله اني كنت لأبغضك وأنت تمشي على ظهري ولطالما تمنيت أن أضمك وأضغطك فأحشرك كحشر المسمار في الجدار.
عباد الرحمن قبلة أنظار الموجودات:
فكما ان العروس في ليلة زفافها محط أنظار الناس المتجمهرين حولها، فعباد الرحمن يصبحون قبلة تجيل النظر إليهم جميع موجودات العالم، بل ويتعدى ذلك بحيث يصبح ملكوت جميع الموجودات خاضع لعباد الرحمن لأنهم أدّوا حق العبودية لله عز وجل، تلك العبودية التي تشتمل على المعاني الحقيقية للسلطان والملك الواقعيين، فيصير عبد الرحمن سلطاناً لتلك الموجودات، ولما نقول شواهد كثيرة نعزف عن ذكرها ابتغاءً لطلب مواصلة الشرح والتفسير.
الوقوف بوقار وحضور قلب على بساط الرحمن:
ومن يرقب العروس في ليلة عرسها عن كثب يجدها تنقل خطاها وئيداً بكل وقار واختيال، وهو عين حال عباد الرحمن الذين يصف المولى عز وجل نقل خطاهم على الأرض قائلاً: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) (سورة الفرقان، الآية: 63). وأحد معاني الهون هو الوقار والسكينة، فهم يمشون على بساط الرحمن بكل طمأنينة ووقار وسكينة وراحة بال، ويتحركون وقد استحضروا الله عز وجل في كل خطوة يخطونها، فهم لا يستكبرون ولا يتبخترون في مشيهم لأن ذلك من دأب الجهال الذين تخدعهم المناصب والثروات فينسون الله ويفقدون لذة ذكره تعالى. ووضوح هذا الأمر لا يخفى على اللبيب لذلك لا نرى حاجة تدفعنا لبسط القول فيه. وهناك من يقول انه معنى كلمة (هون) هو التواضع فيكون معنى الآية ان عباد الرحمن ينقلون خطاهم على الأرض بكل تواضع، ولو رماهم الجاهلون بالقول القبيح لما ردوا عليهم بمثله، بل لاكتفوا بقول سلام لكم منّا فنحن لا نروم لكم الفحش أو الأذى فهذا هو شأن عروس عالم الوجود تترفع عن الجهال ولا ترد عليهم إلاّ بالقول المليح الذي يخجل الطرف المقابل، لأن الرد بفاحش القول انما هو من دأب عباد الشيطان الذي قد يرون على الاساءة بما هو اكبر منها، بل ويجدون متعتهم في إلحاق الأذى والضرر بالآخرين.
قبور عباد الرحمن مخادع عرس:
وعندما يكون خلق العباد الأبرار على تلك الصورة تكون قبورهم مخادع عرس لهم، فقد روي ان العبد بعد ان يجيب على مسائلة الملكين في قبره ويفصح عن عقائده الحقه، يقال له (نم نومة العروس) أي نم نومة ليلة الزفاف وأرفل بالمتعة واللذة والارتياح. ثم يضاء القبر وتتلألأ الأنوار في مخدع العرس كما تصرح بذلك الروايات، فيسطع نور من جناحه الأيمن، ويسطع نور من جناحه الأيسر، يسطع آخر من فوقه، وآخر من تحت قدميه ويسطع نور آخر من أمامه، فأما ما يسطع عن يمينه فهو نور صيام العبد، وما يسطع عن يساره فهو نور حجه، وما يسطع من تحت قدميه فهو نور زكاته، وأما النور الساطع من امام العبد فهو نور ولاية آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) يقول الشيخ الطريحي في كتابه مجمع البحرين، ان العلة الكامنة وراء قول الملائكة للمؤمن الميت (نم نومة العروس) لأن العروس ترفل في ليلة عرسها في افضل وأحلى النعم، والمؤمن الميت حاله في قبره هكذا، اذ تقدم عليه أرواح المؤمنين لاستقباله ويحتفون به فيتلاقفه الواحد تلو الآخر كمن يتلاقف الورد، وهنا نستشهد بهذه القصة التي تفيد مقالنا هذا.
الاحتفال بقدوم المؤمن إلى عالم البرزخ:
كان قد تعاهد رجلان من العلماء فيما بينهما أن يسارع الذي يبكر بالرحيل منهما إلى عالم البرزخ بالاتصال بالآخر عن طريق الرؤيا ليخبره عن مشاهداته في عالم البرزخ، بعد ذلك فارق أحدهما العالم الفاني ورحل إلى العالم الآخر، فمضت مدة من الزمان إلى أن شاهد الآخر صاحبه في عالم الرؤيا، فعاتبه على جفائه له طيلة تلك المدة، فأجابه الميت قائلاً: لقد كنت مشغولاً في حفل كبير غُمْرنا فيه بألوان البهجة والانشراح والمتعة. فرد عليه صاحبه قائلاً: ولأي شيء كان ذلك الحفل؟، فأجابه: لعلك لم تدرِ ان الشيخ الأنصاري قد ترك عالمكم الفاني وأقبل علينا، فلقد عقدنا له مجلس ترحيب لأربعين يوماً بلياليها.
[ 3 ]
عنوان موضوعات القرآن، بسم الله:
تعد عبارة بسم الله الرحمن الرحيم الواردة في مفاتيح سور القرآن الكريم جزءاً من تلك السور طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) وحسب آراء اكثر الفقهاء، بل وتتعدى ذلك إلى أن يأتي بها المصلي في افتتاح السورة التي تلي سورة الحمد بنيّة انها تختص بالسورة الفلانية احتياطاً.
وهي أول آية من آيات الكتب السماوية التي نزلت، وهي أيضا ًأول عبارة أُلقي بها إلى آدم أبي البشر (ع) وهي أُولى آيات القرآن الكريم وبها افتتح القرآن الكريم عنواناً، وبهذا الشأن أورد المحقق النيشابوري في تفسيره قصة لطيفة يقرب فيها معنى ان آية بسم الله الرحمن الرحيم هي عنوان الكتاب المجيد، يقول النيشابوري:
واجهة القصر الجميلة، والعطاء القليل:
مرّ فقير يوماً بقصر ذي بوابة عظيمة وواجهة رائعة فقال في سرّه: ان هذه الواجهة لتعرب عن أن صاحب هذا القصر أحد الأشراف أو الأغنياء، فلأناديهم بفقري واسألهم بسد فاقتي وحاجتي لعليّ اصلح أحوالي، فشرع يناديهم بحاجته ويقول ارحموا البائس الفقير، فجاؤوه بكسرة خبز يابسة، فنظر إليها واليهم ثم لم يلبث أن تركهم هنيهة ثم عاد يحمل معولاً فنزل يضرب البوابة بالمعول، فصاحوا به: ويحك ما الذي دهاك يا هذا؟ فأجابهم: دعوني اهدم هذه البوابة المشؤومة لأنها تعلن كذباً عن ان صاحب هذا القصر المنيف ما هو الاّ امرؤ عظيم والحال ان صاحبه لا يعدو ان يكون ذا فاقة، فناشدوه الكف عن الضرب بالمعول وما زالوا يلحون عليه حتى قال لهم: ما يكون ما تريدون حتى تزيدوني في عطائي!!
ويضرب المحقق النيشابوري بهذه القصة مثلاً على واجهة القرآن الكريم في آية بسم الله الرحمن الرحيم، فهذه الواجهة تعرب عن كونها مدخلاً إلى الرحمة الإلهية وتنطق بلسان الحال قائلة: تعالوا واسألوا الله برحمته الرحمانية والرحيمية، فمن ذا الذي اقبل بوجهه إلى رحمة الله تعالى وهو يشكو له ما به من الضر فلا يجد لنفسه حينها الدواء الناجع لضره؟
بسم الله، تزيل الأحزان وتحل المعضلات:
ويروى ان من أصابه الحزن لعارض يعترضه أو مصيبة ثم يقول بسم الله الرحمن الرحيم مستيقناً بالله راجياً لرحمته، يمن عليه الله تعالى بأحد أمرين، فأما أن يعطيه مسألته، واما ان تكون الإجابة فيها ما يعارض صلاح العبد فيعوضه الله تعالى بأن يهبه من فضلة ما يشرح به صدر عبده. ولعل الرواية الواردة عن الإمام علي الرضا (ع) التي تقول (بسم الله الرحمن الرحيم اقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها) غير خافية على الكثيرين منّا، فنحن نعرف ان النطق باسم الله الأعظم يفتح جميع الأبواب الموصدة، إذاً فما يمنعنا عن حل مشكلاتنا ونيل الرخاء بعد الشدائد من استعمال بسم الله الرحمن الرحيم هذه الآية التي تطرد الشياطين بمجرد النطق بها.
الاستعانة بالله أحد آثار فهم معنى بسم الله:
وما يهمنا هنا هو حقيقة ومعنى بسم الله باعتبار شدة قربها من الاسم الأعظم فالباء في (بسم الله) هي باء الاستعانة، فيكون معنى بسم الله (بعون اسم الله) ويعظم اثر حقيقة بسم الله عندما يدرك قائلها بما يملك من علم وسلوك أنه قد استيقن ان العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة بدون عون الله لأن المرء لا يمكنه أن يبتدع شيئاً من نفسه، بل ان الإنسان لا يملك حتى نفسه التي بين جنبيه، مع ان اسم الله لوحده لا يقدم عملاً أو يؤخره بدون ارادة الله تعالى في تقديم العون المنشود لعبده، فكم من خارج من داره لم يعد لها ثانية؟ وكم من مشيد بناء لم يتم بناءه؟
إذاً لو أدرك العبد حقيقة بسم الله فسيجد ان حالة الاستعانة والتوجه إلى الله قد حصل عنده، فهو عندما يقول في صلاته بسم الله انما يعني انه يقول بسم الله أقرأ وافتح، وبسم الله اعمل وانطلق وأقول، لأنه يعلم يقيناً أنه لا استقلالية له البتة.
يقول الإمام الحسن العسكري (ع) عن معنى بسم الله (تقول بسم الله أي استعين على اموري كلها بالله)[2] إذاً علينا ان ندرك هذه الحقيقة بحيث تصبح لدينا ملكة وسلوكاً دائماً نفهم مع كل بسم الله نقولها أننا قد استيقنا عجز ذواتنا وسائر الأشياء دون إرادة الله تعالى ومشيئته، بل إن المصباح المضي لا يضيء بذاته أو بذات وقوده النفطي أو الزيتي أو الكهربائي وإنما تحصل إضاءته وفق إرادة الله عز وجل، وان حركة ووجود وبقاء كل موجود انما يتم وفقاً لإرادة الله تعالى. فهذا الحال لو تملك العبد فصدر سلوكه وفق هذا الأساس فسيدرك معنى المسكنة والعبودية الدائمة لله عز وجل الذي ينبع من علمه بحقيقة ومعنى بسم الله.
أَسِمُ على نفسي سمة العبودية:
وقد نقل عن الإمام الرضا (ع) معنى قول بسم الله فقال أسِمُ على نفسي بسمة من سمات الله وهي العبادة، يقول الراوي فقلت يا بن رسول الله (ص) وما السمة؟ قال: هي العلامة). وعلى هذا الأساس يكون معنى بسم الله لقائلها انه يسم نفسه بسمة العبودية لله عز وجل لانه قد ختم قلبه بخاتم العبودية الكاملة لله تعالى معرباً عن عجزه وانكساره وضعفه وأن لا عصمة له إلا بالله وحده. بينما نرى أن الجنس البشري يتهافت منذ القدم في دعوات الربوبية والاستقلالية فيزعم مكابراً انه قام بفعل العمل الفلاني، وابدع الأمر الفلاني وانه سيفعل كذا وكذا، ولولاي لم يكن الأمر الكذائي وما إلى ذلك من المزاعم والادعاءات التي تقف على طرف النقيض من عبارة بسم الله التي لا يفتأ المرء من ترديده إياها لأنه انما ينطق بها باللفظ دون ادراك وجهها الحقيقي وعليه فلا يستغرب من عدم ترتب الأثر على النطق بها، لأن الجسد الذي تفارقه الروح لا قيمة له، بينما تكمن القيمة الحقيقية بسم الله عندما يتعين مكان وجودها في الروح الإنسانية فيحصل حينذاك على تجلي فيوض آثارها.
إشغال القلب بذكر الله:
وعن رسول الله (ص) في صدد اسم الله الأعظم حينما سئل عنه أي شيء يكون؟ قال (ص) (اقطع القلب عما سواه وقل يا الله)[3]، ومعنى ذلك ان ينقطع الإنسان عن الغير تماماً ـ إلى الله وحده، وهي تمام التوكل على الله والاستعانة الحقيقة به، وعن صحة وقبول عمل الإنسان ينبغي أيضاً أن يكون العمل بالصورة التي لا يرى فيها العبد سوى الله وحده حينئذ يمكن الوصول والحصول على اسم الله الأعظم، لأن ما سيدركه الإنسان في اسم الله عز وجل سيكون هو بذاته الاسم الأعظم، ولو حصّل الإنسان جميع الشرائط والأسباب اللازمة للوصول إلى اسم الله الأعظم ثم لم ينقطع إلى الله وحده فليعلم انه لن يتيسر له أبداً ان ينتهل من حقائق وآثار الاسم الأعظم.
احترام اسم الله يوجب شمول الوالدين بعفو الله ورحمته:
وينقل عن الإمام أمير المؤمنين (ع) ان من وجد كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ملقاة على الأرض فرفعها احتراماً وتعظيماً لكلام الله واسمه الكريم منّ الله على والديه بالراحة فيما لو كانا في شدة ونصب، وانعم عليها بفيوض الروح والريحان ان كانا في راحة وثواب، وفوق ذلك كله يدرجه الباري تعالى في الصديقين[4].
لذلك وجب علينا ان نهتم بهذا الأمر الذي كثر حصوله في زماننا هذا نتيجة كثرة الصحف والمجلات والاعلانات التي تحمل كلام الله تعالى واسماءه الكريمة التي نراها ملقاة في الأزقة والشوارع فنسارع إلى رفعها وازاحتها عن سبيل المارة لئلا تسحقها الأرجل اجلالاً وتعظيماً لأسماء الله وآياته، فنحصل بعملنا ذلك على النفع والرحمة.
[1] تفسير سورة نور الثقلين (ج5، ص187).
[2] تفسير الإمام العسكري (ع) (ص5).
[3] لآلئ الأخبار.
[4] الكبريت الاحمر، للبيرجندي.
#القدس_ستحرر 2017-12-14